الفراغ السياسي في السويداء مرة أخرى

ما تفتقره محافظة السويداء لليوم، رغم تاريخها الوطني العام، وحضورها الاستيعابي وغير العدائي لليوم، ورغم امتلاكها الإمكانيات المتعددة علمياً وفكرياً وسياسياً، هو قدرتها بالتعامل مع الواقع السياسي بمعطياته السياسية والاجتماعية والمعارضة بعقل جمعي يخلص لنتيجة وآليات عمل محددة، لا بعقل استفرادي يخلص لنتيجة تهكمية وعدائية؛ كما يعوزها هذا التوافق بين موقف حماية الأرض والعرض الراسخ “معروفيّاً”، وإمكانية ولوج المسألة الوطنية السورية بقوة وهذا شرط سياسي، ما لم تدركه قواها الأهلية الحية ومثلها المعارضة فعلياً، فعليها تحمل نتيجته التاريخية اليوم وغداً.
تكثر في الآونة الأخيرة الأحاديث المتعددة حول سيناريوهات متعددة للمنطقة الجنوبية، وخاصة السويداء. أوضحها الإعلانات المتكررة لدعاة الإدارة الذاتية ووصلها بمنطقة شرق الفرات بعد تردد تسريبات عن عمل عسكري واسع في المنطقة الشرقية في دير الزور والبوكمال، لإقفال الطريق أمام إيران بدعم قوى التحالف الدولي، وفي مقدمتها أمريكا. فبينما تستمر الكارثة السورية في تعقد مساراتها، تواصل السياسة الدولية بتكثيف أدوار اللاعبين الدوليين والإقليمين في تقرير مصيرها كلية وجزئياً؛ كلية في مرجعية تحديد شكل الوجود السوري في محيطه الحيوي الإقليمي والعربي بين مبادرة عربية وأخرى روسية تركية، مع تراجع واضح في مخرجات سوتشي الروسية أو جنيف الأممية! والجزئية فيه شكل تحديد أدوار الضالعين في الملف السوري بآلية تقاسم نفوذهم العسكري، وبالضرورة السياسي والاقتصادي في كل موقع أو محور على أرض الواقع، تتباين فيه المصالح وتتحدد معه خطوط عريضة في ذلك خاصة على بوابات سوريا الجغرافية. فشرق الفرات خلاف غربها، بينما تبدو صورة الجنوب السوري مبهمة لليوم ويكتنفها التساؤل والغموض خاصة في السويداء.
السويداء التي عبّرت لليوم عن عقل “امتصاصي” استيعابي لمجمل متغيرات وكوارث المسألة السورية، تحاول بكل طرقها وأدواتها الدينية والسياسية والأهلية امتصاص متغيرات الحالة السورية والحفاظ على تماسكها “الوجودي” وعدم الانجرار في أتون الحرب الدائرة في معظم المناطق السورية طوال السنوات الفائتة؛ من انكفاء شبابها عن الالتحاق بخدمة العسكر فيها، واكتفائها بحماية “أرضها وعرضها”، حسب مفهومها التاريخي لوجودها كأقلية دينية بعامها تكتفي شر الحرب ومحاولة البحث عن الاستقرار السياسي مترافقاً مع الكرامة والأمان.
أسئلة السويداء اليوم تكاد تنحصر في نقاط محددة:
هل هي في مواجهة ساخنة قادمة كشكل عقابي على موقفها الحيادي هذا؟ وما شكل هذه المواجهة ونتيجتها؟ خاصة مع بروز خلل واضح في قوتها المفترضة بحركة رجال الكرامة بعد تعرض قائدها ومساعديه لحادث سيارة أدى لنقلهم للمشفى وخضوعهم لعمليات جراحية متتالية، ولليوم لم تبدِ الحركة أي تصريح عن نوع الحادث ومآلاته سوى بكلمتي القضاء والقدر، فيما تكاد تخلو الساحة للعديد من الفصائل المتنافسة على أن تكون بديلاً للحركة برمتها أو قائدها.
هل هي في مضمار المخططات الدولية لما يشاع بين الحين والآخر عن “دولة درزية” بلا مقومات وجود الدولة أصلاً؟ وهل هي مرشحة لخوض معركة مع أو ضد ما يشاع عنه من تسريبات أمريكية في جنوب شرق الفرات؟
أما السؤال الذي يبتعد قليلاً عن فكرتي الاستعداء الأولى والمؤامرة الثانية، هل يمكنها أن تلعب دوراً وطنياً في المسألة السورية مرة أخرى كما كانت في 1925؟
يبدو أن السؤالين الأولين مثار قلق دائم وترقب واستنفار عام تحاول كل جهة فيها الإجابة عليه منفردة، فموقف “رجال الكرامة ومن حالفهم” هو الموقف الذي يفسر الحالة الاستيعابية لكافة المشاكل التي تمر على ساحة المحافظة والمتمثل في:
عدم الانجرار لقتال داخلي بين أبناء المحافظة، فمواجهة كهذه كلفتها على الشارع المحلي عالية دماً ووجوداً واستقراراً.
عدم المبادرة بأية ردة فعل مسلحة تؤدي لمواجهة مباشرة مع سلطة النظام، ولا رغبة لحركة رجال الكرامة بالمواجهة معه اليوم ما لم يفرضها هو، وهذا سؤال قلق دائم!
الموقف الآخر هو الموقف الاجتماعي والديني الرسمي والذي ينوس بين المواربة والغموض، ويتسم عامه في قبول معادلة السلطة الحالية مع تحميلها ضمناً مسؤولية الفلتان الأمني القائم، لكن دون التعرض لمركزيتها بذلك بقدر الاكتفاء بالإشارة لأذرعها الفاعلة من عصابات الخطف والإجرام وتجارة المخدرات. وهنا تتباين المصالح الشخصية فيه حيث ثمة من يرغب بالمحافظة على مكاسبه السلطوية المحلية اجتماعياً أو دينياً، وبين من يحاول الخلاص من قبضة السلطة الأمنية العامة خاصة في موضوعات وملفات الخدمة الإلزامية والملفات والسياسية، وبين هذا وذاك يحتار المواطن العادي في عيشه وأمنه وطريقة تدبير حياته، فلا سلطة النظام تقيم له اعتبار أو وزن وتصرّ دائماً على التقليل من شأنه ووجوده، يتجلى هذا وضوحاً في الاستنزاف المادي والاقتصادي المتتالي للمواطن السوري ومثله في السويداء مع الانهيارات المتتالية لليرة السورية شبه اليومي.
مقابل هذا يبدو الفراغ السياسي هو الأوضح لتملأه بعض اللفتات الإعلامية، والتي لم تدقق في قدرتها أو امكانيتها، من دعاة العمل السياسي بتشكيل مكاتب خدمة وصحة… تهدف العمل بديلاً عن مؤسسات النظام، تلك التي صرح عنها ما يسمى بحزب اللواء السوري. والملفت للنظر قوله إنها بالتنسيق مع قسد، والتي أنشأها بديلاً عن خطه العسكري السابق الذي مني بضربة عسكرية لذارعه “قوة مكافحة الإرهاب” العام الماضي، وكأن لسان حالهم يصر على القول: ما دامت الساحة فارغة لما لا نستجر المال تحت عناوين وأوهام إعلامية إلى ما شاء الله. والتناقض الفج والباين هنا أن ما يسرب عن مخططات لجنوب شرق الفرات ووصله بالجنوب السوري يتطلب العمل العسكري في المنطقة، فعلى أي أوتار الزيف السياسي تستمر هذه الألعاب المفرغة من المعنى والهدف والإمكانية؟
في المقابل، ثمة غياب فاضح للدور السياسي المعارض، الدور المؤول ذاتياً بأنه قام بما عليه واكتفى! وكأن الغالبية بأحزابها المعارضة والتقليدية وبتشكيلاتها المحدثة تكتنفها حالة الرضا عن الذات كما الترقب أيضاً دون الفعالية وهنا السؤال الصعب؟ فغالبية المكونات السياسية والاجتماعية المعارضة على ساحة المحافظة، ورغم تمسكها بالحل السوري العام، ورفضها بدائل الإدارة الذاتية وكشفها لمشاريع الوهم السياسية ومروجيها في حزب اللواء، لكنها بذات الوقت لا تمتلك القدرة على أي فعل يحدث فارقاً في المعادلة، وكأنها وصلت إلى طريق مسدود سواء في القدرة على الحركة أو التوافق على متغيرات الحالة السورية وبالضرورة الوصول لتوافقات مختلفة عن الأساس التي بنيت عليه. وتتركز لقاءاتها على اجترار بعض الأحداث التي تولدها الأزمة السورية عامة وارتداداتها على المحافظة وطول نفقها المعتم سياسياً؛ ما يهدد كياناتها السياسية بالمزيد من العزلة والتشظّي والإغراق في مشاكلها البينية ذات المرجعية الأيديولوجية.
إجابة السويداء اليوم في المسألة السورية قد تبدو ضعيفة بحكم التوازنات والمصالح الدولية الحاكمة في سوريا، ومشتتة بحكم وجودها السياسي المعارض، لكنها ما لم تكن على مستوى التحديات الممكنة والمقبلة، فيخشى أن تفرض عليها عنوة إحدى نزعتين، مركزية سلطوية عسكرية أو دينية إثنية مغلقة، أو كلاهما معاً، فهل ثمة إجابة أخرى؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.