في ذكرى الانفصال

هل كان النحلاوي رجل الانفصال أم داعية إصلاح الوحدة ؟

[بقلم رياض نعسان آغا]

أثار فيّ الحوار الذي نشر في ذكرى الانفصال الحادية والستين مع عبد الكريم النحلاوي مشاعر التقدير والاحترام لهذا الرجل الوطني الكبير الذي ظُلِم كثيراً حين ارتبط اسمه بالانفصال ، بينما هو في نظري رجل وحدوي مخلص ، لكنه رفض انحراف مسار الوحدة ، ورفض اختلال موازين الحكم فيها ، وكان بحكم موقعه في إدارة شؤون الضباط والقرب من حاكم سورية المشير عبد الحكيم عامر على معرفة وثيقة بما يقع من تجاهل للضباط السوريين في فرقهم ووحداتهم من قبل بعض قادتهم المصريين الذين تصرف بعضهم كأنه صاحب الأمر والنهي وحده في الجيش ، وكان الشعب السوري يغفر ذلك ويتجاهل ما يراه أخطاء صغيرةً ، لأنه يحرص على الوحدة ويفخر بها ، ولم تكن تلك التصرفات الخاطئة تعبر عن شعب مصر العظيم الذي بادل السوريين محبة كبيرة كانت تنبع من تاريخ عريق جمع سورية ومصر في عدة تجارب وحدوية ناجحة ، فتاريخ البلدين الشقيقين هو تاريخ اتحاد على مدى العصور ، وأهم تجلياتها كانت في عهد صلاح الدين الأيوبي ، ثم في عهد الظاهر بيبرس .

فأما الوحدة التي سلّم فيها الرئيس شكري القوتلي سورية لعبد الناصر ، فقد جاءت عام 1958 بعد ضغط كبير من الضباط الذين ذهبوا لمقابلة عبد الناصر يطلبون الوحدة دون إعلام حكومتهم ، يناصرهم قادة سياسيون ونواب في البرلمان السوري ، وقادة أحزاب هرعوا إلى مصر ، في ظروف شبه اضطرارية لإنقاذ مواقف سياسية وعسكرية ، من أهمها ظهور حلف بغداد الذي رفضه السوريون والمصريون ، واحتمال تدخل عسكري تركي في شمال سورية ، فضلاً عن تحركات مريبة للأسطول الأمريكي أمام شواطىء المتوسط ، وكان الضباط السوريون بخاصة في ( مجلس العقداء ) متلهفين للوحدة ، و معهم كل الشعب السوي المفعم بالمشاعر القومية ، التي هتفت لثورة يوليو 1952 وبلغت ذروتها أيام العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ، وجلّهم مفتونون بخطابات عبد الناصر التي هاجم فيها الاستعمار، وكان السوريون قد عانوا كثيراً من الصراعات والانقلابات العسكرية المتتالية بعد الاستقلال من الانتداب الفرنسي .
كان عبد الناصر قد بدا فاتراً في قبول عرض الوحدة ولم يقابل وفد الضباط إلا بعد ثلاثة أيام من محاولات الإقناع ، وقد وضع شروطاً قاسية للقبول ، منها حل الأحزاب السياسية ، وحل البرلمان الديموقراطي ، وإنهاء حالة التعددية السياسية في الدولة والمجتمع ، وإبعاد عدد من الضباط الكبار عن الجيش إلى مناصب مدنية ، و قبل الضباط ووقعوا بيان الوحدة ، وعاشت سورية فرحاً غير مسبوق بإعلان الجمهورية العربية المتحدة .

ولن أخوض في تفاصيل باتت معروفة في تشكيلات الوحدة إدارياً بين اقليم شمالي وأقليم جنوبي ، و لكن لابد من الإشارة إلى فشل التجربة بتحقيق توازن عادل بين الشريكين ، ولاسيما في المجالين الآقتصادي والعسكري .
كان من أخطاء عبد الناصر ( من وجهة نظري ) أنه تخلى عن شعار ثورة يوليو ( العدالة الاجتماعية ) ونادى بما ينادي به البعثيون والشيوعيون وهو شعار ( الاشتراكية ) رغم أن عبد الناصر لم يكن إيديولوجياً ، لكن شعارات البعث الاشتراكي أغرته بهذا النهج ، وأتوقع أن يكون أكرم الحوراني مؤسس الحزب الاشتراكي العربي الذي اندمج مع حزب البعث ، هو الذي دفع عبد الناصر إلى شعار الاشتراكية ، وقد كان الحوراني محامياً وسياسياً بارعاً ، وكان رئيساً للبرلمان السوري فضلاً عن كونه ثالث قيادي قومي بعثي مع عفلق والبيطار ، وقد عينه عبد الناصر نائباً لرئيس الجمهورية ، وهو المنصب الذي استقال منه مع مجموعة من الوزراء السوريين حين وقع الخلاف .
كان نجاح تأميم عبد الناصر لقناة السويس قد فتح شهيته على متابعة التأميم في المجال الاقتصادي ، فكانت المأساة الكبرى حين صادر الحراك الاقتصادي الناشط في سورية ، وقضى على كبار الصناعيين والتجار والمستثمرين الذين جعلوا سورية في أوائل الخمسينات في ذروة نهضة صناعية وزراعية وتجارية ومصرفية لفتت أنظار العالم ، واعدة باقتصاد متين مزدهر ، وكان من سوء حظ سورية أن البعث تابع مسار الاشتراكية ، والمفارقة التاريخية أن البعث أدرك أواخر التسعينيات و مطلع الألفية الثالثة فشل مسار تجاربه الاشتراكية التي لم تحقق سوى ما يسخر منه السوريون ( بأنها زادت اللصوص الأثرياء غنى ، وزادت المعدمين فقراً ) وواجه البعثيون حقيقة ما وصل إليه القطاع العام من انهيار مريع ، وبات الطموح لدى الإصلاحيين أن تعود سورية إلى ما كانت عليه في أواسط الخمسينيات ، لكن لم يكن لدى البعث مثيل البرجوازية الوطنية المخلصة التي تم القضاء عليها من أيام عبد الناصر ومن تلاه ، وحل محلها رهط من الفاسدين الطفيليين الذين كانوا من أسباب النقمة التي دفعت الشعب إلى ثورة عام 2011 .

كان أكرم الحوراني نائباً لرئيس الجمهورية عبد الناصر ، و لقد اعتمد الرئيس في سورية على رجلين لم يكونا متوافقين ، أولهما عبد الحميد السراج الذي كان عين عبد الناصر المخابراتية ويده المحكمة على عنق الشعب السوري ، وثانيهما هو الحاكم المتصرف في الإقليم الشمالي المشير عبد الحكيم عامر ، وكان التنافس حاراً بين الرجلين .

كان السراج قد أحكم القبض على الحراك السياسي ، ويقول من ينتقدون حكم عبد الناصر ، إن السوريين في عهده تعرفوا إلى وجود المخابرات لأول مرة وشاع بينهم القول الشهير (إن للجدران آذاناً ) وبات الحديث في السياسة بالإشارة أو الهمس أدعى لراحة البال ، وأن من تغضب عليه مخابرات عبد الناصر قد يتعرض للإعدام وربما للتذويب بالأسيد كما قيل عن طريقة قتل الزعيم الشيوعي فرج الله الحلو عام 1959 ، وأما المصريون فقد صنعوا أفلاماً ضخمة عن مخابرات عبد الناصر في مصر وعن بطلها الشهير صلاح نصر .
وأما المشير عامر فقد كان يعجز عن إقامة العدل بين السوريين والمصريين ، فهو إلى أهله الأقربين أميل ، ولم يلحظ أنه لم يعدل في توزيع المواقع القيادية بينهم ، وقد تضاعف حضور الضباط المصريين في سورية ، بما لايكافئه حضور الضباط السوريين في مصر .
كان الضباط السوريون يشعرون بغصة وضيق من تصرفات ( المشير عامر ) وبخاصة حين وصلت الأسلحة التشيكية التي كانت سورية متعاقدة عليها لجيشها الأول من قبل إعلان الوحدة ، وكان الضباط السوريون يتنظرون وصولها ، وحين أوشكت الشحنة الضخمة أن تصل إلى ميناء اللاذقية زُفّ للمشير الخبر الطيب ، وكانت المفاجأة أن المشير أمر بأن تتجه السفينة إلى ميناء الاسكندرية ، وقد أثار هذا الموقف ثلة الضباط الكبار الذين كانوا يلتقون عادة في مكتب النحلاوي ، وذكّروا المشير بأن هذه الشحنة للجيش السوري وقد تم التعاقد عليها قبل الوحدة ، لكنه أجاب ببرود ( إيه المشكلة ؟ ما احنا دولة واحدة ) .

لكن المشكلة الثانية جاءت أشد إثارة ، حين أُبلِغ المشير أن الطائرات التي تعاقد عليها الجيش السوري واشتراها قبل الوحدة ستصل تباعاً ، وجاء أمر المشير ( بلغوهم أن تنزل الطائرات الجديدة في مطار ألماظة ) .

هذه مجرد نماذج من التصرفات غير المحسوبة النتائج التي تركت ضيقاً عند الضباط السوريين ، ورغم أن ما قاله المشير عامر صحيح ( نحن دولة واحدة ) ولكن !!!

ثم جاءت حادثة تبدو صغيرة وغير هامة في سياق الأحداث الكبرى ، لكنها بدت مثل القشة التي تقصم ظهر البعير ، وهي حكاية بنت صغيرة ربما هي من ريف حلب ، تبادلت علاقة حب مع ضابط مصري شاب كان يخدم في حلب ، وعدها بالزواج ، لكنه غرر بها ثم رفض التقدم لخطبتها ، واكتشف أهل البنت ما اصاب ابنتهم وكادوا يرتكبون جريمة ، لولا تدخل عاقل نقل الشكوى لكبار الضباط للضغط على الضابط الشاب كي يفي بوعده للفتاة ، ولكن الشاب أصر على رفضه االزواج منها ، فاستعان الضباط بالمشير ، وأثاروا حميته وحذروا من أن الشاب والفتاة قد يتعرضان للقتل ، فوعدهم بأن يجبر الضابط الشاب على الزواج منها ستراً لها ، لكن الضباط السوريين فوجئوا بقرار المشير بنقل الضابط الشاب إلى مصر( بما يعني تهريبه ) و بدا عدم اهتمام المشير بالقضية مما زاد ضيقهم .
كان الضباط الدمشقيون الذين يعملون في مواقع حساسة في الجيش قد اتفقوا مع النحلاوي على أن يقدموا عريضة مطالب لتصحيح الوضع في الجيش ، وقد استهان بها المشير أولاً ، فطلبوا رفعها إلى الرئيس عبد الناصر ، لكنه تجاهلها ، فاضطر الجيش للتحرك ، ونشر النحلاوي رتل مدرعات في دمشق ، ونشر حيدر الكزبري حرس الحدود وتمت السيطرة على الإذاعة ( ألخ ) وحدثت وقائع خطيرة ، وحين صدر البيان الأول استجاب المشير ووعد بتلبية المطالب ، فتوقف الضباط عن حركتهم ، وأصدروا البيان الشهير رقم ( 9) وجاء فيه :
( إن القيادة العربية الثورية للقوات المسلحة التي دفعها الشعور بالخوف على وحدة الصف العربي وحماسها للقومية العربية وتأييدها لها، ودفاعا عن مقوماتها تعلن للشعب العربي الكريم انها لا تنوي المس بما أحرزته القومية العربية من انتصارات، وتعلن انها رأت عناصر انتهازية مخربة تريد الاساءة الى قوميتنا، فقامت بحركتها المباركة، وأنها عرضت قضايا الجيش وأهدافه على المشير عبد الحكيم عامر نائب رئيس الجمهورية وقائد القوات المسلحة العام، الذي تفهم امور الجيش على حقيقتها، واتخذ الاجراءات المناسبة لحلها لمصلحة وحدة القوات المسلحة والجمهورية العربية المتحدة. وقد عادت الأمور العسكرية الى مجراها الطبيعي ) . ولكن سرعان ما تم التراجع عن هذا البيان عبر إذاعة البيان رقم (10) الذي يقول ( إن المشير الذي وعد الانقلابيين بالقضاء على الانتهازيين والمخربين مما دعاهم لاذاعة البلاغ التاسع قد نكث بوعده، ولذلك فإن القيادة الثورية حرصا منها على انتصارات الشعب العربي والقومية العربية تعلن للشعب اعتبار البلاغ التاسع لاغيا) .

لقد كنت في مقتبل ريع الشباب وتابعت هذه البيانات عبر الإذاعة في حالة ريبة وقلق عاشها السوريون جميعاً وهم متمسكون بالوحدة وعاشقون لجمال عبد الناصر ، لكنني بعد سنوات بت أفهم ما لم يكن معلوماً لدى العامة من خفايا تلك المرحلة ، وقد تابعت كثيراً مما كتب لاحقاً فضلاً عن حرصي على الجلوس مع الرجل الفاضل عبد الكريم النحلاوي لأسمع منه مباشرة تفاصيل عن تلك الأحداث .
ولقد قرأت ما كتب صلاح نصر عن (تجربة الوحدة ) متحدثاً عن يوم الانفصال وقد قال ( إن المشير الذي وعد الانقلابيين بالقضاء على الانتهازيين والمخربين مما دعاهم لاذاعة البلاغ التاسع قد نكث بوعده) .وقال : ( حينما قابل النحلاوي المشير عامر أكد له أن حركته لا تستهدف أغراضا انفصالية وأن هدفها إجراء بعض الاصلاحات منها تخفيف عدد الضباط المصريين في الجيش السوري، وخاصة برئاسته (أي في مكتب المشير) وإجراء بعض التنقلات التي عرضها النحلاوي على المشير).

لكن عبد الناصر أصدر بياناً يوم الجمعة 29/9 / 61 قال فيه ( قالوا إن مطالبهم تختص بالجيش، لكنهم غيروا بياناتهم السياسية وقالوا (للمشير) انهم حاولوا أن يحلوا بعض مطالب الجيش، ولكن كان واضحا ان العملية هي عملية تمويه وكسب وقت، قلت أمس انه لا يمكنني في أي حال أن أقبل حلاً وسطا لأنني كنت أشعر أن محاولة الوصول الى حل وسط وإلى تسوية إنما هي مرحلة تكتيكية في الطريق الذي سار فيه التمرد) .

لم يتفهم عبد الناصر مطالب الضباط السوريين وهي مطالب عادلة ، فأمر بالقاء القبض عليهم وجردهم من رتبهم العسكرية ، و قد ذكر عبد اللطيف البغدادي في مذكراته ( أن عبد الكريم النحلاوي أرسل إليه رسولا وأبدى رغبته في الحضور الى القاهرة ليتحدث مع جمال في الصلح، ولكن جمال لم يوافق على تلك الرغبة منه، رغم ضغط المشير عبد الحكيم عامر عليه ، لقد كان جمال عبد الناصر منذ صبيحة اليوم الأول لحركة النحلاوي مصمماً على أن يقطع الطريق على أي تفاهم مع الحركة، فأصدر بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة أمرا بعزل المتمردين وتجريدهم من رتبهم واعفاء ضباطهم وجنودهم من كل ولاء لهم. وهذا يعني دعوة الجيش للتمرد عليهم وإهدار دمهم).

ومن المعروف أن عبد الناصر قرر إرسال قوات مصرية للقضاء على حركة الضباط الذين طالبوه بالإصلاح واعتبرهم متمردين ، وكان من المفارقات أن جلال هريدي قائد قوة المظليين المصريين التي هبطت في منطقة اللاذقية قد استسلم فورا للقوات السورية ، وبالطبع كان عبد الناصر يدرك أن من المحال أن يطيعه الجيش المصري في قتال الجيش السوري .

المهم أن النحلاوي الذي سلم السلطة سريعاً للسياسيين ( وأبرزهم ناظم القدسي ومعروف الدواليبي ومأمون الكزبري وآخرين ) لم يكن باحثاً عن حكم أو سلطة ، بل أراد أن يصحح مسار الوحدة للحفاظ على نجاح التجربة ، وقد طلب من السياسيين أن يعودوا لإقامة الوحدة بشروط أفضل ، وسافرت الوفود إلى عبد الناصر ، لكنه رفض إعادة الوحدة ، وقال ( الوحدة التي ذهبت بانقلاب لاتعود بانقلاب ) .

وقد قاد النحلاوي في 28/3/ 62 انقلاباً على الحكومة التي جاء بها ، واعتقل الرئيس ناظم القدسي وعزل حكومة الدواليبي وحل البرلمان ، وبقي مصراً على استعادة الوحدة وربما كان يعاني لحظة ندم بعد أن جاءت الريح بما لاتشتهي السفن ، لكن المهم أن الرجل الذي كان بوسعه أن يحكم سورية قبل بأن يخرج منها كيلا تسيل نقطة دم من سوري أو مصري .
وبوسعي أن أتساءل ، من المسؤول عما حدث ؟ أهم الضباط السوريون الذين لم يصبروا أكثر على الأخطاء التي كانوا يرونها ولا يسمع أحد لمطالبهم ؟ أم المشير عامر الذي استهان بمطالب الضباط السوريين ؟ أم عبد الناصر الذي عزّ عليه أن يتمرد ضباط على حكمه ، وأن يصيخ السمع لمطالبهم ؟

المهم أن فشل التجربة الوحدوية بين سورية ومصر ، حرم العرب من حلم الوحدة العربية إلى اليوم رغم تكرار محاولات استعراضية فاشلة ، مع أن الفرصة ما تزال سانحة للإفادة من أخطاء التجربة ، والابتعاد عن الوحدة الاندماجية ، والاكتفاء باتحادات مثل جمعية الاتحاد الأوربي ، أوفيدرالية الاتحاد الروسي ، أو تمكين الجامعة العربية من أن تكون صاحبة قرار سيادي ، وفي الحد الأدنى العودة إلى تضامن عربي جاد .

تعليق 1
  1. محمد سيسونو يقول

    العسكريين أدوات عنف وبالتالي لا يمكنهم صنع السلام الأعظمي، هذا يوضح الفشل الذي كان ينتج من تفعيلهم لصنع السلام الضروري لوجود سعيد للشعوب. الجيوش العربية تتشكل من زعران الشوارع فكيف سلمناهم رقابنا؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.