إيران والمزواجة السياسية بين المصلحة والمعتقد

تجتاح إيران لليوم، ومنذ أشهر موجة من التظاهرات والاحتجاجات الشعبية. يبدو أنها أكثر جذرية وأكثر قدرة على الاستمرار من سابقتها في الأعوام السابقة، والحدث الإيراني، سواء في داخلها أو محيطها الحيوي، يشغل كافة السياسات الدولية.

إيران الدولة ذات التناقضات المتعددة، بين روسيا وأمريكيا، بين الخليج ودول ثورات الربيع العربي، تقف إيران بسياساتها المتبدلة، سياسات مزواجة، متعددة الطباع والأحكام. تخرج عن العقيدة الدينية المغلقة للبراغماتية العصرية النفعية المحضة في مرة. وتنغلق عقائدياً لدرجة التشدد واستعداء كل مختلفٍ عنها دينياً وسياسياً بذات الوقت، والأشد دهاءً أنها تمارس السياستين في ذات اللحظة وذات الموقع.

إيران الدولة التي شكلت وتشكل لليوم الدولة المحورية في انهيارات المنطقة وتهديد استقرارها، تستفيد من سياساتها تلك كل الدول التي تريد أن تضع لها قدماً عسكرياً في المنطقة، وذلك بغض النظر عن نوعية هذه الدول وشدة خلافاتها وتباين مصالحها الدولية. فحين تحتاج قوة عظمى كأمريكيا أو روسيا، وربما قريباً الصين، لمفتاح للدخول للمنطقة، يُنادى عليها، وإيران جاهزة بكل تناقضاتها وسياساتها المزواجة لتمارس الدور الوظيفي المنوط بها والذي يتفق مع أهدافها المرحلية والاستراتيجية، والنتيجة المزيد من خراب المنطقة، خاصة في العراق وسوريا ولبنان.

إيران الدولة التي بقيت لزمن مضى تتمتع بالقدرة على التحرك بين مختلف أنواع المعادلات الدولية المتباينة وفق حزمة من السياسات المتشابكة. مرة تظهر سياساتها التباين والخصام الشديد لدرجة الصدام العسكري، كما تفعل مع إسرائيل وأمريكيا ودول الخليج وشعاراتها المعلنة بالعداء المطلق لإسرائيل وأمريكيا. وفي الأخرى تبدي الليونة والمطواعية الشديدة لدرجة الاعتقاد أنها على تحالف أيديولوجي معتقدي معها، كما يقال جدلياً عن تحالفها مع إسرائيل! ومرجعية أصحاب القول إنه تحالف عضوي يهودي فارسي، وهذا مقال آخر، يشبه ما كان سائداً عالمياً بين ذات الدول المنضوية في إحدى المنظومتين، الاشتراكية أو الرأسمالية، وكل منظومة منداحة في بعضها لدرجةٍ عضوية! ليبقى التناقض هو العنوان العام لسياسات إيران، فهل يمكن تميز بعضها عن بعض؟

إيران دولة مؤهلة تقنياً لامتلاك السلاح النووي وتخوض مارثون من المفاوضات العالمية في شأنه. وتمتد في عواصم أربعة دول عربية عبر أذرعها الميليشاوية، وتهدد بتغيير بنيتها ومعالمها السياسية أيضاً، وتضع استقرار المنطقة العربية فيها، محطة تفاوض سياسي على الوجود على الأرض. وتفاوض في الملف النووي عالمياً بأكثر وأشد طرق البراغماتية العالمية العصرية، وفق خطوط المصلحة وحدود العلوم العصرية وشروطها التفاوضية القصوى. وبذات الوقت ترسل مقاتليها الذين تجندهم عقائدياً من أفغانستان وباكستان والعراق ولينان، بحجة حماية المقدسات والمراقد الشيعية في سوريا. وفي الحالتين تزاوج بين حكم الجمهورية وشروطها الانتخابية الديموقراطية المفترضة، ومرجعية المرشد الأعلى القروسطوية، “مرشد فوق الجميع”، تصفه بالمرجع الإسلامي الأعلى!

تاريخياً، فشلت إيران في تحقيق أهدافها من حربها مع العراق آواخر ثمانينات القرن العشرين. لكنها ومع بداية القرن الحالي تفاعلت ونسّقت مع غزوه أمريكياً عام 2003، وعملت على أن تكون ذراعها البرية في اجتياحه من جنوبه الذي يشكّل حاضنة وبيئة خصبة لتمددها فيه من بوابة البصرة، من مواقع الشيعة العرب. موقع يناقض تماماً هيمنة حكم البعث العروبي العراقي. وليس فقط، بل كانت على وفاق مع دول الخليج العربي وقتها، وهي على خلاف في طريقة الحكم معها! إذ تعّرف نفسها بالجمهورية الإسلامية ذات المرجعية الشيعية، فيما دول الخليج كانت وما زالت دول ذات إمارات ورثت حكم مناطقها بمرجعية الإسلام السني! فيما اليوم يتبدى الخلاف واضحاً بينهما في المسألتين السورية واليمنية. إذ دعمت وغذت إيران مادياً وعسكرياً وبشرياً ميليشياتها الطائفية فيهما، مقابل دعم الخليج بمعظمه للفصائل الإسلامية في كل منهما.

إيران، وفي العقود المنصرمة، دخلت مع دول الخليج، وخاصة الإمارات العربية والبحرين، في صفقات تجارية واستثمارية واسعة، وبذات الوقت تهدد المنطقة، ودول الخليج حصراً، والعالم من خلفها، بأمنه العام بإقفال الخليج العربي وإشعال فتيل حرب واسعة فيه. وتسلك ذات السلوك مع الدول الأوروبية؛ إذ يكفي أن ما لا يقل عن 125 شركة عالمية أوروبية جدولت عملها داخل إيران بعد توقيع العقوبات الدولية عليها بعد إيقاف العمل بالاتفاق النووي السابق بعهد ترامب، الرئيس الأمريكي السابق. واليوم تقدم إيران لروسيا طياراتها المسيرة في حربها على أوكرانيا، ومن خلفها على أوروبا من حيث النتيجة. فحرب روسيا على أوكرانيا، تصنف أوروبياً أنها حرب ضد أوروبا ذاتها! ومقدمة لوصول الحرب لداخلها وفرض شروط روسيا العسكرية والطاقية عليها، وهو ما تدفعه عنها أوروبا بدعم أوكرانيا بشتّى الطرق والوسائل العسكرية والمادية.

في سوريا، والقول طعمه دم ومرار، عملت إيران على بقاء هيمنة سلطة النظام القائمة بدعم مفتوح بشتى السبل الممكنة عسكرياً ومادياً وسياسياً، لتتحالف مع روسيا باستخدام ميليشياتها الطائفية البرية باجتياح غالبية الأرض السورية، فيما تمارس روسيا ضرباتها الجوية من السماء. وفي الحالتين هجّر الداخل السوري بغالبيته، وسوريا بلا دولة أو تغيير سياسي لليوم، منهارة بكل قواها المادية والمعنوية والحضارية. وفي اليمن عملت على تخريب استقرار الانتقال السياسي لفترة انتقالية فيه، مهددة الخليج العربي في بوابة باب المندب البحرية، عبر دعم الحوثين فيها بنزعة عسكرية انقلابية. ما استدعى دول التحالف العربي لرد هذا التمدد في اليمن، ولليوم دول الخليج في استنزاف مستمر، واليمن دون خط الاستقرار، ولا انتقال سياسي في اليمن! وإيران تفاوض الجميع في سوريا واليمن والعراق عبر أذرعها الممتدة فيها! ففي العراق تدعم ميليشيات الحشد الشعبي الشيعي وتمنع وتعطل سياسات استقراره بعد طول حرب، وفي لبنان تدعم عضوياً حزب الله وأنصاره وتعطل استقراره وتشكيل حكومته! ومعادلة إيران في مجموع هذه الدول: إما نظام حكم مطواع لنا ينفذ سياساتنا أو فالخراب العام واستمرار الحروب. والأشد إنكاراً، أنها تمارس هذا الدور عبر الأذرع المحلية من داخل هذه الدول.

اليوم أمريكيا تبارك آفاق ترسيم الحدود البحرية بين إيران وإسرائيل في لبنان عبر حزب الله، وتبارك تشكيل الحكومة العراقية ذات الغلبة الإيرانية، وتجمد التفاوض النووي معها، وتبقي على العقوبات الدولية عليها دون تخفيف بذات الوقت! وروسيا تمدّ إيران بتعزيز قدرتها في التخصيب النووي في المقابل. والصين تتحالف معها بمعاهدة الموانئ التجارية قبل عام.

بين حكم العمامة، وحكم المصالح الدولية، تعيش إيران وتتغذى على استمرار سياساتها المتعددة والمتباينة. سياسات مزواجة متعددة الأوجه والمصالح، الأوضح فيها أن إيران تتمدد خارج أرضها بقوتي العقيدة والبراغماتية معاً، وبالاستفادة من الفوالق المجتمعية الدينية في أراضينا دون أن تتدخل بنفسها كدولة وجيش في هذه الحروب، بل بالدعم العلني المادي واللوجستي والأمني. وتمارس السياسة الدولية، بالتحالفات المرحلية بغض النظر عن الأيديولوجيا وتحالفاتها، بقدر الاستفادة من تناقضاتها الدولية في تحصيل مكاسبها المرحلية، والتي تصب في تحقيق أهدافها الاستراتيجية. إيران لا تواجه مباشرة، ولا يمكن مواجهتها باللعنات والشتائم، بل بدراسة محتواها السياسي والتقني والعلمي، ومن ثم البحث في سبل وطرق إيقاف تمددها في المنطقة، خاصة وأنها باتت تهدد مصالح الجميع إقليمياً ودولياً، وقبلها تهدد حركة شعوب المنطقة واستقرارها وأمانها، فيما الثورة الإيرانية في الداخل تستمر ويقوى عودها، والجميع يترقب نتائجها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.