حول التطبيع التركي مع نظام الأسد

يَتمّ بين الفينة والأخرى تناقل تحليلات وتوقّعات من مصادر مجهولة أو مُذيلة بإسم كاتبها ..منها يَهدف لحصد مشاهدات ومنها ( وهو الأهم ) يرمي إلى إحباط جمهور الثورة السورية وإضعاف مقاومته والنيل من صلابة إرادته التي مازالت قوية بعد مرور 13 عام على انطلاق ثورته على إعتبار أنّ الدولة التركية آخر الحصون …
ومؤخراً تَمّ تداول تهديدات لأحد شبيحة إعلام النظام على قناة عربية ويُهدّد فيها العميد أحمد رحال بقرب ترحيلهم من تركيا وتسليم كل المعارضين لنظام الأسد بعد إتفاق يَتمّ الإعداد له …
ونشر أحد الصحفيين على موقع الجزيرة نت مقالاً مُطولاً حافلاً بإستنتاجات رغبوية ولا يستند لأي وقائع على الأرض أو قراءة لمسار الأحداث في الإقليم والتي هي إنعكاس للحقبة الدولية الجديدة والتي بالتأكيد سَتُلقي بظلالها على الملف السوري…..
وتُثبت تركيا يوماً بعد يوم أنها دولة رئيسية من دول حلف الناتو بكل إستراتيجياتها مع هوامش مناورة وحرية التكتيك في بعض الملفات ..وكان لِتحسّن العلاقات بين واشنطن وأنقرة الواضح ( بعد الإنتخابات التركية الأخيرة ) أثره في تسهيل إنضمام فنلندا والسويد للحلف وإزالة العراقيل أمامها في الكونغرس لإتمام صفقات عسكرية ضروربة لأنقرة….
ويرضى الناتو تماماً عن الموقف التركي من الحرب الروسية على أوكرانيا حيث فَعّلت أنقرة إتفاقية مونرو وأغلقت المضائق البحرية بوجه الأسطول الروسي ودعمت سياسياً الموقف الأوكراني بمقاومة الغزو ودعمت عسكريا الجيش الأوكراني …ولايُغضِب الناتو إدارة بعض علاقاته مع روسيا عبر تركيا بفتح النافذة التركية أمام الروس لتقليل إعتمادهم على النافذة الصينية …ويُسعدهم تحقيق أنقرة لمكاسب إقتصادية من نزيف الإقتصاد الروسي ..ويمكن أن نقرأ مُؤشّرات لتراجع العلاقات ببن موسكو وأنقرة في تأجيل الرئيس الروسي زيارته لانقرة عدة مرات وإلغائه لصفقة إخراج الحبوب من البحر الاسود وغيرها من الخلافات.. ..كل ذلك إنعكس سلباً على علاقات روسيا وتركيا في سوريا ..
فشل المسار الثلائي الذي رعته موسكو بين أنقرة ودمشق والذي أصبح رباعيا بفرض طهران نفسها فيه( لتعطيله ونجحت في ذلك ) ..ونعاه مؤخراً الكسندر لافرنتيف عندما قال لوكالة تاس الروسية إنه ليس بالإمكان إجراء لقاء بين أردوغان والأسد في المستقبل المنظور لعدم توفر معطيات لتحقيق ذلك ..وهذا التصريح أتى بعد مؤتمر استانة 21 الأخير والذي حاولت تركيا تأجيله ولم تنجح فكان باهناً ومكروراً وإستمراراً للمؤتمرات ال20 السابقة .ولكنه جَسّد موت المسار الرباعي….
وبدأ يتوضح أكثر التعاون الأمريكي التركي في سوريا ومرشحاً للتطور أكثر ويتجلى ذلك بمظاهر عديدة منها عدم معارضة الأمريكان للحرب الجوية وحرب إصطياد القيادات المهمة من حزب العمال الكردستاني (السوري والتركي) ..وعندما يصل التعاون لهكذا مستويات فانه بالتاكيد يكون تفاهما عميقاً له مابعده..إضافة لإجراءات أخرى تقوم بها الادارة الأمريكية شرق الفرات لمشاركة اوسع للمكون العربي في القرار في المنطقة….
و تُثبت القيادة التركية يوماً بعد آخر أنها قيادة سباسية للشعب التركي الذي إنتخبها وتسعى لتأمين مصالحه ..
وحزب العدالة والتنمية حزب علماني تركي يَضمّ مجموعة مؤثّرة من المتدينين المحافظين الأتراك وهو ليس حزب ديني عقائدي سياسي يُقدّم الأيدلوجيا على المصالح الحيوية..وسقطت مقولات وشعارات من حاول تقديم تركيا كسلطنة أو خلافة عثمانية جديدة …وهي تبحث عن فضاء جيو إقتصادي ودور سياسي يناسب ماتراه أنها أهل له وقادرة أن تلعبه…..
ولم يكن مُدهشاً للمراقبين سهولة الإستدارة التركية لإصلاح العلاقات مع الخصوم من العرب بعد تَغيّر كثير من المعطيات فكانت الزيارات المتبادلة والإتفاقيات ااموقعة بين أبو ظبي والرياض من جهة وأنقرة من جهة أخرى دليل على ذلك ..وتم تتويج هذا المسار بزيارة الرئيس التركي للقاهرة وفتح صفحة جديدة في العلاقات مع مصر لمنافع تَهمّ البلدين منها تعزيز التعاون الإقتصادي والأمني العسكري والسياسي و التعاون في قضايا الغاز والحدود البحرية شرق المتوسط وتأمين التنسيق لدور عربي تركي بعد إنتهاء الحرب في غزة….
وربط البعض بين إشاعات تَمّ تداولها منذ فترة عن قرب زيارة مسؤول عربي كبير ( ويُقصد بهذه التسمية رئيس الدولة ) إلى دمشق لإجراء محادثات هامة مع الأسد ..وأسقطوا تلك التسريبات على الزيارة التركية لمصر وإستنتجوا بأنّ الرئيس السيسي هو الزائر وأنّ مَهمّته الوساطة بين الأسد وأردوغان ….وخلال الزيارة وبعد إنتهائها لم نَرصد مؤشراً لكل تلك الأوهام….
ويجب أن لايغيب عن البال أنّ قارئ الحدث السياسي يعتمد في تحليله على الواقع على الأرض و مسارات تَطوّره بشكل رئيسي ..وبالطبع لابُدّ من أخذ التصريحات الرسمية الصادرة وغربلتها ووضعها في سياقها وظروفها ..ويمكن للقارئ الإعتماد أو الإستئناس بما تنشره كبريات مراكز البحث المرموقة أو الكُتّاب الحصيفين الخ…
وبإسقاط كل ذلك على واقع مايُشاع عن تطبيع تركي مع نظام الأسد ..يُمكننا وضع التصريحات التركية الحميمية إتجاهه في سياقها الإنتخابي الظرفي والتي كانت ضرورية لحزب العدالة والرئيس حيث تم سحب تلك الورقة من يد المعارضة … وما الفوز الضئيل للتحالف الحزبي بقيادة العدالة والتنمية في أغلبية برلمانية ضئيلة وفوز الرئيس بجولة الإعادة بفارق ليس كبيراً من الأصوات على خصمه وبعكس إستطلاعات الرأي قبل الإنتخابات ..فهذه النسبة الصئيلة قد تكون من الشريحة التي تم سحبها من التصويت للمعارضة وأمّن ذلك عهداً جدبداً للحزب والرئيس مدته 5 سنوات كاملة..
ولم نرَ أي أثر لتلك التصريحات على الأرض بل لم نعد نسمعها في الإعلام….لازيارات رفيعة تَمّت ولا إجراءات لبناء الثقة لنجاح المسعى الروسي بتبربد الإشتباك على الأرض بل زادت حِدّة ونوعية وحجم الخروقات من قبل النظام على الجبهات ووصلت مؤخراً لإستخدام الطيران المُسيّر كتطور نوعي في التصعيد العسكري يعكس صورة عن الواقع السياسي بين انقرة ودمشق وحلفائها…
ولم تُفتَح الحدود عبر خطوط وقف القتال للحركة التجارية أو إنتقال الأهالي بين الجانبين…رغم مضي 20 شهراً على خروج مسار التطبيع للعلن والتداول في آب 2022…..
وأصبح ممجوجاً الكلام عن تسليم طريق اللاذقية سراقب وعودة مؤسسات النظام الخدمية للمناطق المحررة وتسليمه للمعابر الدولية مع تركيا ورفعه لعلمه فوقها ..كل ذلك كان يُصدّر للنيل من عزيمة الأهالي وصمودهم…. واثبتت الأيام زيف تلك الإدعاءات وبقي جبل الزاوية شامخاً في وجه الغزاة…
وبالتأكيد سيفرض الطرف الأقوى قراءته للتفاهمات الضبابية في أستانة وسوتشي ..ولازال الطرف التركي يَفرض قراءته على الأرض بل وقد يطمح للمزيد…
يُمكن أن يُشكّل تنظيم ال bkk إزعاجاً أو خطرا على الأمن الداخلي التركي ولكنّ الخطر القومي او الوجودي على تركيا يأتيها عبر التاريخ من الروس شمالاً (حيث كانت إستانبول حصتهم الموعودة في نهاية الحرب العالمية الأولى ) ونفس الخطر سَيتكرّر فيما لو تَمكّن الروس من الإنتصار في حربهم على أوكرانيا وتحويل البحر الأسود لبحيرة روسية وقد يَتطوّر الأمر للتدخل بعدها بالشؤون التركية الداخلية بإعتبار إستانبول هي الأستانة وهي عاصمة الأرثذوكسية التاريخية والتي يرى القيصر الروسي أنّه وريثها الأوحد وهو المولع بالتاريخ وأمجاد الإمبراطوريات حيث شَنّ حربه الأخيرة تحت دعاوى وذرائع تاريخية ..وبمكن للقيصر ( فيما لو إنتصر ) أن يُكرّر مطالب سلفه القيصر الشيوعي ستالين بجعل الممرات والمضائق البحرية ممرات دولية وليست تُركية وذلك لأنّ تلك المضائق هي نافذة روسيا الوحيدة للبحار الدافئة والعالم…ويُمكن أن يَتمّ كل ذلك بالتناغم مع اليونان الأرثذوكسية….
أما إيران فالعداوة التاريخية بين الصغويين والعثمانيبن والمعارك والحروب الكبرى بينهما تملء كتب التاريخ وتنعكس على الديمغرافيا والجغرافيا .. ومعروف حديثاً خسارة إيران لحربها مع تركيا عبر إنتصار أذربيجان على أرمينيا والعزم التركي على فتح معبر زنغزور الواصل بين تركيا والأمة التركية في القوقاز وقزوين والوصول لجدار الصين دون المرور بإيران …وهو ما تراه إيران تمدّداً تركياً خطيراً في مجالها الحيوي سَيؤثّر على مصالحها الإستراتيجية ..إضافةً لإمساك أنقرة بالورقة القومية التركية داخل إيران نفسها حيث يُشكّل الآذر 20 مليوناً من السكان …
إضافةً إلى أنّ الإنكار الدائم لدعم طهران لحزب bkk أمر ثابت وبديهي ولايحتاج لأدلة وهو أحد أذرع الحرس الثوري والتي مُختصة بتقويض الأمن القومي لتركيا وإثارة المتاعب لها…فليس من المقبول من طرف أنقرة دعوة الإيرانيين للتمركز على الحدود السورية التركية لمسافة 912 كم وفتح جبهة لها اول وليس لها آخر عليها ناهيك عن التركيب الطائفي الديمغرافي لولاية هاتاي التركية وإتصالها بجبال اللاذقية…
وتجربة المملكة الأردنية الهاشمية مع الميليشيا الإيرانية وقوات الأسد لاتُشجّع أحداً على تكرارها..
وقد ثبت عملياً وبالدليل القاطع ان تجربة التطبيع العربي مع الأسد قد فشلت فشلاً ذريعاً لعدم قدرة الأسد ( أو عدم رغبته ) في تلبية أدنى الشروط العربية حيث يريد معاملته كمنتصر وأمر واقع في سوريا وماعليهم إلا دفع أموال لإعادة إعمار ماخرّبوه هم عبر أدواتهم كما يعتقد الأسد…ويُمكننا وضع تسمية لمسار التطبيع العربي مع الأسد أنه أصبح نسياً منسياً
أيضاً لاترغب إيران بأيّ إنفتاح تركي على نظام الأسد لأنها تخشى من منافسة القوة الناعمة التركية لها …حيث الإقتصاد والإعمار هو مايحتاجه نظام الأسد المتهالك الآن وليس الميليشيات والمسيرات….
أيضاً يرتفع سقف المطالب التركية العلنية للتطبيع مع نظام الأسد حيث يَتمّ طرح ثلاث شروط رئيسية على دمشق البدء بها قبل أي تطبيع وهي محاربة إرهاب قسد والقضاء عليها و حلّ مشكلة اللجوء واللاجئين والشروع في عملية سياسية وفق القرارات الدولية ..وتعلم أنقرة أنّ نظام الأسد لن يَقدر على تنفيذ أيّ شرط منها بل هو من يَضع الشرط الرئيسي بإنسحاب القوات التركية من سوريا أولاً ثُمّ بحث باقي الملفات….
بالتأكيد يعلم نظام الأسد أنّ مشكلته الحقيقية مع الولايات المتحدة وحلفها الغربي فهو الذي يضع اللاءات الثلاثة على نظام الأسد لا لرفع العقوبات ولا لإعادة الإعمار ولا لإعادة التعويم قبل الدخول بعملية سياسية وفق القرارات الدولية …ولم تستطيع إيران وروسيا بعد كل ماقدّمته من إعادة تعويمه ولن يستطيع العرب والترك ( إن أرادوا ) فعل ذلك لأنّ القوانين الأمريكية الرسمية كقانون قيصر وقانون كبتاغون الأسد وقريباً قانون مناهضة التطبيع هي قوانين للدولة الأمريكية وليست اجتهادات سياسية أو مواقف للبيت الأبيض او وزارة الخارجية يمكنها التراجع عنها بل يقوم الكونغرس بمراقبتها ومنع التهاون في تطبيقها ولا يسمح لأي إدارة بتجاوزها …والسؤال الان من سيتحدى الإدارة الأمريكية وتحالفها الدولي كرمى لعيون نظام كبتاغوني وعليه دعاوي في محاكم دولية وأوربية بمختلف الجرائم ومثبت عليه إستخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين..هذا النظام مُتهالك آيل للسقوط قريباً ولا يوجد مصلحة سيجنونها من فعل ذلك ؟
لذلك لا أرى إطلاق تلك التسريبات والتحليلات والتخيّلات إلا خدمة مجانية ( أو مأجورة) لنظام الأسد الميت سريرياً والذي يحاول تقديم إنجازات وإنتصارات لجمهوره الغارق في البرد والظلمة والجوع….

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.