إلى سورية الشتات: هل أخطأ من بقي في سوريا؟

ماذا بعد؟ هو ليس سؤال سياسي يتبعه سؤال ما العمل! ولا سؤال ذو إجابة مباشرة تستسهله الأيديولوجيا.. ماذا بعد؟ سؤال حالنا، واقعنا، نحن من بتنا في أقصى درجات العتمة والسواد، ويتبعه سؤال إمكانية الخيار، هذا إن بقي لدينا القدرة عليه

أنهاجر كلنا أم نبقى نقاوم بما تبقى لدينا من قدرة على الصبر؟ وليس سوى الصبر مقوّم لحالنا الراهن. أسئلة السوريين اليوم وإن تعددت منابتها: ما الحل؟ أين التغيير الممكن؟ متى يحسم المجتمع الدولي الملف السوري؟ وكثيرون يقولون بتنا خارج سوريا وباتت مشاغلنا الحياتية تغلبنا عن الشأن السوري، فيما لم تزل ملفات السوريين المهجرين منهم، والعالقين في المخيمات، قيد تجاذب دولي سيء السمعة، والحمل الأكبر يقع على سوريي الداخل ولسان حالنا يقول: هل أخطأنا؟

مبكراً بدأ موسم الهجرة والتهجير السوري، وقِبلة السوريين الذين كتبت لهم النجاة من المحرقة كانت أوروبا، التي احتضنت قرابة مليوني سوري معظمهم في ألمانيا. فيما قراءة المشهد العام لواقع التغير في التركيبة الديمغرافية السورية كان يشير لثلاثة أنواع من الهجرات

*الهجرات القسرية: تلك التي فرضت على المدن والمناطق ذات الأغلبية السنية التي خرجت عن سيطرة السلطة جماعياً. وفردياً للملاحقين من الأجهزة الأمنية. فيما بدا وكأنه انتقام من سكان المناطق التي خرجت عن السيطرة، بدأت منذ العام 2014 معالم تهجير لبعض المناطق والحارات في المدن السورية، لتصل بعد مصالحات 2018 لتهجير قسري لمناطق واسعة من المدن السورية، سواء لخارج سوريا، أو إلى مناطق خارج سيطرة السلطة في إدلب وشمال حلب

*الهجرات التبادلية: والتي تمت بين بلدات ذات انتماء سني في محيط شيعي والعكس، كان أبرزها اتفاق المدن الأربعة (مضايا والزبداني مقابل كفريا والفوعة) فاضح المعالم والسياسة القذرة، فيما كانت منطقة السيدة زينب في جنوب دمشق موقعاً لتهجير سكانها السنة والاستعاضة عنهم بذوي الانتماء الشيعي، خاصة سكان بصرى الشام في درعا

*الهجرة الطوعية: والتي بدأت فردية لمن يطمحون للعيش في أوروبا، تلك أتت نتيجة لفتح أوروبا أبوابها أمام طالبي اللجوء السوري، ليستفيد منها عدد كبير من السوريين الراغبين من الخروج من سوريا دون أي ضرر أمني يحيق بهم. أما اليوم فالهجرة الطوعية تأتي نتيجة ضيق حال المعاش الداخلي المادي في غالبه، خاصة لأبناء الأقليات التي باتت تنسدّ أمامهم فرص العمل والحياة في الداخل السوري. لقد أخذت هذه الهجرة بالزيادة المتتالية لدرجة باتت تشكل شبه حالة جمعية خاصة في أوساط الشباب والحرفيين والصناعين والتجار

واقع التهجير السوري بلغ ما يزيد عن 13.6 مليون سوري بين مهجر داخلي وخارجي، حسب تقارير أممية، أكثر من نصفهم في تركيا ومناطق إدلب. والحديث السياسي العام مفاده ثمة تغيير ديمغرافي بات يشمل كل سوريا، ولا يقتصر على مجتمع الأكثرية الدينية قسرياً وحسب، بل بات يطال الأقليات الكردية والدرزية والإسماعلية والشركسية والأرمنية طوعياً أيضاً، والأقليات الحرفية من شتى الانتماءات

أما من بقي بسوريا ولا يطال نصيبه من أي نوع من أنواع الهجرات هذه يتساءل هل أخطأنا؟ هل كان يجب أن نخرج مع من خرجوا من سوريا إلى أوروبا طوعاً أو قسراً؟ خاصة وأن كل السبل باتت مسدودة أمامهم، لدرجة أن ابتكار طرق التهريب باتت محفوفة بمخاطر فائقة، وأخطار المعاش الداخلي الذي بات معجزة أمنية واقتصادية لا حل لها لليوم

الوقع السوري بكوارثه المتلاحقة لا يمكن الجزم بنتيجته ولا مساره القادم، لكنه يجد كل مسببات تفسيره في الحكم وطريقة الحكم، سواء كانت سياسية مباشرة، أو ثقافية عميقة، فـ”الحكم نتيجة الحكمة، ومن لا حكمة له لا حكم له، والعلم نتيجة المعرفة، ومن لا معرفة له لا علم له”، ذلك الموضوع الذي جمع فيها “محي الدين بن عربي” قبل 1000 عام من اليوم طرفي المعادلة في كتابه “حلية الإبدال”. المعادلة التي تجمع حدي السياسة والحكم من جهة مع العلم والمعرفة من جهة أخرى! إذ لم يكن الواقع السوري الحالي، خاصة في موضع هجرات أبنائه وتغيير تركيبته السكانية، سوى نتيجة لحكم بلا حكمة، لسلطة الاستبداد المطلق وطرق إدارتها للملف السوري في سياق ثورته المتغيرة المفاصل، لدرجة ان أصحاب السلطة القائمة لليوم لا يجدون حلاً لتتالي مآزقهم أمام من رهنوا البلاد لهم من روس وإيرانيين، سوى بالمزيد من الضغوط وتعقيد المشهد على من بقي في الداخل السوري، والعبث هو سيد الموقف السياسي

فيما ما زال أكثرية منّا يعاندون معادلات القهر اليومي، والذي إن كانت واجهته الأولى سياسية، لكن خلفيته ثقافية وفكرية، وخاصة عند السوريين الذين باتوا في الخارج، لدرجة أنهم باتوا قليلي بل نادري الاهتمام بما يجري بالداخل السوري. وحيث إن الملفات الاقتصادية هي أولوية عند غالبيتهم التي باتت مرهقة للجميع، لكن الاهتمام بما يملكه سوريو الداخل من إمكانات معرفية وثقافية وعلمية باتت قيد إهمال غير مقصود مرة ومتعمد مرات، لدرجة بتنا نغار من لقاءات سوريي الخارج ثقافياً وفنياً وفكرياً دون أن ندعا لحضورها العام

ابن عربي، الشيخ الأكبر المتصوف، كان يعيش بيننا متنقلاً من الأندلس إلى دمشق ليموت فيها، وما زال يعيش اليوم أمثاله وأكثر منه بيننا، ولا إجابة لديهم على سؤال هل أخطأنا سوى بالتصوف! أجل التصوف رداً على سحق الوضع القائم مرة، وعلى تأنيب الضمير مرات، والإهمال المتعمد الذي يعيشوه من قبل أقرانهم السوريين في الخارج، وكأن ثقافتنا التي لم تتحرر بعد من مركزية السلطة القهرية القابعة في الأنفس، سياسياً ودينياً، ما زالت تصرّ على العبث والتنظير، وقلما تكون ذات فاعلية موجهة، فلا هي أنتجت سلطة وحكماً ذا عدل وحقوق وحريات، ولا ديناً ذا تسامح وانفتاح. ثقافتنا هذه تهدر كل مقومات وجودنا البشري والمادي والفكري والمعنوي، كما هدرت كل إشراقات حضارتنا السابقة

أجل لقد أقامت السياسة والسلطة القائمة مجزرة سورية كبرى أهم تمظهرها تعدد الاحتلالات وأنماط الهجرات المتعددة، لكن لم تكن ثقافتنا بريئة مما يجري، بل مساهمة بأكثر من طريقة فيه، وأخشى ما أخشاه أن مصير من بقي في الداخل السوري الاندثار والموت فقعاً أو كمداً. فليس عتباً، ولا تعميماً جزافياً، أن نقول للسوريين في كل شتات الأرض: أين أنتم من سوريا اليوم؟ ماذا تفعلون لها؟ هل ما زلتم تتخاصمون على موقع سياسي هنا وقيادي في آخر أم هل اكتفيتم بميزات اللجوء وكفى؟ أم ما زلتم تصرون على ثقافة التخوين التي اجتاحت كل الساحة السورية لدرجة بتنا لا نستطيع التفريق بين ما هو حقيقي فينا وما هو زائف؟

أما إجابة ماذا بعد، لا قبل ولا بعد، الله أشفق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.