في طريقٍ معاكِسٍ لايلتقيان

الحربُ لا يمكنُ تجنُّبها بوجودِ سلطةٍ قمعيّةٍ طاغيةٍ فاسدةٍ متشبثةٍ بالحكمِ الباطلِ وتشّنّ حرباً تفتكُ بالناسِ من أجلِ الحفاظِ على سلطتِها وهيمنتِها. فهل يمكنُ لعاقلٍ تصديق أنّ السّلامَ مع هذه السّلطةِ الإباديّةِ ممكنٌ وأنّ التّعايشَ مع إجرامِها محتمل؟
إنّه نوعٌ جديدٌ من الاستبدادِ باسمِ الديمقراطيّةِ يقودُه مؤيدون لسلطةِ النّظامِ أو أجيرون لحكوماتٍ أجنبيّةٍ استعماريّة خرجوا كمعارضين باسمِ ثورةِ الحريّةِ وتربّعوا في صدرِ السّاحاتِ الدوليّةِ للتحدّثِ في الشّأنِ السّوريّ ومصير سوريا، والوصولِ لحلٍّ سياسيّ، يسيرون في طريقٍ معاكِسٍ للوطنيّة السّوريّةِ ولمطلبِ الثّورةِ التّحرّرّيّ، ويطلبُون من السّوريين مناضلي الحريّة والمنكوبين بجرائمِ النّظامِ الطّاغيةِ التّعايشَ السّلميّ تحت بطشِه المؤيَّد بقوىً دوليّةٍ والتّصالحَ مع جرائمِه ويفرضون التّطبيعَ فرضاً بمسمى السّلام.
الطّاغيةُ الأسدُ ونظامُه لم يقتلوا السّوريين في حربٍ ضدّ أعداءِ سوريا؛ بل قتلوا الشّعبَ بحربٍ استعانوا فيها بأعداءِ سوريا وبالعصاباتِ والمرتزقةِ، وذلك لكي يحافظوا على السّلطةِ التي استولوا عليها بالبطشِ والفسادِ. فهل يمكنُ تعايشَ البشرِ والوحوشِ المفترسة؟. هل ينجحُ التّطبيعُ مع نظامٍ مجرمٍ هو أشدُّ فتكاً وسفكاً للدماءِ من الوحوشِ، وكيف يمكنُ تغييرُ سلوكِه الإجراميّ وتغييرُ ثقافتةِ الإجرامِيّةِ التي مزّقتْ البلادَ وسحقتْ الناسَ وشوّهتْ القيم؟.
صاحبُ القولِ الفصلِ في الأمرِ هو الشعوبُ التي تناضلُ مؤمنةً بما تفعلُ، ولا تكسرُها رياحُ التّثبيط؛ عندما ترى الحقَّ في جانِبها.
قد يرى الذين يناضلون طلباً للأمنِ والاستقرارِ وسعياً لنيلِ الحرياتِ الوطنيّةِ والمدنيّةِ، وبناءِ دولةِ القانونِ، والذين نكبتْهم حربُ الطّاغيةِ والمستعمرين، ودفعوا ثمناً غالياً؛ في مقولةِ التّعايشِ والتّطبيع تضليلاً وخداعاً وباطلاً يعاكسُ المصلحةَ الوطنيّةَ ويناقضُ الحقَّ الإنسانيَّ في العيشِ الكريم واحتكارا استعمارياً للقرارِ السّوريّ. فالحربُ التي طالتْ واتّسعَ دمارُها أفقدتْهم الثّقةَ بكلّ الحلولِ المعروضةِ؛ فهي فشل وهدرٌ للوقتِ والدمِ والجهدِ، وبكلِّ الأشخاصِ المتكّلمين باسمِها في السّاحةِ الدّوليّة، فهم كاذبون وجبناء، لا يعملون بموجبِ قضيّةِ الحريّةِ وبحسٍّ وطنيّ سوريّ.
الحرية ليست نخبوية وفئوية
نخبةُ من المنافقين استولتْ على المشهدِ السياسيّ، يؤدّون دورَ الثّورةِ والتّحرّرِ والوطنيّةِ، وأفعالُهم نقيضُ ذلك؛ يتملصّون من مسؤوليةِ الدّفاعِ عن حقّ الإنسانِ السوّريّ في التحرّرِ والاستقلالِ ونيلِ الحقوقِ المدنيّة، وحقِّه في نظامِ حكمٍ لا يحتكرُ السّلطةَ ولا يستغلّها، وحقِّه بمحاكمةِ مرتكبي جرائمِ الحربِ في عهدِ نظامِ الأسدِ الأبِ والابنِ ومحاسبتِهم، وعوضاً عن ذلك يكافئون المجرمَ بمزيدٍ من دم الضحيّةِ. رماديون وآخرون يقفون في صفِّ الأنظمةِ المستبدّةِ والمستعمرةِ، وهم أشدُّ خطراً لأنّهم ممثلون يرتدون أقنعةَ الديمقراطيّةِ وحقوقِ الإنسانِ والسلامِ، ويستغلّون واقعَ الثورةِ والحربِ والفوضى لمصالحهِم وعلاقاتِهم المرتبطةِ بمنظّماتٍ سياسّيةٍ واقتصاديّةٍ وأيدولوجيةٍ على حسابِ مطالبِ الناسِ بالأمنِ والاستقلالِ في إدارةِ حياتهِم وبلادهِم ومؤسساتِهم بما يحمي حقوقَهم المدنيّةَ والسياسيّةَ.
من يصرّ على السّيرِ بمحادثاتِ التّسويةِ السّياسيةِ وجلساتِ التّفاوضِ ويراهن عليها بعد فشلٍ طويلٍ؛ فهو يذبحُ المصيرَ السّوريّ؛ فلن تتخلّصَ الدولُ التي توقدُ في الحربِ السّوريّةِ من السّفاحِ قبلَ أنْ ينجزَ مهمّتَه في التّدميرِ الوطنيّ الكاملِ وسحقِ مابقي من إرادةِ الشّعبِ وطموحِه في التّحرّر. لن تتخلى عنه الدّولُ الاستعماريّةُ والدّخيلةُ ولن تقررَ الخروجَ من سوريا والانسحابَ من صراعِها قبل أن تصلَ لمآربها.
المبدأ الحقيقيّ لا يسقطُ لأّنّ جمهورَه ليسَ بأغلبيّة
لا شكّ أنّ الحربَ الدّوليّةَ كبيرةٌ مدمّرةٌ لكنّ الأخطرَ والأسوأَ هو الخيانةُ الوطنيّةُ ودعمُ الأنظمةِ الغاشمةِ الباغيةِ في محاربةِ شعوبِها الثائرة. فالحريةُ هي شرطُ الحياةِ الكريمةِ، ومن حقِّ الشّعوبِ والمجتمعاتِ والأفرادِ التّمتّعُ بها أو القتالُ دفاعاً عنها. حتى لو انتهتْ المعركةُ بخسارةٍ بسببِ اختلالِ توازن القوى؛ فالخسارةُ مع المقاومةِ والنّضالِ هو أمرٌ مشرّفٌ ونبيلٌ ويمهّد للنّصرِ الكبيرِ، فلا قيمةَ للعيشِ من دونِ الحريّةِ والحقوقِ. التّجربةُ تصقلُ العملَ وقد تتغيرُ الأمورُ بالخبرةِ والإصرارِ على المقاومةِ. ربّما لا ينجحُ الشّعبُ في تقرير مصيرِه السّياسيّ بسببِ قوّةِ الأنظمةِ المهيمنةِ على واقعِه الآن، ولخللٍ في نسيجِ المجتمعِ الذي مزّقه الاستبدادُ وتدخّلُ الاستعمار، لكنْ يجب ألا يتوقفَ النضالُ وأنْ تستمرَ الحربُ للاستقلالِ وإسقاطِ الطّاغيةِ الدميةِ حتى وإنْ لم تقفْ أغلبيتُه وقفةً واحدةً ثابتةً للمطالبةِ بالحريّة.
لا عجبَ أنّ الحماسةَ الوطنيّةَ قد تراجعتْ، بسببِ الحربِ، عما كانتْ عليه في بدايةِ الثّورةِ لما كانتْ الناسُ متفائلةً جداً مؤمنةً أنّها تناضلُ لقضيةٍ عادلةٍ وأنّ العالمَ الحرَّ سيقفُ معها وأنّها ستحقّقُ نصراً عظيماً، لكنّ نيلَ الحقوقِ والحريّات ليس بأمرٍ بسهل، خصوصاً لما تكون قضايا التّحرّرِ السّياسيّ شأناً وطنيّاً مختلطاً بصراعٍ دوليّ في غايةِ التّعقيدِ ولا يتفقُّ عليه الجميع داخليّاً وخارجيّاً؛ ولا يتشاركون الرّؤيةَ ذاتَها والمصيرَ الواحد. المبدأ الحقيقيّ لا يسقطُ لأّنّ جمهورَه ليسَ بأغلبيّة. ولا يعني أنّه غيرُ صحيحٍ وغير مشروع. الافكارُ والمبادىءُ لا تصبحُ حقيقةً لأنّ أغلبيةً تريدُها، لكنْ لأنّ عدداً كبيراً من الناسِ يدافعُ عنها ويعملُ لها ويؤمن بها ويناضلُ لأجلِها.
المستقبلُ لأبناءِ الحرية مادام النضالُ لأجلها مستمراً بعزمٍ وللجهةِ السّليمة. إسقاطُ النّظامِ وميليشياتِ الحربِ وتجّارِها عوضاً عن العملِ الأجيرِ للدولِ المستعمرةِ، هو الذي يجلبُ السّلامَ ويؤدّي للتعايش السلميّ، لا التطبيعُ مع النّظامِ القمعيّ والخضوعُ لإملاءاتِ المنظومةِ الدوليّة وأوامرِها وتدخلِّها الاستعماريّ الذي دمّر سوريا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.