تركيا وروسيا في سوريا: الإفتراق القريب

إستغل الرئيس الروسي الرفض الأمريكي الصارم لايّ عملية عسكرية تركية جديدة ضد قسد وعرض على نظيره التركي عرضاً آخراً يُفيد الخطط الاستراتيجية للدولة التركية والضرورات المُلحّة التي تواجه حزب الحكومة (حزب العدالة والتنمية) في الإنتخابات العامة وتواجهه شخصياً في الفوز بولاية رئاسية جديدة…وهذا العرض هو الإنفتاح على دمشق وإصلاح ذات البين مع نظام الأسد..

كان الغزو الروسي لأكرانيا قد تجاوز الأشهر الستة وبات المأزق الروسي واضحاً وجلياً والأوضح منه كان صراعاً صفرياً محتدماً بين روسيا البوتينية والغرب الجماعي بقيادة الولايات المتحدة..

 كان الرئيس الروسي في مأزقه الكبير بحاجة للصديق اللدود جاره التركي والذي أبدى مواقف غير متطابقة مع دولة المفترض أنها عضو مؤسس بحلف الناتو…فلم تَنضمّ أنقرة للعقوبات الغربية على موسكو ولم تُغلق مجالها الجوي بوجه طيرانها المدني وحاول الرئيس التركي تقديم بلاده كوسيط في تلك الحرب ..ولكنه بالمقابل فَعّل اإتفاقية مونتيرو وأغلق المضائق التركية بوجه الأسطولي الحربي الروسي مُعتبراً ما يجري في أوكرانيا حرباً ( وفق الرؤية الامريكية ) وليس عملية عسكرية خاصة (كما تدعي روسيا ) بل وأغلق المجال الجوي التركي أمام الطيران الحربي الروسي القادم من سوريا وإليها وكل طائرة مدنية روسية تحمل جنوداً أو عتاداً عسكرياً روسياً من وألى سوريا…وبالطبع تلك القرارات التركية أضعفت بشكل أو بآخر التواجد الروسي في سوريا وأبرزت أنياباً تركية لم تكن تظهر سابقا في وجه الدب الروسي المفترس

 كان الرئيس الروسي يحرص على كسب تركيا إلى جانبه او بقاءها محايدة على أقل تقدير وبالطبع يهدف بذلك لعدم إحكام الحصار الغربي حول بلاده وبقاء الرئة التركية التي يتنفس منها من تحت ماء العقوبات الغربية الصارمة..حيث لم يُكلّل هدف بوتين بالنجاح عندما حاول إحداث صدع جيوسياسي في عُمق حلف الناتو بإخراج تركيا منه وبدء مشوار جديد من التعاون معها وصولاّ لماهو اأكبر..وكانت فرصته الكبرى التعاون مع أردوغان بالملف السوري وتالياُ بملفات أخرى لتحقيق ذلك . ووصل الجهد الروسي إلى حد بيع أنقرة دُرّة تاج الأسلحة الروسية منظومة صواربخ S400…

 أيضاً وضمن الصراع الدولي الذي الجاري بين موسكو والغرب كان الهدف الروسي إستغلال النقمة التركية على الفيتو الأمريكي بوجه عملية عسكرية تركية بَدَت ظروفها موآتية أكثر من أي وقت مضى في صيف العام الماضي وظَنّ أنقرة أنّ واشنطن لم تعد تملك خيارات الرفض كما في السابق لحاجتها لها في الحرب الروسية الأوكرانية .. .حصل ما يتمناه بوتين ورفضت واشنطن العملية التركية العتيدة

 ظَنّ بوتين أنّ توريط تركيا بعلاقة من نوع ما مع نظام الأسد بعد الضغط على الأخير أيضاً وإعلان موت مسار أستانة الثلاثي القديم وولادة مسار رباعي جديد سيؤدي إلى إبعاد تركيا أكثر عن عُمقها الغربي والإبقاء على شعرة معاوية معه وقطعها إن توفّرت الظروف لذلك

 وتحقيق نصر روسي في سوريا على الولايات المتحدة لأنّ التواجد التركي القوي في سوريا هو بيضة القبان في حسم الصراع بها وعليها فإنحيازها لأحد الأطراف سيجعل من أوراقه أكثر قوة في الإقليم وسيتمكّن من فرض رؤيته في رسم مآلات المشهد السوري مستقبلاّ

 أيضاً لايمكن إغفال رغبة الرئيس بوتين بفوز الرئيس أردوغان بولاية جديدة كونه من طبائعه أو سياساته شخصنة الأمور والتي تنعكس على سياسات بلده فعندما تكون علاقات الرئيس بوتين جيدة مع رئيس آخر ويرتاح له تصبح علاقات الدولة الروسية كلها كذلك والعكس بالطبع صحيح…وبين بوتين وأردوغان كيمياء مشتركة يُدركها الجميع وخبرا العلاقة بينهما ويستطيعان بجلسة واحدة مغلقة حلحلة الكثير من العقد..

 ومعروف أنّ خصم الرئيس التركي في الإنتخابات الرئاسية هو زعيم المعارضة المدعوم من الغرب والذي لم يُخفِ تَوجّهاته غرباً والتقليل من توحهات تركيا الأوروآسيوية…لذلك كان حرص بوتين لايقل عن حرص أردوغان نفسه على سحب ورقة اللجوء السوري ( والتي تزاود بها المعارضة التركية على الحكومة) ولاقاه أردوغان بنفس الإتجاه .وبالفعل تَمكنّا من تحييد تلك الورقة بل وأصبحت إلى حد ما ورقة بيد العدالة والتنمية والرئيس كونهم بمواقع السلطة ويملكان الفعل السياسي وليس إطلاق الوعود فقط كما الخصوم …

 وأظنّ أنّ الرئيس الروسي راهن على وصول المسار لنهايته بتطبيع كامل بين دمشق وأنقرة يَسبق ( أو يعقب ) لقاء أردوغان والأسد ولاضير عند الروس إن تم بعد نجاح العدالة والتنمية والرئيس بالسباق الانتخابي وأن كانوا يفضلون عقده قبل ذلك…

أما الرئيس التركي وحزبه فمشيا بنفس الطريق لغايات إنتخابية ولم يكونان يرغبان بأكثر من ذلك…وقد ساهم الدور الإيراني المهيمن على قرار الأسد بإفشال المساعي الروسية عمداً وتلبية الأماني التركية بدون قصد.

 وقعت الواقعة وفازت العدالة والتنمية والرئيس بولاية جديدة وبدأت تَتّضح أكثر فأكثر التوجهات التركية المقبلة خلال الأعوام الخمسة القادمة ..وتلك التوجهات ستتحول بالتأكيد إلى سياسات وبدا تظهر النتائج بسرعة

 كان الملف السوري من أهم الملفات الشائكة والعالقة بين أتقرة وموسكو..ولم يعد الدب الروسي مفترساً ولم تَعُد أظافره تَنشب في أجساد الآخرين….لقد تم قلع أنيابه وتقليم أظافره وكسر هيبته في المطحنة الأوكرانية والتي تطحن الكبرياء والعظمة الروسية أيضاً…بدأ تَنمّر الأسد الصغير على الدب الكبير واضحاً بوضع شروط عالية السقف جداً بل مستحيلة على الطرف التركي لإتمام المسعى الروسي ..فالأسد يريد تجريد أنقرة من أسلحتها قبل البدء بالتفاوض…وأنقرة لاتردّ عليه وتضع شروطها التي يرفضها الأسد ..فليست تركيا بوارد الإنسحاب من الشمال السوري قبل حل مشكلة الإرهاب الذي يُهدّد أراضيها من داخل سوريا.. وحل مشكلة اللجوء السوري بتركيا والبدء بعملية سياسية وفق المرجعية الدولية….ولم يعد بمقدور بوتين الضغط على الطرفين وخاصة الرئيس التركي الذي بدأت أشرعته بالإستدارة غرباً وبدا ذلك واضحاً من خلال إستقبال أردوغان للرئيس الأوكراني بأنقرة وإعرابه عن تأييد بلاده لنيل أوكرانيا عضوية الناتو وإطلاق الوديعة الروسية عنده وهم قادة آزوف الخمسة وتسليمهم للرئيس زيلنسكي وعودته إلى كييف معهم بنفس الطائرة مزهواً بإنتصاره..وموافقة الرئيس التركي على قبول طلب إنضمام السويد إلى حلف الناتو مقابل تسهيلات أمريكية بمجال السلاح الذي تنوي انقرة الحصول عليه والذي كان يُواجَه بتمنّع أمريكي ..حاول بوتين معاقبة تركيا فلم يوافق على تمديد آلية إخراج الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود وإستعمل حق الفيتو لإجهاض آلية إدخال المساعدات الأممية للشمال السوري عبر الأراضي التركية …في الوقت نفسه إندفعت أنقرة أكثر سياسياً واقتصادياً نحو الإتحاد الأوربي والخليج العربي لحل مشاكلها الإقتصادية بعد أن ايقنت بأنّ علاقاتها الاقتصادية القوية مع موسكو لن تحل تلك المشاكل

 وكان واضحاً من تعيينات الرئيس التركي في حكومته الجديدة بعد الإنتخابات توجهاً أمريكياً حيث تم إستدعاء محافظة البنك المركزي من الولايات المتحدة وتعيين ششمك وزير الإقتصاد الجديد ذو التوجهات الغربية مع تعيين حقان فيدان وزيراً للخارجية و الذي تخرج من الجامعات الأمريكية ويملك علاقات جيدة في الولايات المتحدة

كان الغضب الروسي من السياسات التركية تجلّى واضحاُ بإرجاء زيارة الرئيس بوتين إلى تركيا والتي كانت مقررة خلال شهر آب الحالي (وقد يتم إلغاؤها) والتصعيد والتحرشات العسكرية الروسية على جبهات إدلب..في المقابل نرى تقارب تركي أمريكي حقيقي ملموس على الأرض ويتمّ العمل عليه بصمت ودون ضجيج…حيث هناك غضّ طرف أمريكي واضح على حملة جوية بالدرونات تَشنها أنقرة على قيادات منتقاة من البي كي كي في سورية والعراق… وصدور موقف أمريكي يجامل أنقرة معتبراً أنّ إعادة لاجئين سوريين من تركيا إلى عفرين لايدخل ضمن أي شكل من أشكال التغيير الديمغرافي … وقيام الولايات المتحدة بأعمال على الأرض شرق الفرات الغاية منها إضعاف الجناح الكردي الموالي لقنديل إلى جانب توسيع المشاركة العربية كماٍ ونوعاً في إدارة المنطقة ..

 والأهم أنه وفي ظِلّ الحديث المتزايد عن عملية عسكرية أمريكية لقطع الممر البري في منطقة البوكمال وعزل القوات التابعة لفيلق القدس في سورية ولبنان عنها في العراق وإيران ..حيث لم يَعد خافياً رفض قسد للمشاركة بهكذا عملية وبالتالي عدم تَوفّر أعداد مناسبة وكافية من القوات العربية للقيام بدور الحليف المحلي على الأرض ..

 على مايبدو تَمّ تفاهم أمريكي تركي على نقل مايقارب ال 15 الف مقاتل من الجيش الوطني السوري الذي ترعاه أنقرة إلى قاعدة التنف ويجري الآن غربلة الأسماء من قبل المخابرات التركية لتأمين مقاتلين مناسبين أمنياً وجهزوياً ذوو خبرة بالمعارك الحقيقية ولايحتاجون لأكثر من 90 يوم تدريب على أسلحة جديدة ومهام جديدة ليكونوا باتمّ الجاهزية …وهذا بالطبع يَدلّ على خيارات أنقرة وتوجّهاتها المستقبلية بالإنخراط المباشر في المحور الآخر المعادي لمحور روسيا– إيران — نظام الأسد

 وبالتأكيد مُرشّحة العلاقات الروسية التركية إلى مزيد من التدهور في كثير من الملفات ومايهمنا الملف السوري حيث لم تَعد القوة الروسية الحاملة لكل تفاهمات أستانة موجودة بذات القدر التي كانت موجودة سابقاً وهي تتلاشى رويداً رويداً بفعل الإستنزاف الروسي الكبير في أوكرانيا…وبالتأكيد ستكون تركيا من أكبر المستفيدين فيما لو تَكلّلت الجهود الأمريكية بإخراج الروس من سوريا وعودة المشهد السوري إلى ماقبل 30 أيلول 2015..حيث حينها سيقف نظام الأسد على قدم إيرانية واحدة ومنهكة ولن تستطيع حمله بمفردها كما لم تستطع حمله وحمايته من السقوط قبل التدخل الروسي العسكري المباشر..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.