عودة أوربية للشرق الأوسط بالتزامن مع حرب الممرات التجارية الجارية الآن

من المعروف أنّ الشرق الأوسط أو المنطقة العربية منه تُمثّل قلب العالم وممر لكل الطرق التجارية بين الشرق والغرب وعلى أرضه دار كل الصراع العالمي بين الحضارات قديماً للسيطرة عليه…وبعد أن تمدّدت الإمبراطورية العثمانية وسيطرت عليه لقرون طويلة وقطعوا طرق الحرير البربة بين آسيا وأوربا إضطر الأوربيون المستعمرون للبحث عن طرق أخرى فكان إكتشاف رأس الرجاء الصالح والدوران بحراً عبر القارة الأفريقية للوصول لأوربا ..وعندما بدأت الدولة العثمانية يظهر عليها علامات الشيخوخة والضعف لم يخفِ الغربيون نهمهم للتدخل في أملاك الرجل المريض وكان التدخل الغربي تحت ذرائع حماية الأقليات لنخر الدولة وإضعافها ..
ثم مالبث الفرنسيون أن إستعمروا شمال أفريقيا وطردوا العثمانيون منه ثُمّ إحتل الإنكليز مصر وتم إفتتاح قناة السويس … وبعدها احتل الإيطاليون ليبيا …وكان الجزء الآسيوي من الشرق الأوسط العربي هو الغنيمة الغربية الكبرى من هزيمة الدولة العثمانية وعودة الأوربيين إليها كفضاء حيوي ومنطقة أمن إستراتيجي لهم ..وقد يكون هدفهم بعد زرع دولة بني إسرائيل فيه منع تكرار تجربة الدولة الشرقية القوية التي جَسّدتها الإمبراطورية العثمانية…فكان خطاً أحمراً عدم قيام مملكة عربية كبرى في تلك المنطقة وتَمّ النكوص بالوعود التي تم تقديمها للحسين بن علي وتم تقسيم المنطقة الجغرافية الواحدة في بلاد الشام والرافدين إلى عدة دول مُصنّعة و مأزومة في نشاتها ولاتَقدِر على النهوض بمفردها وبالطبع ممنوع تَجمّعها أو تَوحّدها وكان الخنجر العبري في المنطقة والمشحوذ غربياً هو التجسيد العملي لمنع فيام دولة كبرى في المنطقة تُشكّل خطراً على القارة الأوربية….وهو ما حصل بالفعل….وكان إضعاف المحيط العربي السني سياسة إسرائيلية معلنة…
إستمر النفوذ الأوربي في المنطقة لحين إنتهاء الحرب العالمية الثانية حيث خرجت اوربا مُحطّمة ومُنهكة من الحرب فيما برزت القوتان الرئيسيتان المنتصرتان كطرفي الصراع البارد في العالم وإنقسم الأوربيون لمعسكرين جزء مع الإتحاد السوفييتي والجزء الغربي من القارة والذي أصبح عجوزاً وسَلّم الراية للقوة العظيمة الغربية وهي الولايات المتحدة الأمريكية وصار يدور في فلكها مُتخلياً لها على القيادة العالمية ومنافسة العدو الشيوعي في الشرق…..
وكان للإتحاد السوفييتي بعض النفوذ في الشرق العربي حيث كان الداعم الرئيسي لدول العسكر القومي العربي ومصدر تسليح جيوشها الأساسي…وإستمر عنوان ومضمون الصراع العالمي في الشرق الاوسط بين القطبين السوفييتي والأمريكي ( حيث لم يُخفِ السوفييت رغبتهم بتحقيق حلم أجدادهم في الوصول للمياه الدافئة) بغياب كامل لأيّ دور جيوسياسي أوربي خاصةً بعد إتفاق الخصمين اللدودين على إفشال الغزو الفرنسي البريطاني لمصر عام 1956 فيما عُرِفَ بالعدوان الثلاثي الذي شاركتهما فيه دولة الإحتلال الإسرائيلي
شَكّل الشرق الأوسط بعد سقوط الإتحاد السوفييتي وعدم دخول دوله في مرحلة التحولات الديمقراطية أسوةً بدول أوربا الشرقية والتي كانت تحت الوصاية السوفياتية…
شَكّل الشرق الأوسط تهديداً حقيقياً في ناحيتين أرّقتا القارة وهي تَنتج عن عدم إهتمام القارة العجوز بالضغط لإجراء إصلاحات سياسية وإقتصادية وإجتماعية في الدول القريبة منها وإتجاه حكوماتها للتعامل مع حكومات الإستبداد العربي كأمر واقع وتلك المشكلتان التي عانت منها القارة الأوربية هي تَدفّق الهجرة غير الشرعية إليها بحثاً عن حياة أفضل إضافةً إلى إنتقال تداعيات الإرهاب إلى داخل دولها بل وفي مراحل الربيع العربي إنتقال بعض مواطنيها للقتال في صفوف تلك التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق وعودة البعض منهم الى دولهم…..إضافةً لموجات اللجوء الكبيرة بعد ثورات الربيع العربي وخاصةً من السوريين حيث لم تُسهم القارة عبر الإتحاد الأوربي أو الدول الفاعلة فيه بأيّ دور حقيقي أو مُؤثّر في البحث عن مخارج سياسية ملائمة في تلك الدول ..وكان دور الإتحاد الأوربي في معالجة قضايا المنطقة هامشياً ومُلحقاً بالدور الأمريكي ويقتصر فقط على تقديم المساعدات الإنسانية مع بعض بيانات التنديد بالمجازر أو التجاوزات المرتكبة …
وبالمقاييس العالمية يُعتبر البحر الأبيض المتوسط بحيرة وليس بحراً ..ضفتها الشمالية أوربية والجنوبية والشرقية عربية ولا تتعدّى المسافات مئات الكيلومترات بينهم..
ومتذ بداية القرن الحالي بدأت تتوضح ملامح التنافس والصراع في الشرق الأوسط بين قوتين عالميتين هما الولايات المتحدة وروسيا وثلاث قوى إقليمية متوسطة القوة هي تركيا وإيران وإسرائيل ..فيما كان الغائبان الكبيران هما اأوربا والعرب .
ويبدو أنّ الترهل الأوربي والإتكالية على الولايات المتحدة ساهمتا في التقوقع أو الإحجام الأوربي عن لعب أيّ دور جيوسياسي فاعل في مستقبل المتطقة .خاصة بعد خروج أهمّ دوله وهي بربطانيا العظمى من المنظومة الاوربية وإلتحاقها الكامل بالإستراتيجيات الأمربكية..
وإستمر الأوربي في لعب دور المراقب عن بُعد والمُكبّل اليدين والذي يَتمّ تصدير المشاكل إليه والطلب منه تقديم المساعدات الإنسانية لضحايا صراعات الخصوم أو المطالبة بإعمار ما هَدّمه المتحاربون……
أيقظ الغزو الروسي لأوكرانيا أوربا من سباتها الجيوسياسي . ووجدت نفسها غير قادرة على حماية نفسها من مطامع الدب الروسي والذي بدأ حربه عليها لتفكيكها وضَمّها إلى إمبراطوريته الأورآسيوية …ووجدت القارة العجوز نفسها مُدمنة على الطاقة الروسية لاتستطيع التخلي عنها و اكتشفت أنها لم تُدرك نوايا القيصر الروسي( مع ادأنها معلنة ) حول إعادة تشكيل مواقع النفوذ فيها والمطالبة بِحصّته السوفياتية المسروقة والسعي لتدمير المتظومة القيمية الأوربية السياسية منها والأخلاقية والإقتصادية ..
كان راعي البقر الأمريكي مُدركاً تماماً لنوايا الدب الروسي بالعبث بالغابة الأوربية المجاورة تمهيداً أو إعلاناً لتتويجه مناصفةً مع العم سام كوحوش للغابة العالمية دون منازع والعودة لزمن القطبين والثأر للهزيمة السوفياتية المذلة….
تَمّ إيقاف الدب الروسي الهائج في شرق أوكرانيا ونصب الأفخاخ له وإستنزافه لتخسيره الصراع بالنقاط وليس بالضربة القاضية….
والتفت الأوربيون لتأمين مصدر للطاقة بديلاً للطاقة الروسية والتي طلقوها طلاقاً بائناً لارجعة فيه…والتفتوا إلى جنوبهم الغني بالطاقة وحانت لحظة الحقيقة ودفع أثمان الموت السريري الإستراتيجي و الإنكفاء خلف الحدود ..كان الشرق الأوسط ساحة صراع بين عرب وإيرانيين وتقوم الولايات المتحدة بسياساتها المُرتبكة وضبابية إستراتيجيتها للمنطقة بإدارة ذلك الصراع وبدور يتآكل تدريجياً وكان بروز للنفوذ الصيني والروسي لا تُخطئه الأعين ..ودور تركي فاعل أهمّ بكثير من الدور الأوربي ..وكان بادياً أنّ الحروب الرمادية والتخادم بين إسرائيل وأمريكا من جهة وإيران التي يساندها الروس والصينيون ويعتبرونها رأس حربة لهم لطرد النفوذ الأمريكي من المنطقة أو إشغاله على الأقل وصرف إنتباهه عنهم…
كان المشهد كارثياً وبدأت صحوة أوربية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وبدأ موسم حَجّ اوربي لدول الخليج من الزعماء الأوربيون الرئيسيون لإصلاح ما أفسده الدهر والإهتمام بل الإنخراط في مشاكل المنطقة والتي ستكون شريان طاقة الحياة لهم بعد نسيان الطاقة الروسية ..وطريق تجارتهم من وإلى آسيا ….
وبعد الإعلان في قمة العشرين الأخيرة في الهند في أيلول الماضي عن ممر البهارات الهندي والذي يصل أوربا عبر الشرق الأوسط …قام المتضررون الشرقيون من هكذا ممرات تجارية ونقل الطاقة والتواصل المجتمعي والربط المعلوماتي والكهربائي وتطوير البنى التحتية الخ.. الذي يُرافق هذا الممر ..حيث إندلعت حرب الممرات البحرية وطرق التجارة البرية الدولية في شرق المتوسط…. بدأت في غزة وإمتدت لمضيق باب المندب في البحر الاحمر وبحر العرب مع إحتمال إمتدادها لمضيق هرمز والخليج العربي….
وكان الإنخراط الأوربي بحرب الممرات تلك واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار عندما أرسلت البحريات الاوربية أساطيلها الى سواحل شرق المتوسط قبالة غزة ولبنان وسوريا في إستعداد للحرب إن لم ينفع الردع وتقديم الدعم السياسي لحرب الابادة الاسرائيلية على غزة….وتشكيل تحالف حارس الإزدهار والذي يخوض بدايات حربه لتحجيم ثم تحطيم قوة ميليشيا الحوثي ..ومن المُرجّح أن تستمر حرب الممرات التجارية والبحرية والتي تنخرط عضوياً فيه القارة الأوربية لضمان شرق أوسط جديد ومُستقرّ وخالٍ من الأذرع الإيرانية دون الدولة مع إقصاء أي تواجد روسي عن شرق المتوسط .وتلك المنطقة الشرق أوسطية هي نواة جيوسياسية للنظام الدولي الغربي الجديد الذي يَتشكّل الآن بزعامة أمريكية وتقول من ليس معي فهو ضِدّي….

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.