التيار الثالث

[بقلم أ. حسن النيفي]

فيما تسعى روسيا  وبعض الدول العربية إلى إعادة تعويم نظام الأسد من خلال إيجاد خروقات للعقوبات الاقتصادية المفروضة عليه دولياً وأمريكياً، وكذلك من خلال إشراكه في المشاريع الإقليمية بغيةَ إنعاشه إقتصادياً وسياسياً، وذلك تزامناً مع حالة من الجمود التي تهيمن على مسارات التفاوض، وحيال هذه الحال ترتفع أصوات عديدة مُدَّعيةً أنها تنطلق من فضاء مغايرٍ للنظام والمعارضة معاً، تسمّي نفسها ب ( التيار الثالث)، وإذ ينفي دعاة هذا التيار أيّة صلة لهم بنظام الأسد أو كياناته الرسمية أو غير الرسمية، فإنهم في الوقت ذاته يتبرؤون من أية علاقة تربطهم بأي طرف من أطراف المعارضة بشتى أشكالها، سواءٌ العسكرية منها أو السياسية. ولعل نزعة التبرؤ التام من كافة أطراف الصراع في سورية تبدو ضرورية لأصحاب هذا التيار، باعتبارها مبدأً تأسيسياً لمشروعهم نحو التغيير، طالما أنهم يرفضون العودة إلى الوراء – كما يؤكدون دوماً – والبحث في أصل المشكلة السورية، بل يؤثرون الانطلاق من الراهن فحسب، فسورية – كما يراها التيار الثالث – بلدٌ تتصارع فيه عدة أطراف محلية، تتحارب وكالةً عن جهات إقليمية ودولية، وقد فشلت هذه الأطراف جميعها في الوصول إلى حلّ يلبي تطلعات المواطنين السوريين، بل أسهمت جميعها في تعميق وتعزيز المأساة السورية، وبناءً عليه، فإن جميع سلطات الأمر الواقع التي تجسّد التمثيل الفعلي لأطراف الصراع، تتساوى في تحمّل مسؤولية ما حدث ويحدث، وإن كان ثمة تفاوت بين هذه السلطات من حيث مقدار الأذى الذي تمارسه بحق المواطن، إلّا أنه يبقى تفاوتاً كمّياً فحسب، ولا ينفي التجانس المنهجي ذاته الذي يُعدّ الناظمَ الأساسي لتفكير تلك السلطات وسلوكها معاً.

لعله من الواضح أن أهمّ دواعي ظهور تيار كهذا – وفقاً للناطقين به – هو حالة انسداد الأفق والاستعصاء السياسي الحاصل بين أطراف الصراع جميعها، ولا يوجد – وفقاً لهؤلاء أيضاً – طرف بعينه هو الذي يعرقل أو يرفض الحلول المنبثقة عن الجهات الأممية، وربما أتاحت هذه الرؤية لأصحابها أن يتوجهوا بتقييمٍ نقدي متساوٍ للأطراف جميعها، فلئن كان نظام الأسد ( هم يعترضون على مصطلح – نظام الأسد – ويستخدمون بدلاً منه – السلطة أو الحكومة المركزية) إستبدادياً شمولياً لا يقيم أي اعتبار لإرادة وكرامة محكوميه، فإن بقية السلطات المجاورة ليست بأفضل منه من هذه الناحية، ولئن كان نظام الأسد – أيضاً – قتل وشرّد وسجن وبطش بالمواطنين، فهذا السلوك له ما يماثله لدى سلطات الأمر الواقع الأخرى، وهكذا تمضي المقارنات الأفقية بين السلطات، كسبيل لطمس معالم المشكلة الجذرية لدى السوريين، ولتحاول إقناعهم بأن الحرب التي حلّت فوق رؤوسهم إنما سببها ومبعثها الأساس هو مجمل التناقضات المجتمعية – عرقية أو إثنية أو مناطقية –  التي وصلت إلى حدّ الانفجار، ولعل السبيل الأمثل إلى إخماد ما خلّفه هذا الانفجار، ولملمة ما تركه من حطام كبير، هو الشروع في حوار عام بين كافة الشرائح السورية لاستعادة الثقة التي ساهمت الحرب في تغييبها أولاً، ومن ثم البحث في إمكانية إيجاد رؤى مشتركة لمستقبل سوري يحظى برضا الجميع، ولعله من الطبيعي – وفقاً لدعاة هذا المسعى – أن تكون حكومة دمشق هي القطب الذي ينبغي على الجميع التوجه إليه، باعتباره الحاكم الشرعي للبلاد، ولا بدّ كذلك، من الركون إلى طرف دولي كراعٍ وضامن لهذا الحراك، وتبدو روسيا هي الطرف الأكثر قبولاً لدى هذه الجماعات، نظراً للدور الذي لعبه بوتين وطائراته في الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ومحاربة الإرهاب.

باختصار شديد، هذا هو مشروع ( التيار الثالث) الذي يجسّد مسعىً وطنياً مشتركاً للردّ على التدخل الخارجي، وكذلك للردّ على مشاريع المعارضة التي انتهت بارتهان كامل للإرادات الدولية والأجندات الخارجية.

واقع الحال يؤكّد أن المسعى الذي يجسّده ما يُدعي بالتيار الثالث، هو الثمرة السياسية للحرب التي شنتها روسيا على السوريين منذ أواخر إيلول 2015 ، إذ  أخفق الرئيس الروسي بوتين حتى الآن، في استثمار حربه في سورية وتحويل منجزه العسكري إلى نصر سياسي يُمكّنه من انتزاع مكاسب من خصومه ومنافسيه الدوليين، إذ إن دعوته إلى إعادة الإعمار التي ستكون غلّة حربه الاقتصادية، لم تلق تجاوباً أو موافقة دولية من الأطراف الدولية، وكذلك دعوته إلى إعادة اللاجئين لم يتوفر لها الشرط المحايث المتمثل بالحل السياسي، إلّا أن هذه العوائق للرغبة الروسية ليست ثابتة ولا يمكن خلخلتها، ذلك أن الروس ما تزال أمامهم فرصٌ للتحرك، بل مساحات يمكن استثمارها، ولعل أبرز تلك الفرص هي العودة من جديد إلى استثمار من لم يُستثمر سابقاً من السوريين، وتحديداً ممن لم يُسمع لهم صوتٌ سابقاً، أو ممن أطلوا برؤوسهم في الأشهر الأولى للثورة ثم انكفؤوا، بحجة أن الثورة قد صودرت، والآن تحركت حميتهم وغيرتهم على واقع سورية المؤلم، بالتأكيد لم يكن مصدر الألم في نفوس هؤلاء هو عدد القتلى والمسجونين والمفقودين والمهجرين والنازحين من الشعب السوري، ولا كمّ الإجرام الذي ألحقته براميل الأسد و غازاته السامة بالمدنيين السوريين، وبالمجمل لم يكن نزيف أرواح السوريين مبعث قلق لهؤلاء، بقدر ما كان يقلقهم ويشغلهم وحدة الأرض السورية وسيادتها والدور المنشود لسورية على مستوى العربي والإقليمي، وضرورة تنظيف الأرض السورية من القوى والجماعات الإرهابية، وهي المسائل والشعارات ذاتها التي طالما جعلت منها روسيا ذرائع لدعمها المطلق لنظام الأسد.

لم يشأ أنصار التيار الثالث أن يقولوا بملء الفم: لقد انتصر الأسد بفعل الدعم المطلق من روسيا وإيران، وها هو اليوم ينتقم من جميع السوريين الذين ناهضوا استبداده وبطشه، وكذلك لم يشأ هؤلاء القول: إن فشل قوى المعارضة وإصرارها على التمسّك بعوامل فشلها قد سهّل لنظام الأسد تعزيز سطوته وجبروته، بل جلّ ما يرمي إليه هؤلاء – كهدف مرحلي أول – ليس تسفيه سلوك المعارضات السورية والتشهير بخيبتها وخذلانها للسوريين، بل استئصال فكرة (الثورة) من خلال التعامي الكامل عن جوهر القضية السورية، وأسبابها الجذرية والعميقة المتمثلة بوجود نظام متوحّش موغل بالإجرام تحالف مع أنظمة لا تقل عنه توحّشاً وإجراماً، في مواجهة شعبٍ انتفض مطالباً بحريته وحقوقه المغتصبة منذ عقود.

التأسيس على مبدأ أن جميع القوى الموجودة على الأرض السورية هي متساوية في إساءتها للقضية السورية، وبالتالي هي تتساوى في المسؤولية حيال السوريين سياسياً وأخلاقياً، إنما هو سقطة أخلاقية كبرى تهدف إلى تبرئة رأس الإجرام، بل مصدره الأساسي، أمّا القول بأن مبعث الكارثة السورية هو نظام الأسد، وما تلاه من كوارث – مع الإقرار بوجودها – إلّا أنها ليست سوى تداعيات للكارثة الأم، فلا يبدو هذا الكلام لدى أنصار التيار الثالث سوى تعبير عن نزعة شعبوية، أو تفكير رغبوي في أحسن الأحوال، وذلك على ضوء المعطيات وموازين القوى الراهنة، ولكن ما غاب عن هؤلاء أو غيّبوه، أن الحالة الراهنة بكل موبقاتها ومواجعها، لم تكن نتاجاً لنزعة شعبوية أو تفكير رغبوي، بل نتاج التوحّش الأسدي الذي يسعى التيار الثالث لإعادة إنتاجه من جديد. حسن النيفي

تعليق 1
  1. محمد سيسونو يقول

    السياسة تقف دائماً أمام استعصاء فهدفها دائماً هو تضليل الشعوب ولذلك ترفض وتقاوم من الشعوب لذلك السياسة هي مؤامرة دائمة على الشعوب.
    يجب علينا الخروج من السياسة والبدء بالقوانين الكونية التي تعرف حقوق الإنسان الأساسية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.