كان المشهد جميلاً، وسنديان الحرية يشمخ عالياً قبل أن يغدو حطباً. حين ضجت شوارع المدن العربية، في عواصمها الكبرى والتاريخية، في تونس، القاهرة، صنعاء، عدن، وفي دمشق وغيرها من عواصم الاستبداد العربي التاريخي، في الساحات والشوارع، في القرى والمدن قبل عقد من اليوم تنشد الحرية والتغيير. لربما كلمة جميل لا تفي بالغرض السياسي لكنها ترتقي للمعنى الفلسفي الأخلاقي والتاريخي، فالجمال هو القيمة العليا النسبية التي تحد من إطلاقيه الجلال وعظمته. هي روح أمة تنهض من تحت ركام الاستبداد، ومسيرة شباب ترنو إلى مستقبل يضاهي مصافي الأمم المتقدمة والمتحضرة، ولم تزل تواريخ 25/1 المصرية و15/3 السورية وغيرها، تدق بوابات المستقبل وإن كبرت تحدياتها التاريخية والمفصلية، وكبرت معها كوارثنا الوطنية
اليوم توثق الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل ستين مدنياً في سوريا في شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، منهم 10 أطفال و5 سيدات و5 من ضحايا الموت في غرف التعذيب. والموت تحت التعذيب جملة تكاد لا تستطيع أذن تحمل وقعها ولا عقل على تصور فحواها، ولا جيل يحتمل وزر متابعتها، فإلى متى؟ إلى متى يبقى السوريون وجيل الشباب منهم، عرضة لكل صنوف القتل والبتر والتهجير، وهو جيل يكتنز القدرة والإمكانية على أن ينافس في المحافل الدولية في كل مجالات الحياة التقنية والصناعية والعلمية والفكرية والأدبية والثقافية أيضاً، جيل يستحق الحياة إذا ما وجد بيئة آمنة للقدرة على الانفتاح؟ وهذا ما وأدته لليوم صنوف سلطات العنف والاستبداد وقوى الأمر الواقع التي تعتاش على دم السوريين. والسوريون لليوم استثناء في المعادلة العربية ونقطة تحول كبرى في معادلة الصراع العالمي. جيل ليس شرقياً متخلفاً حسبما تصفه بهرجات الثقافة المزيفة كجيل شرقي بالهوية الشرقية، بل هو جيل لم يقنع يوماً بعجزه ولا بشرقيته الموصوفة بالعالم – ثالثية من حيث القدرة والتفكير المحدود. فحيث وُجد الشباب بدأ التاريخ يُكتب من جديد وبطريقة مختلفة، إنها طريقة تحقيق المفارقة والانزياح القيمي ناحية سلم الحضارة وإن باتت كلفته فادحة
لم تتوقف المجزرة السورية، فرغم بعض هدوئها النسبي في فترات زمنية قليلة، إلا أنها سجلت ما يفوق مليون قتيل وموت تحت التعذيب، فيما الأرقام الأممية الرسمية تشير إلى حوالي الـ 700 ألف فقط، والأرقام هنا قيد تحقيق وكشف، فما لم توثقه المنظمات الأممية أكثر بكثير من المسجل في قوائمها، حسبما باتت تكشفه بالتدريج ملفاتها المخفية لليوم كملفات بزار سياسي وليست حقوقية في المعادلة السورية. كما وسجلت أكثر من 13.6 مليون سوري مهجر ونازح من تاريخهم وحياتهم وبيوتهم، قرابة النصف منهم في داخل سوريا والأكثرية خارجها. فيما لبنان اليوم يستعرض عودة بضع مئات من اللاجئين السوريين، “عودة آمنة”، حسب التصريحات الرسمية اللبنانية والسورية، كدعاية إعلامية واشية لعودة السوريين الآمنة لوطنهم بعد استقرار بلادهم وتوقف آلة الحرب! والغريب أن سوريي الداخل يسعون للهجرة والخروج من سوريا بأي طريقة كانت حتى ولو كانت في قوارب الموت التي يتم الكشف عنها دورياً في سواحل المتوسط، وآخرها قارب طرابلس طرطوس. ويغيّب الإعلام، السوري واللبناني، موت غالبيتهم غرقاً في البحر، فيما اعتقال المُنقذ منهم، ربما بتهمة الهروب من الوطن
حينما تحولت المسألة السورية لبازار عالمي فوق مستوى الحقوق والحياة الإنسانية بدأت الكارثة. حين عاد التاريخ ومكره السياسي للعبث في مصائرنا. لتنفتح معه بوابة الرعب والمرض العصابي وشهوة القتل على مصراعيها، وتزداد دوائرها اتساعاً وتبدأ بابتلاع الشباب وإجهاض فورتهم يوماً بعد يوم، ليستحيل السنديان حطباً والحرية ودولة القانون وبالاً بعدما كانت حلماً، فقد أراد العالم أن يجعل من ثورات الربيع العربي عامة والسوري خاصة وبالاً على شعوبها، لأنه أدرك خطرها الفعلي على تفاهمات مصالحه الكبرى في الإبقاء على دول المنطقة مسلوبة الإرادة دون دولة وطنية ذاتية الهوية والتعريف. لتساق معها مسارات الثورة وجمالياتها، عنوة، نحو استقطابات وبؤر لم يكن يريدها لا الشباب في فورتهم ولا مسار التاريخ في صيرورته. فهل تحققت مصالح الدول تلك أم بات الدم السوري وبالاً على العالم برمته؟ حين تدحرجت كرة النار من سوريا إلى أوكرانيا في قلب أوروبا، وبات العالم برمته مشدود الأنفاس من خطر حرب تجتاح كامل أوروبا، وتنداح في كامل سطح المعمورة، فكيف إن استخدم بوتين زره النووي؟ وبوتين هذا كان المسكوت عنه لسبع سنوات في سوريا يجتاح مدنها ويهجر سكانها مدينة تلو مدينة
الإعاقة والخذلان، الامتصاص والتحوير، زيادة الكلفة البشرية، التباين في التوصيف، والتحكم والإدارة هي معالم ومسارات العالم مقابل الربيع العربي عامة، والسوري خاصة. والأدهى تحولها من ثورات تستهدف استرداد الدولة من قبضة سلطاتها المحلية العسكرية والأمنية لسلسلة من المواجهات العنفية لا تنتهي: مواجهة كانت ولم تزل قائمة مع الأيديولوجيات السياسية التاريخية السلطوية العنفية والأيديولوجية المتكلسة تلك التي تصيبها نوبات القهرية والكيدية السياسية كونها لم تستطع مواكبة حراك الواقع المتغير، وبدل أن تلتحق بمشاريع الثورة عضوياً، عاداها أغلبها وابتز البعض الآخر منها فوران الشباب وأحالها إلى سلالم وصول نحو سلطة مفترضة واهمة. ومواجهة عنيفة ذات دوامات متداخلة بين تلك المشاريع الإقليمية والدولية والمتمحورة على أرضية التدخل في الشؤون المحلية، فتشهد سوريا تحالفاً إيرانياً روسياً مع السلطة، مقابل تحالف تركي خليجي مع بعض فصائل المعارضة، وتحالفاً نفعياً أمريكياً مع الكورد وبعض الفصائل الأخرى، وبين هذه وتلك أيادٍ عدة تعبث في المصير السوري وتقيم مجازر لم تتوقف لليوم. فيما المواجهة الكبرى عنوانها الحضارات وصدامها، هي المواجهة الثالثة التي لم تتكشف عناوينها بشكل دقيق إلا مع انتقال روسيا لغزو أوكرانيا عبر جيوبوليتيكها الدولي الذي يفترض كسر الهيمنة الأمريكية الواحدية ومن خلفها الناتو على سلطة العالم. مواجهة تشي بكارثة عالمية كبرى، أشد وأخطر من الحربين العالميتين السابقتين. فهل تتعقل سياسات العالم المتقدم؟ هل تعود أوروبا لميراثها الحضاري وتعود لنفي الحرب مرة أخرى كما حاولت لعقود، وتنتصر لمظالم السوريين ودول ثورات الربيع العربي؟ فهذه إن حققت استقرارها الوطني وتمركزت على ذاتها كدول وطنية، فستكون قادرة على أن تنفي كل فورات الحرب والغزو والاستيلاء بالقوة على ممرات الطاقة العالمية والأمن العالمي وصراعها المستفحل اليوم في أوكرانيا؟
مرة أخرى، وبعيداً عن الخوض في التحليل السياسي المفصل، فما أن تذكر سوريا حتى تستدعي كل مجريات الحدث العالمي دفعة واحدة. مرة أخرى المعلم الأكبر والأكثر إشراقاً فيما مضى هو سقوط نفسي لهيمنة السلطة وتحرر قيود الشباب من الهيمنة والسطوة حتى وإن تأخر الحل السياسي المزمع. وما تزاحم الأمم والدول الكبرى وتسارع خطواتها للتفاهم حول تقاسم منتجه السياسي وبالنتيجة الاقتصادي وبتر دولته الوطنية، إلا دليل على أن شباب الثورات ينزاح نحو القمة في قيمته المدنية والمستقبلية، ويتهاوى السياسي والأيديولوجي والنفعي نحو الحضيض أمامه. فحيث لا يمكن للسنديان أن يختار قدره: فإما شموخ وتعالٍ أو أن يكون حطباً في المدفأة كما يفعل سوريو الداخل حين يحطبون أشجارهم للتدفئة في شتاء مقبل لا وسائل تدفئة ولا سلطة تقوم على تأمينها، فهل يقتنع العالم بضرورة التغيير السياسي في سوريا أم ما زال يسوف وتكبر المحرقة لتصبح دولاً بذاتها؟