القضية السورية في مواجهة الرهانات الدولية(2)

2 ـ لماذا لن يستطيع الأسد الاستفادة من تراجع الغرب وانكفائه :

لن يكون لانحسار اهتمام الغرب بالشرق الأوسط عواقب سلبية فحسب، فهو، بمقدارٍ ما، يكشف للمشرقيين هشاشة أنظمتهم وبنياتهم ويزعزع استقرار حكوماتهم، يفتح، لا محالة، عيونهم على القصور المستحكم في مؤسساتهم واعتقاداتهم وأساليب تنظيمهم وعملهم وتفكيرهم. ولا بد أن يوقظهم على مخاطر الاستسلام المديد لوهم الحماية الدولية، سواء كانت مرتبطةً بالثقة بقدرة الأمم المتحدة على إلزام الأطراف باحترام مواثيقها أو بقدرة الدول المركزية أن تفرض قرارها وتملي إرادتها على الجميع، فهذا لم يعد ممكنا في عالمٍ أصبح، بالفعل، متعدّد الأقطاب.

فقد الغرب وسوف يستمر في فقد مزيد من نفوذه في العالم

وعلى الرغم مما يثيره هذا التراجع الغربي من شهية التوسّع لدى قوى جديدة تنتظر دورها لتحصد الغنائم، إقليمية كانت أم دولية، فإنه يفتح، في الوقت نفسه، شهية الشعوب المقهورة للانعتاق، وينهي ثقافة الاستسلام والإمعية التي سيطرت عليها قرونا، ويغذّي النزوع إلى أخذ الأفراد والمجتمعات مصيرهم بأيديهم، والاعتماد على قدراتهم ومبادراتهم. وبعكس الهيمنة الغربية التي لا تستمد قوتها من القدرة العسكرية فحسب، وإنما تمدّ جذورها في الدور الاستثنائي الذي لعبته الشعوب الأوروبية في تقدم المدنية والحضارة الحديثة، أي في أسلوب حياتنا الراهن ومخيلتنا وأفكارنا ومشاعرنا أيضا، تفتقر سيطرة القوى المنافسة مثل روسيا أو إيران أو الصين لأي شرعية أو عمق أيديولوجي أو عاطفي. وهي تخلق مقاومتها عند الشعوب التي تقع ضحيتها في اللحظة ذاتها التي تفرض فيها نفسها، ولا يبقى لها ما يمكّنها من الاستمرار سوى استعراض قدراتها على الاستخدام المفرط للعنف وارتكاب المجازر لتأديب معارضيها.

فقد الغرب وسوف يستمر في فقد مزيد من نفوذه في العالم، لأنه لم يعد لهذا النفوذ جوانب بناءة تغطي على آثاره السلبية الحتمية. وقد أظهر في تعامله مع ثورات الربيع العربية، والسورية خاصة، افتقاره المتزايد لهذه الجوانب التعويضية. وكما كان لتردّده في تقديم الحماية، واسترخاصه دماء المشرقيين، دور كبير في خسارة هذه الثورات الشعبية رهاناتها، كان لذلك أيضا دوره في سقوط وهم الرهان على تضامن الغرب لتحقيق الحرية وحقوق الإنسان المنشودة التي كانت قضيته ومصدر هيمنته العالمية الحقيقية.

جميع محاولات إعادة تأهيل الأسد اليوم أو غدا سوف تفشل

بالتأكيد، سوف يحتاج الاستقرار في المنطقة زمنا طويلا، ولن يتحقّق إلا باستعادتها الحد الأدنى من استقلالها الجيوسياسي، وتقليص حجم التدخلات الخارجية، سواء كان ذلك في نزاعاتها أو في التسويات المطلوبة لإنهائها، وكذلك بحصول توازناتٍ أكثر استقرارا تعكس توزيع القوى الحقيقي والمهارات والكفاءات والإنجازات الحضارية داخل المنطقة ذاتها.

هذا يعني أن علينا ألا ننظر إلى هذا التحوّل الاستراتيجي من جانبه السلبي فقط، فهو، بمقدار ما يحمل من الأخطار الفعلية التي ينبغي مواجهتها، يقدّم فرصا جديدة لتطوير قدرات الشعوب المادية والسياسية والأخلاقية للتصدّي لها، وإعادة بناء منظوماتها المعرفية والسياسية والاجتماعية على أسس أكثر تماسكا وفاعلية. وكذلك الأمر فيما يخصّ العلاقات مع الدول الغربية التي ستبقى، على الرغم من انحسار نفوذها التدريجي في سدة الهيمنة العالمية، عقودا طويلة مقبلة.

وبالمثل، لا ينبغي أن نعتقد أن ما تسبب في خسارتنا رهاناتنا سوف يساعد الأسد وحلفاءه على تحقيق أهدافهم وفرض مصالحهم بالقوة على حسابنا، فليس من المحتم أن تكون خسارة طرف ربحا للطرف الآخر. وما رأى فيه الرئيس الروسي نجاحا انتخابيا يجدّد شرعية الأسد ويبرّر إعادة تأهيله لا يرى فيه العالم إلا دليلا على الإمعان في احتقار الشعب والرأي العام الدولي، والاستهتار بالقيم الإنسانية، وانعدام الأهلية الأخلاقية والفكرية، والفشل الذريع في التجاوب مع أبسط واجبات مسؤول سياسي في السعي إلى تجنيب بلاده الكارثة، والحفاظ على سيادة البلاد واستقلالها ووحدة الشعب وأمنه وازدهار أحواله. وفيما وراء ذلك، لن يقبل أي سياسي يحترم نفسه ومهنته أن يتعامل مع من سعى بيديه ورجليه إلى تدمير بلده وتشريد شعبه والقضاء على مستقبل أبنائه، من أجل كسب سنواتٍ إضافية في السلطة، بعد عشرين عاما من الحكم المطلق والفاسد إلا كقاتل ومسؤول عن جرائم حرب وإبادة جماعية.

وفي اعتقادي، جميع محاولات إعادة تأهيل الأسد اليوم أو غدا سوف تفشل. ببساطةٍ لأنه، أولا، من دون تغيير في الحكم وتسوية سياسية، وما تتضمنه من تغيير في قواعد ممارسة الحكم وتوزيع السلطات والصلاحيات، حل أي مسألة من المسائل العديدة والمعقدة التي ولدتها الحرب العدمية، وفي مقدمها مسألة بناء الدولة المفكّكة والمنحلة ذاتها، فلا يوجد اليوم دولة في سورية وإنما أجهزة وجيوش ومليشيات أجنبية متصادمة ومتنافسة، ومناطق منعزلة بعضها عن بعض، ومفتقرة أي إدارة مدنية جدّية.

تخفيض الغرب مستوى استثماراته وانخراطه في قضايا المنطقة لا يعني أنه سوف يتجاهل، كله أو بعضه، أهميتها وموقعها في الاقتصاد والجيوساسة الدولية والثقافة

وثانيا، لأن النظام نفسه لم يعد نظاما، وإنما تحول شراذم وشللا وشبكات مصالح تنهش بعضها بعضا، كما أبرزت ذلك في الأشهر الماضية قرارات الحجز على أموال وحسابات آلاف من الصناعيين ورجال الأعمال، بمن فيهم عديدون من الموالين للنظام، بالإضافة إلى هجرة عشرات الألوف منهم الى خارج سورية.

وثالثا، لأن الأسد يخطئ عندما يعتقد أنه لا يزال الابن المدلل للغرب بسبب تعاونه أو الحاجة إليه وإلى أجهزته الاستخباراتية في الحرب ضد الإرهاب، بعد أن اكتشف الجميع أن صانع السم شاربه. وأن اعتماده على حماية طهران وتماهيه مع سياساتها سببٌ إضافي لمقاومة بقائه.

ورابعا، لأن الجميع يدرك أن ترك الأمور كما هي عليه في سورية والمشرق يعني العيش إلى جانب بركان متفجر لن يتوقف عن قذف حممه، وإشعال الحرائق في كل الأنحاء.

وخامسا، لأن أحدا لا يستطيع أن يتجاهل تضحيات السوريين، وإصرارهم على تحقيق غايتهم وانتزاع حقوقهم في الكرامة والحرية والسيادة على وطنهم، مهما طال الزمن واستدعى من تضحيات.

وسادسا وأخيرا، لأن تخفيض الغرب مستوى استثماراته وانخراطه في قضايا المنطقة لا يعني أنه سوف يتجاهل، كله أو بعضه، أهميتها وموقعها في الاقتصاد والجيوساسة الدولية والثقافة، والمخاطر التي يمكن أن تنجم عن انهيارها ودوام الحروب العبثية فيها أو تفاقم الإرهاب والهجرة والبؤس. كما أن تراجع اهتمام الغرب بقضايا المنطقة وتخفيض استثماراته فيها لا يعني التنازل عن مواقعه المكتسبة أو التخلي عنها لصالح القوى الإقليمية، كإيران وتركيا، ومن باب أولى لعصابة محلية. واعترافه بافتقاره استراتيجية أو حلولا ناجعة لمشكلاتها “المعقدة” لا يعني أنه لا يستطيع ولن يستمر في الدفاع عن مصالحه فيها، وتعطيل أي حلولٍ لا تخدم أهدافه أو تحرمه من إمكانية التأثير في مصير المنطقة. وهذا ما أملى على وزير خارجية واشنطن، أنتوني بلنكين، أن يشير، في كلمته التي خصصها أخيرا لسورية، إلى أن واشنطن سوف تسعى إلى “… المضي نحو تسوية سياسية أوسع (من تثبيت وقف النار) للصراع السوري تتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254”. مع التأكيد على أن “ما لم نفعله وما لا ننوي فعله هو التعبير عن أي دعم لجهود تطبيع العلاقات أو إعادة تأهيل السيد الأسد، أو رفع أي عقوبة مفروضة على سورية أو تغيير موقفنا لمعارضة إعادة إعمار سورية قبل إحراز تقدّم لا رجوع فيه نحو حل سياسي نعتبره ضروريا وحيويا”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.