حصاد مُخيّب للأسد بين قِمتيّ جِدّة والمنامة

وجّهت مملكة البحربن دعوة رسمية للأسد لحضور القمة الدورية السنوية للجامعة العربية في 16 أيار القادم..ولم يَنَل هذا الخبر أيّ أهمية أسوةّ بخبر حضور الأسد لقمة جدة العربية في 19 أيار من العام الماضي حيث شَكّلت حينها حدثاً بارزاً واختراقاً لجدار العزلة العربية المضروب حول دمشق ومما زاد في نوعية الحدث هو أنّ ولي العهد السعودي كان صاحب المبادرة وأنّ القمة عُقِدت في بلاده….
وكانت قمة جدة في العام الماضي قد رافقها الكثير من التطبيل والتزمير من أبواق النظام الإعلامية وأبواق المحور الإيراني الداعم له ..وتَمّ تقديمها لجمهور المحور بمثابة إنتصار نظام الاسد على خصومه العرب بعد ( إنتصاره على معارضيه في الداخل السوري ) وقبول فكرة إنتصاره وقبوله كأمر واقع ربح المعركة وبالتالي لابُدّ من تعويمه ..خاصةً أنّ عودته للجامعة كانت تترافق بسعي تركي لإصلاح ذات البين معه بِما يُرسّخ فكرة أنّ العرب والترك قبلوا بوجوده كما هو وتَخلّوا عن أوهام إستبعاده من المشهد السوري والإقليمي وبالطبع كان ذلك يعني إنتصار الخيار الروسي الإيراني في الصراع السوري بتثبيت بقاء حليفهما في السلطة….
كان اللين الأمريكي والتصريحات الضبابية إتجاه عودة الأسد للجامعة العربية تَحتمل مُختلف التأويلات منهم من أراد أن يراها أضواءاً برتقالية أمريكية لمسعى عربي يَتضمّن حزمة مطالب منه ولكنها غير جَديّة أو لايمكن فرضها على الأسد.. ( ومنهم من أراد أن يراها خضراء بالكامل ) و تهدف تلك المطالب لتبرير تغيير المواقف الإقليمية والدولية إتجاه الأسد … والبعض رأى في الإجتماعات العربية في عمان والقاهرة وتشكيل لجنة إنبثقت عن كل ذلك الحراك كدرجات السلم التي لابُدّ منها لإنزال الأسد من قمة الشجرة…..
وكثيرون تَوهّموا أنّ الغرب له سوابق كثيرة في الرجوع عن مواقفه السياسية السابقة إذا إقتضت مصالحه ذلك وضربوا أمثلة بإعادة فَكّ العزلة عن القذافي في ليبيا والبشير في السودان …

ماذا يريد الأسد من العرب؟

لاشَكّ أنّ شرعية عربية تَغسل يديه من دماء السوريين هي مكسب بالغ الأهمية بحيث يَتمّ طَيّ الصفحة السورية عن تَمرّد شعبي (قام ضِدّ نظام حكم شرعي) دعمه العرب أنفسهم وتمّ حسمه لصالح الأسد واعترف الداعمون للتمرد بهزيمتهم حيث يُشكّل ذلك رصيداً معنوياً له ويدعم سرديته منذ البداية في حربه على جماعات مسلحة( أو ارهابية ) مدعومة من الخارج ولا وجود لثورة أو معارضة حقيقية له وهو من أوقف الخراب العربي الذي أسماه البعض بالربيع العربي …وسَيترتب على الهزيمة العربية إتجاهه أعباءاً مادية وليس معنوية فقط …والمال العربي الموجود في الخزائن الخليجية هو الهمّ الرئيسي له…..
واعتقد الأسد أنّ تعويمه عربياً هو نتيجة لإستراتيجيات كبرى في المنطقة كان التفاهم السعودي الإيراني في بكين عنوانها وركيزتها الأبرز وأنّ تعويم الأصل (الإيراني) سيعقبه بالضرورة تعويم الفرع ( السوري)..وأنّ عصراً إيرانياً جديداً في المنطقة قد بَدأ … و سيطمح الأسد للعب دور أبيه سابقاً كصمام أمان أو نقطة تلاقي بين العرب والإيرانيين بما يعني أن دوراً إقليميا بإنتظاره….
إضافةً للأموال العربية التي كان شبه مُتيقّن من تدفقها إليه ( تحت عناوين أو مخارح شتّى) بِغضّ نظر عن العقوبات الامريكية والغربية …فإنه لن يقبل بذلك فقط بل سيسعى لإستثمار العلاقات العربية المتنامية مع واشنطن بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وسيكون لأيّ مساعٍ عرببة لرفع العقوبات ( الهام منها على الأقلّ) سيلقى ذلك المسعى آذاناً صاغية في واشنطن…
سارت الأمور بما لايشتهيه الأسد وأيقن أنّ ماسُمّيت المبادرة العربية إتجاهه لم تكن شعارات لتبرير الإستدارة العربية بل إنّ مطلوباً منه جملة قرارات أهمها الشروع في حل سياسي وفق القرارات الدولية (وأيّ حل سياسي يُدرك الأسد أنّ رأسه هو المطلوب منه) ولن يُفيده إجراء تسويات هنا وهناك وإخراج صوري لمعتقلين أو قرارت عفو لايَثق بها أحد …وأنّ توفير بيئة مناسبة لعودة لاجئين سيسبقها إجراءات حقيقية من نظامه وليس دفع الأموال لترميم البنية التحتية الضرورية لعودتهم كما يريد نظامه .
كما أنّ صفقة المال مقابل إيقاف تهريب الكبتاغون لن تَمرّ عليهم….وهو بالأساس يعرفوا أنه لن يلتزم بها….

ماذا حدث بين القمتين؟

1– عدم وصول دولار عربي واحد إلى خزائن الاسد وإنهيار تاريخي لقيمة الليرة السورية وإزدياد سوء الأحوال المعيشية في مناطق سيطرته.

2–تأمين موقف عربي موحد إتجاهه يَتمثّل في اللجنة العربية المُخوّلة في الإتصال معه ومتابعة تنفيذ مايَتمّ الإتفاق عليه ( إن تمّ
إتفاق) وهو ما أغلق الباب على أي محاولات فردية يقوم بها نظام عربي بمفرده إتجاهه…

3– طرح مسالة الإحتلال والنفوذ الإيراني في سوريا على بازار التفاوض ..فهو ليس بصاحب سيادة ليتصرف كما يريد وإنه لن يَتم القبول به على حالته الراهنة…..

4–لم يَتمّ كسر أيّ عزلة دولية أو إقليمية عن الأسد بعد حضور قمة جدة ولم نرَ زائراً مُهماً في دمشق ولم يُفرش السجاد الأحمر لراس النظام في أيّ عاصمة….بل إنّ دولة الإمارات طلبت منه عدم حضور قمة أبو ظبي العالمية للمناخ في خريف العام الماضي لأنّ ذلك سيسبب بلبلة للحضور ويُحرج أبو ظبي لوجود مذكرة إستدعاء قضائية بِحقّه…

5- لم يُساهم العرب بتثبيت دعائم حكمه في الجغرافية السورية التي لاتخضع لسيطرته… مثلاً أن يَتمّ الطلب من القوى الخارحية المتواجدة على الأرض وفي السماء من احترام سيادة الدولة السورية وسحب قواتها ولو ضمن جدول زمني…بمعنى لم يحصل الأسد على دعم عربي للتخلُص من الاحتلالات الأجنبية التي يقول بها بل كان الموقف العربي بتقليص نفوذ أهمّ داعميه وهو الايراني فيما كانت العلاقات العربية تَشهد تَحسّناً ملحوظاً مع الأتراك والأمريكان..

6– خسر الأسد محافظة مهمة جداً كانت قبل قمة جدة مُصنّفة تحت سيطرته ولخروج جبل العرب من الحظيرة الأسدية دلالات كبرى حول مدى شرعية نظامه وسقوط شعارات حماية الأقليات….

7– الحدث الأبرز بين قمتي جدة والمنامة هو حدوث ط و ف ا ن الأ ق ص ى قي 7 أكتوبر ..حيث لم يُفيده أخذ موقف المزهرية أو النعامة مماجرى والنأي بنفسه عن المحور الإيراني …بل إنه إحدى الساحات الستة في مقولة وحدة الساحات ( أراد أم لم يريد ) وأراضيه المحاذية للجولان تُوفّر جبهة مستقبلية لطوفان إيراني جديد..وتُشكّل أيضاً تلك الأراضي العمق الإستراتيجي لحزب الله الموضوع قطع راسه الآن على الطاولة وبالتالي لن يستطيع الأسد المناورة والكذب واللعب على أي تناقضات ببن الخصوم والاصدقاء بل والأعدقاء….

8– كان لافتاً إستمرار الموقف الأمريكي والأوربي الصارم إتجاهه..ويَستمرّ سيل العقوبات بالتدفق نحو دمشق وبالطبع الحدث المهم هو تصويت مجلس النواب الأمريكي بأغلبية ساحقة على مشروع قرار بتجريم و تحريم التطبيع مع نظام الأسد ولكي يصبح مشروع القانون هذا قانوناً أمريكياً نافذاً يَلزمه بعض الوقت فقط…وهو بحد ذاته يُشعل الأضواء الحمراء لمن يرغب بالمرور في الطرق المؤدية إلى دمشق…
كان حصاد الأسد كارثياً بعد قمة جدة ومن المُتوقع أن يكون مُريعاً بعد مؤتمر المتامة حيث ستكون حرب غزة وضعت أوزارها وسيتمّ دفع فواتيرها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.