الأسد والطائفة والثورة

بعد إنقلاب حافظ أسد على رفيقه صلاح جديد وزجّه بالمعتقل إلى حين موته…خلت له الساحة السورية عامة والبيئة العلوية خاصة …فكان الزعيم الأوحد لسوريا والمتصرف الأول بشؤون الطائفة والتي أعاد تركيبها وبناءها وفق رؤيته الخاصة بعد أن كانت سياسية تطييف الجيش السوري تؤدي أغراضها كما أنّ حملات تسريح الضباط تحت حجج مختلفة وإدخال معلمي مدارس وموظفون عاديون إلى الجيش وجعلهم ضباطاً قد ساهم بحرق مراحل كثيرة حيث أصبحت أغلبية الضباط من الطائفة العلوية إضافة لوضعهم بالمراكز الحساسة والمهمة كما أنّ عماد الجيش من صف الضباط المتطوعون كانوا من اللطائفة أيضا وهم فئة المساعدين الأوائل …وإستفاد الأسد من فتح باب الإنتساب ( سابقاً) للجيش لكل أطياف الشعب السوري وساعده اكثر عزوف ابناء الطائفة السنية عن الإلتحاق بأجهزة الجيش والأمن وتفضيلهم دراسة الطب والهندسة والحقوق ومختلف العلوم كأساس للتميّز الإجتماعي…
إعتمد الأسد الأب في حكمه على النواة الصلبة من الضباط العلويبن وكانوا من أشدّ الموالون له ولم يخشَ خيانتهم له… وجعلهم مراجع وأقطاب في بيئتهم….حيث عمل الأسد الأب على تحطيم البنى العشائرية للطائفة العلوية كونه لاينتمي إلى عشيرة قوية منها…وقضى على كل الشخصيات المدنية وقَوّض مراكزها بحيث لم تعد أي قوة إجتماعية تهدد موقعه و بحيث كان الأسد مرجع الجميع الوحيد عبر مجموعة الضباط التي تولّت ترتيب أوضاع السكان وتنظيم علاقتهم بالسلطة وتوزيع المنح والمكاسب والغنائم عليهم…
وأغفل الأسد الأب باب التنمية عن سهل الغاب والساحل عموماً فلم تهتم الخطط الخمسية للدولة السورية باي مشروع تنموي ذو قيمة ولو حتى بالمجال الزراعي أو تربية الحيوانات تناسب البيئة الفلاحية الريفية للطائفة ..وإضطر الشباب بتلك المناطق للتطوع بالأجهزة الأمنية والعسكرية للحصول على مصدر للرزق… مع المغريات التي تقدمها السكنى بالمدن الكبيرة وخاصة دمشق وحلب ..
حكم الأسد بقبضة حديدة كلّ السوريين وكانت عقوبة العلوي المعارض أشدّ قساوةً من غيره لأنه يُعتبر ناكراً للجميل..وحيكت قصص عن مظلومية علوية مارسها كبار الإقطاعيون من السنة لا أساس لها من الصحة ..حيث كان الفلاح العلوي يعامل كالفلاح السني .. ساعدت تلك المظلوميات عندما تم تداولها بين أبناء الطائفة على التماهي أكثر مع أجهزة السلطة والإستقواء بها بل أحياناً للإنتقام من مظلوميات كاذبة وتَشكّل وعي جمعي عند منتسبي الأفرع الأمنية والجيش من العلويين أنّ السنة إذا ما تمكنوا من إسترداد السلطة فسيفعلون بكم الأفاعيل…
ساهم النظام عبر دعايته بترسيخ ذلك المفهوم في أحداث نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات عند الإصطدام مع جماعة الأخوان المسلمين والتي تَوجّها الأسد بمجزرة وحشية في حماة حيث تم قتل خمسون الفاً من المدنيين بدم بارد بسبب إنتمائهم الطائفي …تركت تلك المجزرة جروحاً وأخاديد لايمكن نسيانها بسهولة واسهمت بتكربس مفهوم ان العلويون بعد إرتكاباتهم إن تركوا السلطة فسوف يَحلّ بهم ماحلّ بأهل حماة وسيكونون عُرضة للإنتقام وأخذ الثار
بالطبع خرجت حركات وأحزاب وشخصيات من البيئة العلوية عارضت النظام وعوقبت بأشد أنواع العقاب …وقد أسهمت فترة الإزدهار التي مرّت بالسبعينات والثمانينات بخروج طبقة من شبابهم حازت على أعلى الشهادات وتمّ تعيينها في مفاصل مدنية حساسة بالدولة أسهمت في إحكام سيطرة الأسد على ماتبقى من أجهزة في الدولة..وسارت الامور على هذا المنوال إلى ان حدثت الثورة السورية
لم يجد نظام الأ سد في آذار 2011 صعوبة بشدّ عصب الحاضنة الصلبة وكانت أولى صرخات الحرية والتخلص من الإستبداد من الجماهير الغاضبة كافية لإنقسام المجتمع السوري إلى فئتين فئة مع النظام بنيتها الصلبة من الطائفة العلوية إضافة لأعداد من باقي ألوان الطيف السوري وفئة مع الإطاحة بالنظام بنيتها الصلبة من الطائفة السنية مع طيف واسع من باقي الألوان التي تُشكّل قوس القزح الثوري السوري…
ضحى الأسد بأكثر من مائة ألف من شباب الطائفة بين عمر ال20 عاما وال35 عاماً على مذبح إحتفاظه بالسلطة….وقُتِل كل أولئك الشباب العلوي خارج مناطقه في إدلب ودرعا وحلب ودير الزور وغيرها ولم يكن مدافعاً عن أهله وقراه وبلداته كما أفهمه النظام ..وتمّ تسمية مدن ومحافظات بمدن الأرامل… وأحدثت تلك المقتلة تغييراً كبيراً في البنية الديمغرافية بفقدان الذكور في عمر الزواج والإنجاب تحتاج لعشرات السنوات لمعالجة آثارها
كان الدعم الإيراني اللامحدود لقوات الأسد ومن ثَمّ النزول الروسي العسكري الى الارض إلى جانب قواته يعطي طمأنينة بأنّ النصر قادم لامحالة في ظل إنفضاض الداعمين عن قوات المعارضة العسكرية والمدنية …وبأنّ النصر القريب سينهي ماعاناه الناس من سوء الأحوال المعيشية ونقص الخدمات ….
وبالطبع كان نظام الأسد يُعامل القتلى من الحاضنة بمنتهى الإزدراء و الإستخفاف إذ تم رصد التذمر من ذلك بعد إهداء أهل كل قتيل ساعة حائط أو سحارة برتقال عند إستلام أهله للجثة..وأظنّ أنّ النظام كان يهدف لإفهامهم بأنّ أولادهم يؤدون واجباً وطنياً عادياً في خدمة العلم او حماية الوطن (كبقية السوريين الآخرين ) من مؤامرة كونية تُحاك ضده و أنهم بالذات يدافعون عن أنفسهم وأهليهم وليس عن عائلة الأسد ونظامها خشية التعرض لحرب إنتقام وثأر من ضحاياهم من السنة ولامِنيّة لهم عليه..
إنتهت العمليات الكبرى العسكرية بربيع 2020…ودخل قانون قيصر حيز التطبيق…وبات حلم إستعادة مناطق من شرق الفرات وخاصة آبار النفط من أيدي قسد ضرباً من المحال..وبدأت سلسلة إنهيارات بقيمة الليرة السورية تتوالى وقدرة حكومة الأسد على تقديم الخدمات تنخفض…وبدأ تململ شعبي يسود مناطق سيطرة الأسد كلها وخاصة مناطق الساحل حيث بات شبه واضح شعور بالخيبة وعدم قدرة الأسد وحلفاءه على تحويل تقدمهم العسكري على الأرض إلى منجزات سياسية وإقتصادية أمراً يجب التعايش معه مع إستمرار الأمل بخرق ما من هنا او هناك حيث اعتادوا من الأسد اللعب على التناقضات الإقليمية والدولية… وبات من المؤكد أنّ حليفي الأسد الصلبان يمكنهما المساعدة فقط بالجانب العسكري أما بالجانب الإقتصادي فلاقدرة (او رغبة) بذلك…ومع تفاقم وإستشراء حالات الفساد في الطبقة العليا من السلطة وأمراء الحرب وإتجاههم للعمل مع الأسد بتصنيع وتهريب الكبتاغون وتشكيل طبقة خاصة بهم لا تُلقِ بالاً لمعاناة الجمهور الذي يَئنّ من تردي الأحوال المعيشية …
لاحت بارقة أمل في صيف عام 2022 عندما بدأ غزل تركي إتجاه نظام الأسد (مع أنّ تركيا آخر أعداء الأسد والداعم الأول لقوى المعارضة السورية) ..تناغم الغزل التركي مع غزل عربي من بعض الدول ..وظنّ الجمهور أنّ قراراً دولياً قد تمّ إتخاذه بإعلان إنتصار الأسد والبدء بإعادة تعويمه خاصةً بعد خطوة المملكة العربية السعودية بإعادته إلى شغل مقعد سورية في الجامعة العربية…
ظنّ القوم أنّ تواجد الأسد في قمة جدة إيذانا بفتح خزائن المال العربي الخليجي أمامه ليغرف منه مايشاء تكفيراً عن خطاياهم في الدعم العسكري لمعارضيه. ومعاداته طيلة كل تلك المدة و كما اعلن في مقابلته الأخيرة أن الإرهابيبن بدعم من العرب هم من قام بتدمير البنية التحتية للمدن السورية وأحالها ركاماً..
لكن الليرة تنهار بإستمرار ولاتلتقط كل الإشارات او التحركات السياسية…وظروف الناس تزداد صعوبةً وآمالهم تزداد خيبةً والافق يزداد إنسداداً ولاضوء يبدو في نهاية النفق…ومرّ أكثر من شهرين ونصف على تاريخ 19 ايار موعد قمة العرب في جدة ولم تصل طلائع الأموال وأيقنوا أنها لن تصل فلا الأسد إلتزم معهم بما إتفقوا معه في إجتماعات عمان وقمة جدة ولا الأمريكان ينوون وضع سيف قيصر في غمده …وفي مقابلة الأسد مع سكاي نيوز قطع الشعرة الأخيرة مع العرب عندما قال إنّ قانون قيصر لايُشكّل عقبةأمام من يريد مساعدة نظامه متهماً العرب بعدم الرغبة بذلك أو إفتقارهم للسيادة أو الشجاعة التي تجعلهم يَتحدّون الإرادة الأمريكية….
على وقع إنسداد الأفق وتهاوي الليرة أمام الدولار تبلورت حركات مدنية مناهضة لإستمرار سلطة الاسد وسيرها بذات المنوال من السياسات كحركة 10 ادآب وحركة الشغل المدني وحركة الضباط العلويين وتقول تلك الحركات إنها تمتد على ساحات الوطن كله ولاتقتصر على مناطق الساحل السوري …بالإضافة لتمرد أهلنا الدائم في الجنوب السوري في جبل العرب وسهل حوران ورفع سقف شعاراتهم وإعتبار الجميع أن الأسد هو المشكلة ولايمكن أن يكون جزء من الحل ولايملك هو نفسه أي حل بعد ظهور زيف حركته الأخيرة في رفع الرواتب وإلغاء الدعم الحكومي ورفع الاسعار ..
يجب دعم تلك الحركات و التحركات من قوى الثورة والمعارضة أينما وجدوا سواء في الداخل السوري أو خارجه وعدم التشكيك بمصداقية تحركاتها ودعم أي صوت أو تمرد آخر ممكن أن يظهر لاحقاً إذ أنّ تضافر الجهود بين الجميع ستكون السبب في إزالة الكابوس الأسدي الجاثم على صدور الشعب السوري بأكمله وعند التخلص منه يحدونا الأمل بعد عدالة إنتقالية تحفظ حقوق الجميع أن يتعافى النسيج المجتمعي السوري من كل تلك الأخاديد والجروح التي سببتها له عائلة الأسد طيلة نصف قرن وتبقى الندوب بعد إلتئام الجروح ليس صعباً تجاوزها والتغلب عليها..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.