بين بوتين وبريغوجين

“لم نشهد الفصل الأخير من القصة”، جملة قصيرة علق بها وزير الخارجية الأمريكية أنطوني بلينكن على انسحاب قوات فاغنر من المواقع التي سيطرت عليها في الجنوب الروسي، وتوجهها إلى بيلاروسيا بعد وساطة رئيسها مع قائد مجموعة فاغنر بريغوجين قبل شهرين من اليوم. فيما اليوم تظهر أخبار بريفوجين أنه كان على متن الطائرة التي تم استهدافها في الأجواء الروسية، وهي القادمة من أفريقيا! أفريقيا التي شهدت بدايات انقلاب عسكري، تفاخر به بوتين بتقليم أظافر الأمريكان وفرنسا فيها، ويبدو أنها Yحدى مهمات بريغوجين التي قام بها بعد نقل قواته لهناك، كما كانت تتنقل في سوريا وأوكرانيا وغيرها. لكن يبدو أنه تم استدعاؤه اليوم للتخلص منه!
أمام سيناريوهات متعددة، ترقبت السياسة الدولية مجريات الحدث الحار في روسيا سابقاً، بدءاً من وصول قوات بريغوجين إلى موسكو وإحداثها انقلاباً عسكرياً فيها، خاصة بعد تهديده وزير دفاعها وقائد أركان جيشها المباشر، أضف لتمني حدوث اضطراب شعبي واسع يهدد عرش بوتين وإنهاء أسطورته وغطرسته التي تنذر بالسلام العالمي بشر كبير. هذا مقابل تكهنات في حدوث متغيرات في السياسة الروسية تجاه مجريات العمليات العسكرية في أوكرانيا وتغيير تكتيكها فيها، بحيث تعطي القوات الروسية مبررات انسحابها منها، أو وجود اتفاق مبطن بين بوتين وبريغوجين على إعلان تمرده بغية إتاحة الفرصة أمام الأول بإجبار وزارة الدفاع على إحداث تغيرات في هيكلتها وطرق إدارتها، تتيح لبوتين السيطرة الكاملة عليها وعلى كيفية إدارة القوات الروسية، خاصة وأن هذه القوات تمتلك رصيداً بيروقراطياً من الصعب تغيرها، وأي تغيير فيها قد ينذر بخلل بنيوي في السلطة الروسية تهدد بانهيار تماسكها الظاهر لليوم. لتبرز أحداث الأمس مخالفتها لكل التوقعات ويظهر نهاية بريغوجين بعد قدومه من أفريقيا!
تقارير عدة أشارت الى أن قوات فاغنر هي قوات مسلحة روسية غير رسمية، منها ما يشير لتبعيتها لوزارة الدفاع أو للمخابرات الروسية وصلتها المباشرة ببوتين، خاصة وأن قائدها بريغوجين معروف عنه بأنه طباخ بوتين. المتفق عليه أن هذه القوات بدأت بالظهور منذ العام 2014 في إقليم دونباس الأوكراني في بدايات الأزمة الروسية الأوكرانية، وفي سوريا وليبيا لاحقاً وفي أي موقع تريد القوات الروسية تبرير العديد من عملياتها العسكرية دون إسناد رسمي لروسيا فيها. ولليوم لم تتكشف أسباب وجوده في أفريقيا ودوره هناك. إذ تشير التقارير إلى أن فاغنر هي وكالة أعمال لتجنيد المرتزقة من شتى أنحاء العالم، والمحكومين بأحكام قضائية روسية طويلة الأمد خاصة الإعدام، ويتم تدريبها في المنشآت العسكرية الروسية أساساً، ويتم استخدامها من قبل مالكها، بريغوجين، في أعمال قتالية خارج روسيا لتحقيق أهداف عسكرية روسية معينة. وظهرت بشكل بارز في العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، واتهام قائدها وزارة الدفاع الروسية بعدم تقديمها المساعدات الكافية في الحرب الأوكرانية لقواته، وفضحها للخسائر الروسية الفعلية في تلك الحرب. الأمر الذي أدى لاتساع دائرة التوتر بينها وبين القيادة الروسية، والذي وصل لذروته الفعلية في ومحاولة قيادتها القيام بتمرد عليها، والتهديد بتعليق شويغو، وزير الدفاع الروسي، في ساحة الكرملين، حسبما أعلن بريغوجين. ولكن أتت المسألة بآخر سيناريوهاتها بموته، بينما بقيت القيادة الروسية متماسكة ومستمرة بمخططاتها الجيوبوليتيكية في استعادة مكانتها العالمية مهما كلفها الأمر.
لا يمكن للتحليل السياسي حسم تحليله لمجريات الأحداث الأمنية المخفية، فكيف وإن كانت بين أطراف تجيد اللعبة الأمنية وتفاهمات العصابات الخارجة عن القانون وآليات اتفاقها، ما يفضي بالضرورة إلى إشارات محددة حول هذه السياسية. فهي سياسة متمركزة على قيادة الفرد المطلقة، والتي تتجاوز مفاهيم الديكتاتورية السياسية إلى الإمبراطورية المهيمنة القديمة ولكن بأدوات أمنية وعسكرية وسياسية حديثة. سياسة تهدد السلم العالمي وتنذر بكل خصومها بالشر المطلق. وليس فقط، لا صديق لها فهي قابلة للتخلي عن أي من أذرعها مقابل استمرار مشاريعها التوسعية والهيمنة المطلقة. السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، بمن سيستعين بوتين بديلاً عن خدمات طباخه؟ وما هي نوع الطبخات العسكرية والسياسية التي يمكن أن يطهوها مطبخه الأمني العسكري الجيوبوليتيكي؟ وهل سينتقم أفراد فاغنر منه بالمقابل؟ أم أنه ضمن عدم قدرتهم على أي فعل بعد إبعادهم لأفريقيا.
لن تتوقف القصة الروسية عند حد معين، سواء في مجريات معاركها الخارجية في أوكرانيا وسوريا وامتداداتها المتوقعة والممكنة، أو بمستوياتها الداخلية المحلية الروسية، فمفخخات الجيوبوليتيك الروسي الدولي وعلى رأسها بوتين، ومفخخات الميليشيات غير الرسمية كبريغوجين وغيره، لن تقف عن زعزعة السلم العالمي واستقرار الدول عامة، بما فيها روسيا. ويبدو ان مؤشرات انفجارها غير المحسوب أو المدقق أو بأي جهة ممكنة، باتت أقرب من أي وقت مضى، خاصة وإنها نموذج يخرج عن سياقات التحليل السياسي المتعارف عليه. فهي مفاجئة وقصيرة الخطوات، تستهدف مصالحها الآنية والاستراتيجية بطرق متعددة يصعب التكهن بنهايتها، لكنها في المقام الأول والنهائي سياسات عدوانية ومدمرة أينما حلت. وطبيعة نهايتها كارثية على كل الأطراف المتدخلة فيها أو التي ترعاها. فالمعروف جيداً لليوم بحكم البيئة البيولوجية، أن الدبب لا تهاجم بعضها، ولكن إن فعلت تهدم الغابة التي تسكنها بمن فيها، ولتلك السياسات البيولوجية في خلقها شؤون وتدابير لا يُعلم لها مستقر سوى مشاهد نتيجتها النهائية. فالإمبراطوريات التاريخية قامت على القتل والشمول فيه، وعلى الاستفراد المطلق بالحكم وعدم التسامح مع أي خلل في فروض الطاعة، وعلى التوسع والهيمنة المطلقة، ومع هذا لم تدم ولم تستمر فخبت وانتهت ولم يبقَ منها إلا أسماء ينكرها التاريخ ويتذكرها بتقزز. كما سيتذكر التاريخ بريغوجين وقريبا بوتين. بينما صناع الحضارات يبقون ملهمين لكل شعوب الكوكب بصناعتها وإعادة احياء الانسان فيها مهما تغولت فيهم إمبراطوريات القوة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.