مستقبل العلاقات السورية التركية وأهداف التصعيد على إدلب

شاءت الأقدار ان تتداخل الجغرافيا بالديمغرافيا والتاريخ بين سوريا تركيا وتَصبغ علاقات البلدين والشعبين بالجوار الأبدي فَكلّ شيئ يُمكن أن يَتغيّر إلا الجغرافيا …لذلك فمن المُحتّم على الشعبين صَوغ أفضل العلاقات بينهما وتأطير ذلك بعلاقة الدولتين في بناء علاقات نَدّية يقوم أساسها على المصالح المشتركة وحُسن الجوار ….

 كان نظام الأسد الأب يَحرص أشدّ الحرص على عدم إنشاء أيّ علاقة إيجابية مع الجار التركي بل كانت علاقة سوريا الأسد وتركيا تَتّسم بالعدائية …وساعده في ذلك عدم اهتمام الجانب التركي بالتطلّع لعلاقات أفضل..فقد كانت تركيا  الكمالية تلهث نحو الغرب محاولةً ان تكون جزءاً منه بعد أن حاولت تغربب نفسها بقوة السلطة بل بعسفها ايضاً…قاطعةً كل الأواصر التي كانت قائمة مع الشرق العربي والتي ظَنّت أنها ضرورية لإستكمال قطيعتها مع والدتها العثمانية الإسلامية

  كان دور الأسد الأب في تأسيس ودعم حزب العمال الكردستاني التركي معروفاً للجميع وكان دور الأسد الولد رئيسياً في تأسيس الفرع السوري لذلك الحزب عام 2003 تحت إسم حزب الإتحاد الديمقراطي .

ولم يُخيّب الحزب ظَنّ الأسد الولد وكان كلا  الأصل والفرع وفياً له ولم يَنسَ فضل والده وفضله عليه ..حيث وقف حزب العمال التركي والسوري إلى جانب الأسد لقمع الثورة الشعبية ضِدّه وكان فاعلاً جداً في قمع صرخات الحرية من الأكراد السوريين مع إخوانهم العرب ولايختلف أحد أنّ وراء إغتيال الشهيد مشعل تمو رمز النضال الكردي السوري ضد نظام الاسد وغيره من القيادات هو حزب الإتحاد الديمقراطي .

وقد قام نظام الأسد بتسليم الحزب وميليشياته أجزاء واسعة من الجزيرة السورية ومدّه بالمال والعتاد…وكانت ميليشيات الحزب ومشاريعها الإنفصالية شوكة أسدية في الخاصرة التركية وذلك للردّ على وقوف الدولة التركية إلى جانب الثورة السورية.

 ويمكننا اعتبار توقيع إتفاقية أضنة عام 1998( بوساطة مصرية) لتنظيم العلاقات بين البلدين ومساعدة الأسد في إعتقال اوجلان بعد طرده من دمشق ( ملاذه الامن ) هي مرحلة تهدئة بين البلدين بعد ان وصلت لمراحل مُتوتّرة جداً كادت أن تُشعل حرباً بين جيشي البلدين.

في بداية القرن الحالي صعد للسلطة في دمشق الأسد الولد وارث حكم أبيه فيما كان الرئيس التركي أردوغان يشقّ طريقه  ليصبح فيما بعد رجل تركيا السياسي الأول ورئيس أحد أهمّ أحزابها..ولظروف عديدة رافقت ظروف وأجواء تلك المرحلة تَحسّنت العلاقات كثيراً بين انقرة ودمشق على كافة الصُعد وبالطبع لم يكن ذلك التحسّن نوعياً أو إستراتيجياً بل مرحلياً أملته الظروف وخياراً تكتيكياً لأردوغان والاسد ..حيث لم تَصمد تلك العلاقات عند أول إختبار جَدّي لها ..فَخيّبت تركيا ظنون ورغبات الأسد في الوقوف إلى جانب نظامه وآثرت الدولة التركية الإنحياز إلى صف ثورة الشعب السوري…

 كان اللاعب الاكبر في الملف السوري ( بعد إنطلاق الثورة السورية )هو اللاعب الأمريكي ويمارس دور القيادة من الخلف لإدارة الأزمة وفق مصالحه ..وكان العم سام حريصاً أشدّ الحرص  على عدم إعطاء ايّ دور حقيقي للأتراك في دعم أكبر للثورة السورية  الأمر الذي قد يُمكّنها من الإطاحة بالنظام في دمشق فوضع فيتو على السلاح النوعي للثوار السوريين وغَضّ الطرف عن الدعم الهائل الذي تلقاه النظام بالرجال والسلاح من الميليشيا التابعة لفيلق القدس الإيراني ولم ترَ عيناه  كل جرائمها بحق الشعب  والثورة السورية….

 رفض الأمريكان إنشاء منطقة حظر جوي في الشمال السوري غرب الفرات فيما سارعوا لإنشائها في شرقه في تَحيّز واضح الى الجانب الذي يعادي تركيا ..إذ لو وافق الأمريكان على إنشاء المنطقة العازلة او الآمنة في غرب الفرات لكانت الصورة  تختلف اختلافاً جذرياً  عن حالتها اليوم..ولكانت عذابات وآلام كثيرة لم تلحق بالسوريين…ولتبدّدت مخاوف الأمن القومي التركي.

 لابُدّ للدولة السورية القادمة من بناء أفضل العلاقات مع الدولة التركية الجارة كخيار إستراتيجي وممكن للسوريين أن يستفيدوا كثيراً من تجربة النهوض التركية الإقتصادية والسياسية  في بناء سورية الجديدة  بعد الدمار الذي أحدثه نظام الاسد فيها..

وقد يرى السوريون ان يُقيموا أفضل العلاقات الأمنية والدفاعية بين البلدين خاصةً أنّ القوتان الإقليميتان الكبيرتان غير العربيتان وهما دولة الإحتلال الإسرائيلي ومنظومة الإحتلال الإيرانية هما دولتان عدوتان لسوريا والسوريين….

 *أهمّ مُحدّدات الإستراتيجية التركية إتجاه سوريا*

 1-الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ورفض أي شكل من أشكال الفدرلة او اللامركزية الملغومة او الحكم الذاتي والدويلات الصغيرة الخ…يكون ذريعة لإنشاء كيان كردي معادٍ تَحكُمه أو ( تتحكّم به) عصابات قنديل بواجهات سورية وشعارات بَرّاقة وهذا من أهم دواعِ الأمن القومي التركي.

2-الحدّ من تَدفّق اللاجئين السوريين إلى داخل أراضيها…والإحتفاظ بمساحات من الأرض السورية تقوم هي نفسها بحمايتها مع العمل على تأمين إستقرار معقول للسكان فيها والعمل على عودة أكبر عدد ممكن من السوررين داخلها إلى بلدهم

 3-عدم السماح بعودة قوات نظام الأسد والمليشيات الإيرانية إلى حدودها الجنوبية …حيث يرى البعض أنّ الخطر الإيراني على الدولة التركية أضعاف ما يُشكّله خطر الأحزاب الإنفصالية الكردية ..حيث يُعتبر حزب العمال الكردستاني التركي هو أداة إيرانية اولاً وأخيراً..

4–بناء بيئة صديقة مدنية وعسكرية وأمنية من السوريين ..وأن يتضمن الحل السياسي السوري القادم قيام نظام حكم سياسي صديق في دمشق ( أو غير معادٍ لها على الأقلّ ).

5-عدم مغادرة الأراضي السورية قبل تحقيق الحل السياسي الذي يضمن الإستقرار في عموم الدولة السورية وخاصةً على حدودها الجنوبية …وقد رأينا إنتشاراً تركياً في محافظتي إدلب واللاذقية بالأصالة وليس عبر دعم الحلفاء مع أنّ حلب وإدلب لاتَضمّ ولا قرية كردية ممكن أن يكون بعض سكانها حواضن لتنظيمات كردية إنفصالية …حيث تُعتبر تلك المناطق أهدافاً على أجندة حزب الbkk..لتأمين منفذ بحري لأكراد الأناضول على البحر الأبيض المتوسط وفق أحلام مشروع كردستان الكبرى التي يَتبنّاها الحزب التركي الانفصالي….

 *مراحل التدخل التركي في الملف السوري منذ عام 2011*

 ويمكننا تقسيم مراحل التدخل التركي في سوريا لخمسة مراحل:

1— من  عام2011–لغاية 2014…حيث إتسمت تلك الفترة بالرهان الحقيقي على سقوط الأسد بعد فقدانه معظم الجغرافية السورية ..وعُزلته الدولية والعربية وإندحار فيلق القدس  الإيراني أمام قوى الثورة السورية..

2–من عام  2014 ولغاية أيلول 2015…وتَميّزت تلك الفترة بعدم نجاح المسعى التركي في إقناع الإدارة الأمريكية بإنشاء منطقة حظر جوي أو منطقة عازلة في الشمال المحرر من سلطة نظام الأسد ..ومما زاد الطين بِلّة إعتماد الأمريكان على ميليشيا الbyd  وتسميتها بقوات سورية الديمقراطية كشريك محلي للتحالف الدولي في الحرب على داعش والإمساك بالأرض التي طُرِدَ  التنظيم  منها ..ووجدت تركيا دويلة كردية معادية مدعومة بتحالف دولي ورعاية أسدية تقوم على حدودها الجنوبية وذلك من أهمّ العوامل التي تُهدّد الأمن القومي التركي وتثير الحساسبة المفرطة عند الأتراك دولةً وشعباً…

 3– من نهاية عام 2015 ولغاية بداية 2022.

بعد الدخول العسكري الروسي  المباشر في سوريا لم يَعُد بالإمكان التدخل العسكري التركي ومن الممكن أنّ التردّد التركي في إتخاذ قرار التدخل قبل التدخل الروسي وتعويلهم على الولايات المتحدة في إنشاء المنطقة العازلة او منطقة الحظر الجوي قد أرخى بظلاله على المشهد الحالي وكان على الحكومة التركية محاولة تقليل الخسائر قدر الإمكان في ظل تحالف أمريكي مع عدوها قسد وتحالف روسي مع عدوها وعدو حلفائها من فصائل الثورة السورية وأعني نظام الأسد وفيلق القدس الإيراني  ..

وكان بالنتيجة بروز مسار أستانة السيئ الصيت والكارثي على الثورة السورية  وذلك لإدارة الهزيمة العسكرية لحلفاء تركيا من السوريين ودرء ما أمكن من المخاطر على الدولة التركية.. ولأنه لم يَعُد بالإمكان إسقاط الاسد عسكرياً بعد التدخل الروسي كان تقليل الأضرار هو ما رسم السياسة التركية في سوريا خاصةً بعد إسقاط الطائرة الروسية ووقوف حلف الناتو بمظهر الشامت بتركيا  والمتخلي عنها بأي صراع قد يَنشب بينها وبين روسيا  في سوريا وظهور مدى الموافقة الدولية الضمنية التي  كان يحظى بها التدخل الروسي.وسارت تطورات السنوات الخمسة اللاحقة إلى  أن توقفت المعارك الكبرى في آذار 2020 وحصول توافقات روسية تركية أدت لشن تركيا عمليات عسكرية بنفسها وبمساعدة قوى الثورة السورية وهي المناطق الأربعة درع الفرات…غصن الزيتون..نبع السلام ..وعملية الإحتفاظ بادلب وارياف حلب الغربية والتي تَمّ إطلاق درع الربيع عليها..

 4– من العام 2022 ومابعد…

كانت القوة والعنجهية الروسية في أبهى مظاهرها قبل الغزو الروسي لأوكرانيا وحاولت فرض إنسحاب تركي  وتطبيق تفاهمات شفهية تَمّت بين السلطان والقيصر  ..بإدخال مؤسسات النظام  المدنية إلى الشمال المحرر أو تسليم جانبي الطريق الM4 وفتحه امام حركة النقل ..أو سيطرة نظام الأسد على المعابر الدولية  الخ…إلا أنّ كل ذلك لم يحصل وبقيت الأوضاع كما هي عليه إلى أن حدث الإجتياح الروسي لأوكرانيا وبدأت عندها مرحلة جديدة من العلاقات الروسية التركية تركت آثارها على الملف السوري العالق بين البلدين.

 *الأهداف السياسية للتصعيد العسكري على إدلب*

من المعروف إستهداف نظام  الأسد للبُعد المدني للثورة منذ بداياتها وخاصة بعد إدارة قوى الثورة لمناطق واسعة خرجت عن سيطرته..محاولاً إفشال أي تجربة ببناء نموذج جاذب للسوريين ومَحطّ تقدير من الخارج لكي يطرح الأسد نفسه بأن  لابديل له…

 1– طبعاً لايحتاج نظام  الأسد لأي ذريعة لإستهداف المناطق المحررة وأحيانا يفتعله  بنفسه  كما حدث في شهر تشرين الأول عندما دبّر تفجيرات الكلية الحربية في حمص وذلك لإمتصاص نقمة الحاضنة عليه  بسبب تدهور الحالة المعيشية بشكل مريع والوصول لخط الجوع وحجته في ذلك أنّ الحرب لم تنتهِ بعد  ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة….

 2–  شَدّ عصب الحاضنة الصلبة حوله بتخويفها من الآخر الذي يَتحيّن الفرص لإبادتها والإنتقام منها وماعليهم إلا التمترس خلفه … ويبقى بالطبع الأمان أهمّ من الجوع والظلام وكافة مستلزمات الحياة الاساسية بكثير بالنسبة للحاضنة..

 3– في الأعوام الأخيرة كانت الحرب الرمادية بين إيران وإسرائيل تدور في معظمها داخل اراضي سيطرته .. وإزدادت مُؤخراً بعد طوفان الأقصى حيث لايَقدر على الردّ ( ولا حتى الإحتفاظ بحق الردّ ) حتى أنّه نأى بنفسه عن تبنّي خطابات شعاراتية تَخُصّ مايسمى بمحور المراوغة والكبتاغون وشعر بالمهانة والضعف ويريد إبراز عضلاته في التصعيد على إدلب…

 4–  الإنتخابات التركية الأخيرة لم تأتِ بأصدقاء الأسد للسلطة وخسرت المعارضة الإنتخابات العامة والرئاسية..ويريد يالتصعيد الحالي إرباك الحكومة التركية  عن أي مشاريع معلنة لها بحملتها الإنتخابية بتحقيق نوع من الإستقرار يُتيح أجواءاً من الطمانينة تدفع بعشرات آلاف السوريين للعودة إلى بلادهم…

 5–  يتعرّض الأسد لعزلة عربية ودولية وتركية خانقة بعد فشل ( او إفشال ) مسارات التطبيع وكما نعلم أنّ قانون قيصر والعقوبات الأمريكية والغربية الأخرى  سيفاً مٌسلطاً على كل من  يحاول تقديم يد العون لنظامه ..وبعض مناطق المعارضة في الشمال ( درع الفرات) تَمّ إعفاؤها من عقوبات القانون الأمريكي كحافز لها على المضي بتنمية إقتصادية ومجتمعية وبناء نموذج ناجح يكون جذاباً أو حتى بديلا عن نظامه..وتوجد حركة حثيثة الآن لعقد المؤتمر الأول للإستثمار في الشمال وجرت قبله محاولات مشابهة… ويوجد تشجيع تركي ورغبة عربية (قطرية ) ورعاية أوربية عبر الدعم الإنساني والتشجيع على بناء حوكمة ..تتيح إستقرار في المجتمع المحلي ويكون من أسباب عدم الهجرة إلى تركيا أو العبور منها إلى  دول الإتحاد الأوربي ..وبالتالي لاتوجد هدنة مكتوبة وأيضاً لايوجد ردع كافٍ ومُؤثر من فصائل المعارضة والقوات التركية ..ولاسبيل لنظام الأسد لإفشال كل تلك المساعي ألا بالتصعيد خاصةً التصعيد الأخير بقصف مركز مدينة إدلب  وإرسال رسالة بأنّ لانهضة أو بناء نموذج منافس في أيّ بقعة خارجة عن سيطرته طالما تستطيع صواريخه الوصول اليها…

 6– خوف الأسد وحلفاءه الروس والإيرانيون  من مآلات التقارب التركي الأمريكي بعد موت محور أستانة ..وإصلاح أنقرة لعلاقاتها مع الأطلسي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا ..وإزدياد التنسيق الأمريكي التركي شرق الفرات في الآونة الأخيرة  عبر إستمرار الموافقة الامريكية على العمليات الجوية التركية ضد كوادر قنديل والمنشآت المدنية التي تُموّل قسد …والرسائل عبر إدلب تحذيرية لأنقرة بعدم التمادي في الذهاب بعيداً مع واشنطن وإهمال التنسيق مع طرفي أستانة الآخران…..

 وظهر التقارب التركي  الأمريكي واضحاً أيضاً في موافقة البرلمان التركي على قبول عضوية السويد في حلف  الناتو والموافقة الأمريكية على تلبية طلبات انقرة من السلاح وخاصةً الطيران الحربي ورفع بعض دول الناتو عقوباتها في حظر تصدير قطع ضرورية للصناعات العسكرية التركية…

وكان اجتماع أستانة في دورته ال21 خير دليل على موت المسار وابتعاد أنقرة السياسي عن موسكو..حيث طالب مبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا الكسندر لافرنتيف في حديث مع الإعلام الروسي بإنسحاب الجيش التركي من سوريا لضمان بداية تطبيع مع نظام الأسد كشرط مسبق…في حين أنّ أنقرة ودمشق لاتريان أيّ جدوى من التطبيع بينهما ولا ترغبان في ذلك الآن ولم  تستجيب كلتا العاصمتان لرغبات أو طلبات الدب الروسي الذي كُسِرت أنيابه واقتلعت أظافرة في أتون حربه على أوكرانيا.

تعليق 1
  1. Md khalifa يقول

    الديموغرافيا كما التاريخ والجغرافيا ،تفرض ان تكون العلاقات بين البلدين علاقات حسن جوار ، قائمة على الاحترام المتبادل للطرفين .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.