الخطة الأمريكية: تحويل الملف السوري من ملف صراع دولي إلى ملف صراع محلي

أصبح من البديهي الإعتقاد أنّ مابعد 22 شباط 2022 ليس كما قبله…ذلك اليوم غير كل المعادلات الدولية …وقع المحظور وتحدى بوتين الولايات المتحدة وحلفاءها مُطالباً بتغير القطبية الدولية بمعنى إنزال واشنطن عن عرشها الذي تتفرّد به منذ إنهيار جدار برلين وتداعي الإتحاد السوفييتي…وقد يكون بمخيلة الرئيس الروسي المشاركة مبدئياً مع واشنطن بقيادة النظام الدولي ريثما يتم الإنقضاض عليه متغافلاً أو متناسياً أنّ رعاة البقر سيصطادون بحبالهم وأحابيلهم كلّ من يجرؤ من الإقتراب من رياستهم العالمية …
قُطِعَت كل الإتصالات بين موسكو وواشنطن وإنخرطت الأخيرة في صراع عالمي صفري مع الشيطان الروسي …ولأنّ سوريا هي ساحة أو ملف مشترك بين الجبارين المتخاصمين فلا بدّ أن تنعكس عليها الإختلافات كما إنعكست سابقاً التوافقات …
والتوأمة بين الملف الأوكراني والملف السوري أيضا بات حقيقة واقعة…لإشتراك نفس القوى بالصراع في كلا الساحتان وتناقض الأهداف أيضاً بين الأعداء في كلا البلدان..فخسارة طرف في ساحة أو ربحه سينعكس بالضرورة على الساحة الأخرى
ولأنّ الولايات المتحدة تسعى لهزيمة روسيا ليس في شرق أوكرانيا فحسب بل إنّ كل بقعة تتواجد فيها روسبا حول العالم هي شرق أوكرانيا أخرى يتوجب بها هزيمة الروس أيضاً لقصقصة أذرع الاخطبوط في الطريق الواصل إلى ضربه على رأسه.. ولاشيىء يتقدّم على تلك الخطط الأمريكية ..وكل حركة او إيماءة أو إنتشار عسكري غير عادي ومالوف يصبّ في إستراتيجية هزيمة هذا العدو وتلقينه درساً قاسياً على ما إقترفته يداه وسمح لنفسه بالتفكير به..ويكون عبرة لغيره من الطامحين أو الطامعين…
وبالطبع ستعتبر الولايات المتحدة أنّ شرق سورية هو شرق أوكرانيا آخر تسبطر عليه فاغنر إيرانية متحالفة حتى النخاع مع فاغنر الروسية (وفاغنر الروسية هي كل القوات الروسية في سوريا كما تعتبرها واشنطن) ..وخطورة التواجد الروسي في شرق المتوسط على السواحل السورية يجب إزالته …حيث ماكان مسموحا به قبل غزو الروس لأوكرانيا حرام بعده..حيث أثبت بوتين أنه ليس شريكاً مسؤولاً في إدارة الشأن الدولي بل ليس حتى منافساً حقيقياً أو عدواً عاقلاً
يسعى بوتين وخوفاً من إخراجه من سوريا إلى محاولات التمدد عبر إنقلابات عسكرية في دول الساحل والصحراء الإفريقية وكل همّه إقناع نفسه وشعبه والعالم كله أنّ روسيا قوة عظمى لها إمتدادات دولية خارج حدودها ولايمكن أن يثنيها عن عزمها أو طموحها تورطها في حرب إستنزاف غير محدودة الأفق في أوكرانيا ..لأن القوى العظمى بإمكانها خوض أكثر من معركة بآن واحد أو على الأقل إستمرار مشاريعها أثناء خوضها تلك الحرب
وبما أنّ القوات الجوية الروسية تُسيطر على السماء السورية كلها (بإستثناء شرق الفرات) والسيطرة على السماء عامل في غاية الأهمية لكنه غير كاف و يفقد كثير من أهميته إذا لم تتوفر قوى أرضية حليفة تفرض على الأرض سياسة روسيا ومخططاتها
وتحاول الولايات المتحدة أن تجعل من التواجد الروسي في سورية عبئاً على موسكو وليس ذا جدوى إستراتيجية منه ودون الإشتباك معها مباشرةً بالتأكيد…ولتحقيق ذلك عملياً يحب إضعاف أو هزيمة حلفاءها على الأرض وهما هنا قوتان لاثالث لهما:

1– قوات نظام الأسد المتهالكة والمنهكة ..وحتى تبقى كذلك حرصت واشنطن على إفراغ محتوى التطبيع العربي مع الأسد من أي محتوى إقتصادي ينتشل النظام من محنته ..وبالطبع أي تماسك او قوة يكتسبها نظام الأسد ستنعكس إيجاباً على تعزيز نفوذ حليفه الروسي…وقد إستبقت الولايات المتحدة أي نصر حقيقي لروسيا في سوريا بتموضعها العسكري شرق الفرات وسَنّها لقانون قيصر وإجهاضها لأي تثمير سياسي لتورط موسكو في الحرب السورية طيلة ثمانية سنوات

2– كانت الميليشيات التابعة لفيلق القدس الإيراني الذراع الأرضية الحقيقية لسلاح الجو الروسي لتحقيق التقدم على الأرض والإمساك بها….وكانا شريكان متكاملان لايقدر أن يستغني اي أحد منهما عن الآخر…وكل واحد منهما بمفرده ليس قادراً على إنجاز أي خطط إستراتيجية ..لذلك فصل الذراع الأرضية الإيرانية عن سلاح الجو الروسي يحظى بأهمية كبرى للمُخطِط الأمريكي ..ذلك الفصل سيجعل التواجد العسكري الروسي في سوريا هو تواجد منقوص وغير ذي جدوى بعد قطع الأقدام البرية التي يسير علها الإحتلال والمشاريع الروسية على الأرض
ومما لاشك فيه أنّ الملف السوري وحده من بين ملفات المنطقة التي يجري الصراع حول حسمها أو تبريدها أو تسخينها أو إدارتها ويتميز دون غيره بتواجد العامل الإسرائيلي فيه بقوة ..وهذا العامل لاشك أنه يحظى بعناية خاصة ويتقدم حتى على كثير من المصالح الأمريكية الأخرى فضمان أمن إسرائيل هو هدف إستراتيجي أمريكي لايقبل النقاش..
ولأن الاشجار والغابات نمت خلال إستراتيجية دولة الإحتلال الإسرائيلي المعلنة حول ضرب التموضعات العسكرية الإيرانية النوعية بما يسمى إستراتيجية جَزّ أو قص العشب فشلت فشلاً ذريعاً ولابد من سياسة آخرى للتعامل مع هذا التموضع العسكري الإيراني الذي يحيط بإسرائيل من الجهات الثلاث ويسعى للتغلغل إلى الإردن ليحكم الإحاطة بها من الجهات الأربع ..لذلك يرى أغلب المراقبين أنّ حزاماً أو جداراً أمنياً من حدود الجولان المحتل جنوباً يحيط بحوران سهلها وجبلها مروراً بالتنف وصولا للبوكمال يتشارك به الجميع سوريين وعرب وأمريكان و( إسرائيليين من خلف الستارة) تحقق أهدافاً كبرى للأمن القومي الإسرائيلي وأمن الدول العربية ومصلحة عامة للسوريبن الراغبين بإضعاف نظام الأسد تمهيداً لإسقاطه أو تغييره بأضعف الأحوال
يرتاح الإسرائيليون من تهريب السلاح إلى سوريا ولبنان ويضعفون الميليشيات المناوئة لهم بقطع تواصل الراس مع الأطراف ومن الممكن ان تصاب تلك الأطراف بالغانغرينا والتعفن والذي يتوجب بترها بعد توقف تغذيتها بالأوكسجين الإيراني عبر الدورة الدموية الكبرى في جسم المحور الإيراني
ويرتاح العرب من تهريب المخدرات والسلاح عبر الحدود الأردنية إلى بلادهم ..ويكون مكسب الأمريكان والسوريين هو المكسب الأكبر…
كيف يكسب الأمريكان؟ سؤال مهم…والإجابة عليه واضحة ..حيث إن ماساد المشهد السوري منذ عام 2011 وتحول الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة بفعل العنف المفرط من نظام الأسد ضدها ومن ثم تدخل قوى خارجية لصالح هذا الطرف أو ذاك فتحول الملف السوري إلى بؤرة ملتهبة لصراع دولي وإقليمي ..ويبدو أن في نِيّة الولايات المتحدة تغيير طبيعة المشهد بنزع صفة الصراع الدولي عن الصراع السوري وتحويله لصراع محلي ببن نظام حاكم مستبد مارق وقوى معارضة له من شعبه و يوجد قرار دولي 2254 يُنظّم العلاقة بينهما…وليتم إسباغ صفة المحلية على الصراع السوري لابد من إبعاد الأذرع الروسية والإيرانية عن التدخل به وأولى الخطوات بل أهمّها قطع محور إيران الإستراتيجي في شرق سوريا…وبحدوث ذلك سيضعف نظام الأسد كثيراً ويكون مضطراً للإنخراط بالعملية السياسية ..وتساهم ثورة السويداء الأخيرة وتجدد الإنتفاضة الحورانية والامتعاضات الساحلية المتنامية من تعزيز فكرة اامحلية بالصراع السوري وعزله عن ملفات المنطقة الأخرى…ويُقال أنّ الأمريكان في مفاوضات مسقط الأخيرة مع الإيرانيين رفضوا اي بحث في الملف السوري مع الإيرانيبن واعتباره أحد الملفات المرتبطة بملفات أخرى
وماذا سيكسب السوريين؟ مكسب السوريين سيكون كبيراً أيضاً بإغلاق شرايين الدعم الخارجي والتي تُبقي النظام ميتاً لكنه واقفاً على قدميه ويمشي… وتضطر مراكز القوى الفاعلة ضمن نظام الأسد على الرضوخ للبحث عن مخرج ما من الحالة المزرية التي وجدوا أنفسهم بها …ويدرك الجميع أن سبب كل الأزمات في سوريا هو سياسي وانّ الحل السياسي كفيل بحلحلة كل العقد الأخرى ولا بدّ من رحيل الأسد وزمرته حيث إنّ ذلك النظام هو جزء من المشكلة ولايمكن أن يكون جزءاً من الحل
تشي الأحداث والتطورات بتناغم الداخل السوري الملتهب مع التحركات الدولية والإقليمية الجارية حول الملف السوري والذي تَصدّر ذروة الإهتمام الدولي مؤخراً رغم وجود ملفات ساخنة غيره.. وما الحرب الدائرة الآن شرق الفرات بين العشائر العربية وجماعة قنديل إلا جزءاً من الطبخة التي ستخرج للعلن ونقوم الآن بشم رائحتها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.