إنعكاسات توتر العلاقات التركية الروسية على الملف السوري

لم تكن العلاقات التركية الروسية والتي بدأت فعلياٍ بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية في الأجواء السورية من قبل الجيش التركي قائمة على أساس مؤسساتي ومصالح مشتركة بعيدة المدى….إذ تختزن الذاكرة الجمعية لكلا الشعبين ثلاثة عشر حرباً بين الإمبراطورية الروسية والعثمانية ..وإنضمام تركيا باكراً لحلف الناتو …بل إنّ المواجهة النووية التي كانت قاب قوسين أو أدنى بين الإتحاد السوفييتي والولايات المتحدة عام 1962 فيما عُرفت وقتها بأزمة خليج الخنازير كانت بسبب وجود صواريخ بالستية نووية أمريكية في تركيا مُوجّهة نحو المراكز الحيوية في الإتحاد السوفييتي..حيث كانت تركيا هي الدولة الوحيدة من حلف شمال الأطلسي والتي تشترك بحدود برية مع الإتحاد السوفييتي
كانت تلك العلاقات ( والتي عادت لها الحميمية نظراً لتشابك الملفات بين البلدين ورغبتهما في منع الصدام المباشر بينهما ) تقوم في جزء كبير منها على توافق في كاريزما جمعت بين رئيسي البلدين …فكان عندما يعجز المساعدون عن حل أي قضية شائكة يلجؤون لعقد قمة بين الرئيسين تكون غالباً مغلقة لايحضرها أحد من المعاونين وتكون كفيلة بحلحلة اي خلاف يعترض مسيرة العلاقات بينهما…وكان تَعدّد اللقاءات في كل عام عادةً درجت في الأعوام الأخيرة وغالباً ما كانت تحمل أجواءاً غير رسمية كمشاهدة الرئيسين يأكلان البوظة أو قيام الرئيس التركي بتقديم ثمرة التين التركي بنفسه لضيفه الروسي …ولكن أيضا تلك العلاقات الشخصية بين الرؤساء لاتخلو من توجيه رسائل ما كترك كل واحد للآخر ينتظرة لدقيقة أو أكثر قبل أن يصل اليه….
ما أريد التأكيد عليه صفة الطابع الشخصي للعلاقة بين الزعمين وإنسحابها على علاقة الدولتين مع بعضهما
وكان موقف الرئيس التركي من الغزو الروسي لأوكرانيا مقبولاً( إلى حد ما ) من الرئيس الروسي بسبب عضوية تركيا في حلف الناتو وتميّز موقفها عن بقية أعضاء الحلف …حيث أخذت خطوات جوهرية ( كإغلاق المضائق البحرية بوجه الإسطول الحربي الروسي وفق إتفاقية مونتيرو ) لكن تركيا لم تنضم لحلفائها الغربيين في تطبيق العقوبات التي تم فرضها على روسيا …وبالفعل كانت تركيا رئة مهمة يتنفس منها الإقتصاد الروسي طيلة الفترة المنقضية من أشهر الحرب…
كان البلدان بحاجة لإستمرار العلاقات بينهما ويجدان فيها مصلحة مشتركة….وكان أن اعطى الرئيس الروسي لنظيره التركي فرصة لعب الطرف الوسيط القادر على التكلم مع سيد الكرملين…حيث إستضافت أنقرة قمة مبكرة بين وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا …ولعبت تركيا دور الوسيط بعملية تبادل أسرى بين البلدين …وقامت أنقرة مع الامم المتحدة بدور الوسيط في رعاية وضمان إتفاق إخراج الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود …
كما أنه لايخفى دعم أو تفضيل الرئيس الروسي للرئيس أردوغان بالفوز بولاية رئاسية جديدة ضد خصومه من المعارضة التركية التي يدعمها الغرب العدو الرئيسي لبوتين.
كانت تركيا في لحظة مفصلية تاريخية بعد فوز الرئيس بولاية جديدة هل تعيد بوصلتها باتجاه الغرب ؟أم انّ أنصار أوراسيا من الترك يحرفون البوصلة شرقاً نحو مويكو وبكين وطهران..بالإضافة لتفعيل مشاركتها بالمنظمات الدولية التي تتحدى منظمات النظام الدولي الحالية كمجموعة البربكس الإقتصادية ومنظمة إتفاقية شنغهاي السياسية وإلى ما هنالك من تجمعات برعاية صينية وروسية منافسة للنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة …
كان الإقتصاد التركي في مرحلة حرجة ويحتاج لتعاون مع الغرب لتعافيه وكان تعيبن الرئيس لفريق إقتصادي كفووء متمثلاً بوزير مالية ومحافظ للبنك المركزي معروف توجههما الغربي…
ويبدو أنّ تكريس الإنعطافة التركية غرباً قد بدأت مؤشراته بالظهور قبل قمة الناتو الأخيرة في ليتوانيا ..حيث باتت مسألة إنضمام السويد رسمياً إلى حلف الناتو مسألة وقت بعد أن إنضمت عملياً وذلك لعدم إستعمال تركيا حق الفيتو بوجه طلبها…وهو بالطبع أمر يُغضب الرئيس الروسي جداً.
والصاعقة الكبرى كانت في المؤتمر الصحفي المشترك للرئيسين التركي والأوكراني حين أيّد الرئيس التركي طلب إنضمام أوكرانيا لحلف الناتو ( والذي ترفضه حالياً الولايات المتحدة ومعظم دول الحلف )..وهو أمر حساس وخطير ويُغضب الرئيس الروسي جداً ويمس بجوهر شنه للحرب على جارته الشرقية…إضافة لخروج تصريحات من وزير الخارجية الأمريكي عن تأييد بلاده لطلب إنضمام تركيا للإتحاد الأوربي وبالطبع هذه رغبة تركية قديمة وإحياؤها الآن يحمل دلالات التوجه الغربي لتركيا نحو الإتحاد الأوربي وإدارة الظهر للإتحاد الروسي
أما الصفعة الشخصية القوية لبوتين فكانت وكما وصفها الإعلام الروسي بأنها طعنة في الظهر هو عدم التقيد التركي بالشرط الروسي عند تبادل الأسرى بين كييف وموسكو بإبقاء قادة منظمة آزوف الخمسة والذين تم أسرهم في مدينة ماريوبل بإبقائهم قيد الإقامة في تركيا وعدم السماح لهم بالذهاب لأوكرانيا حتى انتهاء الحرب…وقد طلبت ( كما قيل ) السعودية والإمارات أثناء وساطتهما بإحدى عمليات تبادل الأسرى بإبقاء القادة الخمسة في الرياض إلا أنّ بوتين أراد إعطاء ذلك لأردوغان .
رسمياً صدر عن موسكو تصريحاً لرئيس لجنة الدفاع والأمن في الإتحاد الروسي فيكتور بونداريف ” إنّ تركيا تتحول لدولة غير صديقة بعد إتخاذها سلسلة من القرارات الإستفزازية”..وطبعا لايصدر تصريح بمثل هذا الوضوح في دولة الإستبداد البوتيني إلا بموافقة الرئيس أو الطلب منه ذلك شخصياً…
وكان الرئيس التركي في مؤتمره الصحفي مع زيلنسكي أعرب عن أمله بتجديد إتفاق نقل الحبوب والذي انتهى عملياً يوم 17 تموز الحالي وأعرب عن أمله بموافقة الرئيس بوتين على تمديده لثلاثة أشهر بدلاً من شهرين كما كان يحصل سابقاً وكشف عن زيارة قادمة لبوتين خلال شهر آب المقبل لتركيا حيث سيتم طلب ذلك منه.
كان الموقف الروسي عنيفاً إذ ردّت موسكو على تصريحات الرئيس التركي بعدم النيّة بتمدبد الإتفاق ( بما يعني عدم قبول الوساطة مرة ثانية من تركيا ) وأعلنت البحرية الروسية أنّ أي سفينة ستنقل الحبوب من الموانئ الأوكرانية ستعامل كهدف عسكري عدو وسيجري إستهدافها
يبدو أنّ شهر العسل بين موسكو وانقرة شارف على نهايته لأن إستمرار تلك العلاقة القائمة على الثقة الشخصية بين الرئيسين والتي يعتبرها بوتين أنها انتهت بعد خيانة الرئيس التركي له وطعنه في ظهره… ومن المتوقع أن يتم تأجيل تلك الزيارة أو لا تحصل أبداً واستمرار العلاقات ضمن المستوى الأدنى …
لكن ليس مرشحاً إنسحاب التوتر الجديد في العلاقات للدخول في خلافات كبرى او علنية نظراً لتشابك العلاقات بين البلدين حيث مرشح إستمرارها بين المؤسسات وبالحد الأدنى الذي يضمن مصالح البلدين إذا أنّ الطلاق البائن بينونة كبرى مؤجلاً الآن بين البلدين.
بالطبع سبنعكس ذلك التوتر على الملف السوري العالق بين البلدين ..وبسبب ضعف موسكو وعدم قدرتها على شنّ أي عملية عسكرية في الشمال السوري لتغيير الخرائط العسكرية وبظلّ رغبتها بعدم تغيير قواعد الإشتباك ..وحرصها على اولوية كبرى لها في ضمان حياد تركي في سعيها لإشعال حرب بين الولايات المتحدة وايران في سورية.. فان المجال الوحيد القابل لظهور التأثير عليه هو رعاية موسكو للمسار الرباعي حيث ستبدو موسكو الآن أقرب لمواقف النظام العالية السقف كشرط سحب القوات التركية للبدء بعدها بمناقشة ملفات أخرى حيث كانت أنقرة ترفض هذا الشرط وتعتبره مستحيلاً في حين كانت موسكو تُمسك العصا من المنتصف وتضغط بإتجاه وضع خارطة طريق وجدول زمني لسحب القوات التركية مع إستمرار عمليات التطبيع بين أنقرة ودمشق
يمكن إعتبار أنّ المسار الرباعي الذي ترعاه موسكو والذي كان يَحتضر أنه قد دخل الآن بغيبوبة ماقبل الموت نظراً لتغير الكثير من الظروف والمعطيات في الملف السوري والملفات المرتبطة معه.

تعليق 1
  1. Md khalifa يقول

    في هذا الزمان …
    كل السياسيين يلعبون بال( كشاتبين ) .
    وفي حالة الروسي والتركي
    فإن آخر همومهم سوريا مع السوريين .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.