الوطنية والديموقراطية وذكرى ناصر

[بقلم د. جمال الشوفي]

لم يزل الفكر “العربوي- القوموي” لليوم يقف من جمال عبد الناصر، الرئيس المصري الراحل عن عمر لا يزيد عن 52 عاماً، ومن تجربته السياسية أمام مقولتي الوطنية والديموقراطية في حدين متباينين من الرؤى لدرجة التخاصم والتنازع قوضت أية امكانية فعلية للنقد والتصويب. فقلما يخرج الفكر السياسي للمجموع العام من محاكمة الرجل محاكمة عاطفية محظ:

  • الأولى: التعلق به كزعيم أمة “مطلق”، حيث لا يمكن انكار أنه نموذج وطني بامتياز قاد مع مجموعة من الضباط المصريين الأحرار انقلاباً عسكرياً على حكم الملك فاروق عام 1952، آخر ملوك سلالة محمد على. وان المرحوم مات ولا يمتلك سوى راتبه التقاعدي ولم يورث أي من أبنائه حكم مصر، ولم يسلط عشيرته ولا طائفته على المجتمع. فعبد الناصر ترك ارثاً وطنيا في حبه للناس وحب الجماهير والشارع الشعبي له، والذي اندفع بجماعه ليعيده لكرسي الرئاسة بعد أن استقال اثر هزيمة حزيران، و هو الأوحد بين من يسموا رؤساء العرب من استقال من منصبه كرئيس طوعاً معترفاً بمسؤوليته الكبرى في هزيمة حزيران 1967.
  • الثانية: هو شعور سلبي بالرفض الكلي لرجل ديكتاتوري ألغى العمل بالأحزاب السياسية ولاحق العاملين فيها، ما أسس فعلياً لهيمنة الدولة بمنظومتها العسكرية والأمنية على مقدرات المجتمع كافة لاغية حرية الفرد وقدرته على الخيار، ما نزع عنه بالضرورة صفة المواطن، وأدى لإلغاء الدولة، لافتقادها احد أهم أركانها بالمبدأ وتحولها لاحقاً، وتحولها لمجرد سلطة استبداد سياسي وعسكري وأمني على شاكلة رعايا وحاكم.

وقلما يحاكم الرجل في زمن وجوده السياسي وأثره الإيجابي أو السلبي في طور تشكل نويات “الدولة العربية” في العصر الحديث، ما سمي عصر الاستقلال الأول عن نظم الاستعمار والانتداب الغربي لعموم المنطقة العربية أو المسماة الجمهوريات الأولى. فلازال الفكر العربي لا ينظر في هذا السياق إلا لرجل فرد وفقط – صانع المعجزات او صانع الويلات- نافيين من خلفه الدولة والمؤسسات والبنى المجتمعية عامة، وكأن العقل العربي لم يخرج بعد من امتثاليته الذهنية لصورة أولى هي اما الملاك أو الشيطان!

يبدو سؤال الدولة بين مفهومي الوطنية و الديموقراطية وما يتبعها من اشتراط التمثيل السياسي في الهيئات والمنابر السياسية، هو الغائب عن منظومة التجربة السياسية الناصرية الحالية، فهي بداية اعلاء لا نهائي لدرجة التغول في الوطنية، وطلاق بيّن للديموقراطية، فالوطنية المتغولة ونزعة التفرد في الحكم والانتماء الغيري للوطن لا يمكنه أن ينتج سوى الاستبداد السياسي عندما يتم حذف الديموقراطية وحرية الآخر في التعبير والوجود السياسي في كثافة وخلاصة التجربة الديموقراطية. والديموقراطية بذاتها تشترط الوطنية والانتماء العام بكل اشكال اختلافاته لمفهوم الأمة؛ ولا يمكنها أن تتحقق في دولة إلا بوجودهما معاً

فمرفقاً لمفهوم الديموقراطية المنسلخ عن حدوده السياسية الغير متحققة في الدولة والأمة بعد في مسار الثورة السورية، مارست بقايا الأحزاب القومية والناصرية منها، التي كان عبد الناصر ملهماً لها، كل سبل التعطيل لحركة الواقع الثورية العريضة متمسكين بأحقية التمثيل السياسي كشعار ديموقراطي فظ دون النظر لوجوده الفعلي وتحققه كنتاج للثورة التي تسعى لاسترداد الدولة المنتهكة بفعل نظم العسكر ذاتها. ذات يوم أعلن المنسق العام لهيئة التنسيق الوطنية، حسن عبد العظيم، “دقت ساعة العمل الثوري!”، معلناً ساعة صفرها وبوصلته فيها الأمة العربية، القومية العربية! فالمنطقة برمتها عرضة للتقسيم والتشظي خاصة بعد مؤشر الاستفتاء الكردي العراقي الفاشل وقتها الذي دق ناقوس الخطر. وحقيقة القصة فعلياً أن الأعوام الماضية عند فريق سوري سياسي “معارض ” لم تكن ثورة ولم يكن لها علاقة بمظالم البشر ولا باستحقاقات الدولة الوطنية الممكنة، بقدر ما كانت بالنسبة لهم مجرد لعبة سياسية “ديموقراطية” محضة في التنافس على السلطة ومكاسبها وكأنها في أرقى دول العالم ديموقراطية وكانت ناصعة البياض لا دم هدر بها ولا آلاف المعتقلين ولا أبيدت فيها مدن ولا هجر سكانها! انما العمل “الثوري” الحقيقي هو “وحدة عربية، طيف وحدة، كيفما شئت أقدمي”ّ! وهذا لغط فكري وخلط من عيار، يفوق وصف الهزيمة الذي اعترف بها عبد الناصر يوماً ولم يقر بمضمونها العقلي والإنساني اتباعه لليوم، الى مستوى الفاجعة في الفكر والسياسة.

الوطنية والديموقراطية هما اشكالية السياسة القوموية عامة والسورية خاصة، فهما على حدي نقيض لدرجة الخصام والقطيعة، وبات استخدام أولوية احداهما على الأخرى محض انتقائية لا تخرج عن كونها لعبة سياسية مغروضة لكسب قصير يلغي كلاهما سلفاً. ونقد التجربة الذهنية هذه يستوجب طرحهما متلازمتان للدولة الحديثة أو الدولة العصرية، فحيث يكون المواطن معرف بانتمائه الحر وبقدرته على الاختيار تكون المواطنة هي صفة الفرد سواء كان أمّياً من “عامة البشر” أو “نخبوياً” من “صفوتها”، لتكون الديموقراطية هي حق الكل في الحياة الحرة المتنوعة في الاختيار سواء في أبسط أشكالها في المأكل والملبس على تنوعه العريض، إلى امتلاكه القدرة على التعبير عن رأيه السياسي في شكل حكمه ومن يمثله أو يمثلوه، في فضاء حريته الفكرية فيما يحب أو يعتقد هو والآخر.

حسب عبدالله العروي وتيار الحداثة والعقلانية العربية الذي لم يوفق في زحمة المشاريع القوموية وغيرها من تحقيق خطوات سياسية بعد أن  ((التجربة الإنسانية هي ليست فقط تجربة سياسية مرتبطة في الدولة أساساً))، ولا يمكن بحال من الأحوال جعل التجربة البشرية في الدولة العصرية، مكتفية بالتجربة السياسية كشعار ديموقراطي وفقط ما لم تتسع لحدود حرية الفرد وقدرته على التفكير الحر منفرداً أو ضمن المؤسسات، وشرط وجودها الأول الانتماء لوطن يحقق مناخ الحريات والديموقراطية تسمى دولة المواطنة، وهذا ما لم يتحقق بعد لا سورياً ولا عربياً، وهو ما لا تريد أن تدركه لليوم أحزابنا السياسية بعد ….

وهي ذات المسألة التي طرحها عبد الله العروي في كتاب مفهوم الحرية وحيث لم يكن هذان المفهومين سوى حدين مترافقين في تشكيل الدولة الحديثة يصعب تفارقهما عن بعض،

2 تعليقات
  1. منجد الباشا يقول

    يتضح بعكس مابدا في مقدمة المقال ..حيث اعتمدالكاتب الرؤية الموضوعية في مقاربةتجربة عبد الناصر الوطنية المتميزة انه يضمر موقفا مسبقا عن التجربة الناصرية طالما انها تعبر عن خطاب قومي…
    فقد ظهر ذلك ببنائه استنتاجا خاطئا ومتسرعا على كلمة حسن عبد العظيم..التي تفهم على غير ماذهب اليه الكاتب..
    والتي تعني ان ساعة العمل الثوري قد ازفت كون الثورة السورية كماباقي ثورات الربيع العربي..
    قد انطلقت ثورة شعبية خالصة ولاول مرة في تاريخ الشعوب العربية…منذ بعيد الاستقلال…
    الامر الذي يتسق مع جوهر الفكر الناصري المنحاز للشعوب…
    اما ماتم استنتاجه عن محددات العلاقة بين الوطنية والديمقراطية..ففيه من الضبابية مايجعلنا نطلب اليه ان ينطر الى هذه المحددات في فكر التيارات السياسية الاخرى والتي جعلت من الديمقراطية منهجا وحيدا لها..
    وكذلك نطلب اليه رصد العامل الخارجي ودوره في تشويه اي خطاب سياسي عربي..مايمنع على المتابع من التقاط الاسباب الحقيقية لعدم انضاج وانجاح اي خطاب سياسي والسماح له بالذهاب الى منتهاه الطبيعي..

  2. محمد سيسونو يقول

    إذا انطلقنا أن السياسة هي أداة صنعت من الاستبداد ولصوص المجتمع لتضليل البشر وإقناعهم بأنهم عبيد مأجورين لهم، نعرف أن كل استخداماتها تضليلية، فكيف يصل الكاتب إلى أن الأحزاب تعمل لصالح الشعب ولصالح السلام الأعظمي؟
    لو أننا نلزم السياسة في كل مكان أيضاً كل الأحزاب بالعمل على تحقيق السلام الأعظمي لوجدنا أنها ستتفق على منهج واحد لتحقيق السلام الأعظمي وتتحد وتشكل حزب واحد ما يلغي شرعية تعددها كطريقة للوصول إلى السلام الأعظمي،

    حركة عبد الناصر كانت طبيعية تحليلية والدليل على ذلك أنه بالرغم من كل السياسات التي كانت مسيطرة على الإنسانية بين اليمين واليسار والديانات ابتعد في النهاية عنها كلها وبدأ بتحقيق السلام بتشكيل منظومة دول عدم الانحياز عالمياً، وهذا هو الطريق الصحيح، أن التجارب تحتوي على أخطاء هو شيء عادي أما تكرار الأخطاء والإصرار على القيام بها هو الخطأة التي لا يتوقف ولا حاكم مستبد في العالم العربي عن القيام به.
    والربيع الذي يتكلم الجميع عنه أولاً لم يكن ربيع بقدر ما كان شتاء مدمر، لأن مهمة الربيع هي تحقيق السلام الأعظمي وثانياً لم يكن ربيع عربي بقدر ما كان ربيع صهيوني.
    بما أن الكاتب لم يصل لفهم أن السياسة هي عطب إنساني لن يستطيع بطرحه أن يصل للحقيقة فهو يعتمد السياسة كتحليل لما يطرحه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.