السوريون ينتفضون ضد النظام مجدداً: تحركات ضد التجويع

هبّ سوريون، جنوبي البلاد وشمالها، منذ 15 أغسطس/آب، في تحركات شعبية ضد التجويع، يراها المراقبون الموجة الثانية لثورة آذار/مارس 2011، احتجاجاً على سياسة التفقير والإذلال التي فجّرها سحب الدعم عن المحروقات ورفع أسعار الغذاء في المؤسسات الحكومية، قبل أن تتطور للمطالبة بإسقاط النظام وذلك بعدما تعدّت تكاليف معيشة الأسرة السورية 10 ملايين ليرة، في حين لم تزد الدخول، بعد زيادة الأجور 100 في المائة، عن 200 ألف ليرة (نحو 15 دولاراً بسعر الصرف الرسمي).
لكن رئيس النظام السوري، بشار الأسد، كرر ردوده قبل اثنتي عشرة سنة، حين قابل الاحتجاجات بالوعيد والتنظير ورفع الأسعار من جديد، في تحد زاد من آمال السوريين، وحتى المراقبين الخارجيين، باقتراب نهاية مرحلة حكم أسرة الأسد الممتدة منذ عام 1970.
قبل إصدار رئيس النظام السوري، في 16 أغسطس/آب، مرسوم زيادة أجور العاملين في الدولة والمتقاعدين بنسبة 100% بعد انتظار ووعود لعامين، أصدرت حكومته جملة قرارات لسحب الدعم عن المحروقات، فارتفع سعر المازوت المدعوم من 700 إلى 2000 ليرة (بنسبة 185 في المائة) والبنزين من 3 إلى 8 آلاف ليرة (بنسبة 166.6 في المائة) والمازوت الحر غير المدعوم من 5400 إلى 11500 ليرة سورية، وسعر طن الفيول من 4.4 ملايين ليرة إلى 7.887 ملايين، والمازوت الصناعي من 5400 إلى 8000 ليرة.
ولم يسلم الغاز المنزلي والصناعي من رفع الأسعار، حيث قفز سعر أسطوانة الغاز المدعوم سعة 10 كيلوغرامات من 15 إلى 18 ألف ليرة، والغاز المنزلي الحر من 50 إلى 53 ألف ليرة، ليطاول الرفع الغاز الصناعي ويرتفع سعر الأسطوانة من 75 إلى نحو 80 ألف ليرة.
الأمر الذي بدل كافة الأسعار في السوق السورية، على اعتبار أن المحروقات سلع محرضة وتدخل في جميع عمليات الإنتاج الزراعي والصناعي، لترتفع كلفة النقل وأسعار المنتجات الغذائية بين 100 و150 في المائة خلال شهر أغسطس، وأكثر من 300 في المائة خلال العام الجاري، بحسب مصادر من العاصمة السورية دمشق.

ويقول الاقتصادي محمد حاج بكري إن نظام الأسد “مفلس بكل معنى الكلمة” بعد تراجع موارد التهريب والإتاوات وصفرية السياحة وعجز الميزان التجاري. لذا، حاول القفز إلى الأمام عبر مرسوم زيادة الأجور، بعد أن أوعز لحكومته بسحب الدعم عن المحروقات.
ويضيف حاج بكري أنه بحسبة بسيطة نستنتج أن حكومة الأسد تكلفت نحو 4 تريليونات ليرة سنوياً جراء رفع الأجور، لكنها ستحصّل عشرات التريليونات (نحو 16 تريليوناً) من رفع أسعار المحروقات والكهرباء والغاز. لنكون، بحسب الاقتصادي السوري، أمام “خدعة”، إذ منّ النظام على الشعب بزيادة الأجور، في حين زاد العائدات من جيوب الشعب المنهك أصلاً.
ولم يكتف نظام بشار الأسد برفع أسعار المحروقات، بل زاد تعرفة النقل من مجالس المحافظات بنسبة 100%، ورفع سعر ربطة الخبز بعد زيادة تكاليف نقلها، ورفع سعر متر مياه الشرب بعد تخفيض كمية الشريحة الأولى من 50 إلى 36 متراً خلال الدورة (ثلاثة أشهر) ليصل سعر المتر للشريحة المنزلية الأولى إلى 150 ليرة سورية.
وضمن سياسة الجباية من جيوب السوريين، التي فجرت الشارع أخيراً، رفعت “السورية للتجارة” (حكومية)، في 24 أغسطس، أسعار عدد من المواد الغذائية الأساسية، ما رآه السوريون إيغالاً في التحدي والرد على انتفاضة الشارع بمزيد من التجويع. ويعتبر المستشار أسامة قاضي أن قرارات النظام السوري هي “تخبّط ما قبل الانهيار”، لأن ملامح الدولة المتبقية بعد 12 سنة من الثورة تلاشت، برأي قاضي الذي يحذّر من اعتماد النظام السوري “سياسة التخوين والقتل”، بردّه على مطالب السوريين التي تتسع وتطاول جميع المناطق التي كانت تحت سيطرة النظام، عدا مدن الساحل التي ينحدر منها بشار الأسد.

ويقول قاضي إن نظام الأسد “يساهم بدراية أو بغباء في تسريع انهيار الاقتصاد والدولة، بل ويدفع الصامتين إلى الانتفاضة”، مشيراً إلى قرار المصرف المركزي، الأربعاء الماضي، بتخفيض سعر صرف العملة السورية الرسمي مقابل الدولار بمقدار 100 ليرة، ليصل سعر صرف الدولار إلى 10800 ليرة.
ويعتبر انسحاب المصرف المركزي من حماية الليرة ولهاثه وراء سعر السوق، السبب الأهم لتهاوي سعر الصرف وغلاء الأسعار بأكثر من 300% هذا العام. ويقول إن “النظام يحدد السعر الحقيقي عبر تسعيره دولار الحوالات ويكرس عدم الثقة في الليرة السورية”.
وكانت العملة السورية قد تراجعت في السوق السوداء إلى نحو 14 ألف ليرة مقابل الدولار، بعد أن تحسنت خلال الأيام السابقة إلى نحو 12.5 ألف ليرة للدولار الواحد، جراء عودة تمويل المستوردات من “منصة العملة”.
ويلفت قاضي إلى أن تمويل “منصة المركزي” هي خدعة وسرقة عبر ابتزاز التجار، موضحاً أن التجار، وفق تمويل المنصة، عليهم أن يدفعوا ثمن سلعهم المستوردة بالليرة السورية، قبل ثلاثة أشهر من منحهم الدولار، ولكن يتم تحصيل التمويل وفق سعر الدولار بيوم منحه من المركزي، بمعنى أنهم يدفعون بين 150 و200% من ثمن سلعهم.
ويضيف أن “هذه اللعبة تقودها أسماء الأسد عبر المكتب الاقتصادي بالقصر الجمهوري”. ويضيف أن المكتب السري أو “المكتب المالي والاقتصادي” في القصر الرئاسي تشرف عليه عقيلة بشار الأسد، إلى جانب خمسة أعضاء، أبرزهم يسار إبراهيم، وهو المعنيّ بالابتزاز المالي للتجار وجمع الإتاوات، بل ورسم سياسة البلد الاقتصادية.
وزاد رفع أسعار جميع حوامل الطاقة أخيراً من تكاليف الإنتاج المحلي ورفع الأسعار، ما رفع تكاليف الأسرة السورية المؤلفة من خمسة أشخاص، بحسب مؤشر “مركز قاسيون للدراسات بدمشق” من 6.5 إلى 10.3 ملايين ليرة، بينما ارتفع الحد الأدنى لتكاليف المعيشة، بحسب المصدر نفسه، من نحو 2.3 إلى 4.1 ملايين ليرة، أي ارتفعت تكاليف معيشة السوريين خلال شهري تموز وآب بنحو 59.3%.
ويرى الاقتصادي السوري محمود حسين أن الوضع المعيشي لم يعد يطاق لأكثر من 95 في المائة من السوريين في مناطق النظام، بعد زيادة تقنين ساعات قطع الكهرباء إلى أكثر من 12 ساعة يومياً، وانقطاع مياه الشرب، وغلاء الأسعار، بحيث لم يعد يكفي الراتب، بعد الزيادة، لنفقات يوم واحد، مشيراً إلى زيادة التكاليف هذه الفترة بسبب قرب افتتاح المدارس.

ولا يستبعد حسين، خلال حديثه زيادة قرارات حكومة الأسد التي ستزيد من الأعباء المعيشية، عبر “استمرار سحب الدعم حتى عن الخبز”، الأمر الذي سيوسّع- برأيه- من دائرة التظاهرات. من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي جورج خزام، خلال تصريحات صحافية الأربعاء إن التجاهل الحكومي للأحوال المعيشية، هو دليل على عدم وجود أي رؤية وأي فكر اقتصادي في مراكز اتخاذ القرار الاقتصادي.
ويشير خزام إلى أن الحل الإسعافي المتوجب القيام به هو تحرير الأسواق من بعض المسؤولين في مراكز اتخاذ القرار، معتبراً تطبيق شعار “دعه يعمل دعه يمر” هو الطريق والحل الوحيد للخروج من دوامة التضخم النقدي.
ولا يستبعد رئيس الائتلاف السوري المعارض السابق، نصر الحريري، اتساع دائرة التظاهر في سورية، بعد “استهتار نظام الأسد بمطالب المحتجين، والرد بمزيد من الوعيد وحصار محافظات الجنوب في درعا والسويداء”.
ويشير الحريري إلى أن مقولة الأنظمة الاستبدادية لا تسقط من بوابة الاقتصاد، لأن ملامح انهيار النظام وعجزه باتت وشيكة، بعد خروج المتظاهرين بافي لسويداء واستمرار التظاهر بدرعا وإدلب وريف حلب، ولا يستبعد خروج بقية المدن الخاضعة قسراً لحكم عصابة الأسد، حسب وصفه.
ويرفض الحريري وصف ما يجري في سورية بـ”ثورة جياع”، بل هي ثورة كرامة، وإن كان أسبابها المباشرة أو الأخيرة بسبب استمرار الأسد في سياسة التفقير والإذلال.
ولكن في المقابل، يخشى الاقتصادي السوري محمود حسين أن “ترمي بعض دول المنطقة طوق نجاة جديدا لنظام الأسد، سواء عبر دعم مالي أو تعويم جديد، ما يطيل بقاء النظام لبعض الوقت”، لأن حكم الأسد في سورية، برأي الاقتصادي، سقط لا محالة، وما ستشهده سورية- برأيه- خلال الفترة المقبلة، هي مخاضات ما قبل السقوط، لا أكثر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.