هل أصبحَ الواقع عقيمًا؟

[بقلم د. سماح هدايا]

عندما يعمل المجتمعُ  وفق منهجٍ عاقل ويتعاونُ افرادُه وجماعاتُه لمصالح مشتركةٍ في معيشتهم وحياتهم، وخدمةِ  موطنهم الذي يعيشون فيه وينتمون إليه بالمواطنة، يندمج الفرد بالمجتمع بالأرض في علاقةٍ واحدة مصيريّة، فيها اكتساب حقوق، وفيها والقيام بمسؤوليّات متبادلة.  المنتمون إلى سوريا بوجدانٍ وطنيّ واعٍ، يدركون أنّ مستقبلَهم ومصيرَهم مرتبطان بخير ما يفعلون لوطنهم،  وبالدفاع عن حقوقهم فيه. لكن هل يكون ذلك  من دون احتذاء تصوّر واضح لبلدهم والسير على منهج واحد في إطارِ القرار الوطنيّ الجامع؟

 التّنوّع الكبير الذي تتمتّع به سوريا هو غنىً هائلٌ يثري ويفيد، ولا يثمر إلا بمفهوم جامعٍ موحّدٍ للوطنيّة بعيدا عن التّصوّرات والأفعال  الانتهازيّة والتّسلطيّة والغوغائيّة وخارج الفتن  والحروب العصبيّة التي تثيرها قوى دوليّة ويعمل عليها نظام الأسد.

بقاءُ سلطة نظام الأسد الطّاغية، أساس المحنة السوريّة وقد شكّل عقدةً كبيرة أمام الثّورة السّورية وأثّر عميقاً في علاقة السّوريين ببعضهم، إذ فكّك العلاقات ونشر البغضاء والعداوة، تبعاً للموقف السّياسيّ والتوجّه الشّخصي والعام من الثّورة السوريّة ومن مسعى إسقاط نظام الأسد.  فانشطر المجتمع قطعاً  متناقضة سياسيّاً وأخلاقيّاً، بين من يدعم مطالب الثورة، ويدافع عن حقوق المضّطهدين والمظلومين والمستلبين، ومن يدعمُ نظام الأسد ويدعم معه الباطل ويسكت عن الفساد والتّخريب وقتل الإنسان ونهب التّاريخ والآثار. بين من يستثمرُ الألمَ السّوري ويتاجرُ بالحرب ويتحوّل لرجل عصابات وقاطع طريق وأمير حرب سواء في جهة النظام أو في جهة المعارضة، ومن يتعاطفُ ويقف في صفّ المنكوبين ويضحّي لأجل بلده وإنسانِ بلده. بين من يضطّر للنزوح والهجرة هرباً من القتل، ومن يضطرُ أنْ يبقى ويعيش معاناة يوميّة فظيعة أمنياً واقتصاديّاً واجتماعيّاً، بينما يستمر تسلّط النظام الطاغية الفاسد جاثماً على الصّدور طاحناً الجميع.

سيطرة  نظامِ الأسد المتشعّبة في المجتمع، وتسلّطه المتعمّق، تحولا  لسلسلةِ عقدٍ ثقيلةٍ وحادّةٍ أحكمتْ على المشهد السّوريّ وعقّدت مسارات الخلاص،  بالتّوازي مع التّدّخلات الدّوليّة الهدّامة، وخنقا مباردات الحلول التي يمكن أن تقودَ لحلٍّ عادلٍ ولسلامٍ وأمنٍ يردّ للمضّطهدين حقوقَهم ويحفظ حقوق الجميع ويصون حريّاتهم بالعدل والتّساوي. وبالمقابل لم تتمكّن  قوى الثّورة والمعارضة من كسرِ سلسلةِ هذه  العقد الكبيرة، والضغوط الدوليّة. وكان لاختراق مطالب الثّورة بمطالب انفصاليّة وفئويّة، كمطلب الاستقلال الذاتي للمكوّنات والمطالبة باللامركزيّة السياسيّة التي تضرب وحدة القرار الوطنيّ من الأمور التي أثيرت في وجهها لإضعافها.  

التفكير المشوّه والمشوش الذي انتشر في  صفوف الشّعب السّوري وانعكس في المبادىء الإنسانيّة والأخلاقيّة، حتى صار كلّ امرىءٍ كما قال الأديب محمود شاكر قديما“عدو نفسه وعقله، عدو تاريخه وماضيه، عدو مستقبله من حيث يدري ولا يدري.”، يجعل أيّ إنسانٍ عاقل ذي ضمير يصطدم باصطفاف جمهور من السّوريين والعرب مع النظام الذي يقتل شعبه ويهدّم البلاد  ويسوّغون ذلك أنه يدافع عن سوريا والعرب من الإرهاب. هؤلاء المغيبون عن الحق الذين يفتقرون  للعقل والنّظر السّليم، والذين تجردّوا من مشاعر الرحمة والشّفقة بعدم تعاطفهم مع الضّحايا والمنكوبين والأطفال والمعتقلين، لم يحرّكهم فعلا الضّمير الوطنيّ، بل جهلهم ونفاقهم وخوفهم، ومصالح خاصّة مصيرها الزّوال، وعليهم أن يستردوا الوعي، فقد أيّدوا الطّاغية، والطاغية لا يعنيه شعبه ومن تبعه، بل يعنيه الكرسي وغنائم الخدمات التي يحصل عليها من القوى الكبرى. الشّعب السّوري كلّه ضحيّة له، وهو إمّا قتله، أو هجّره، أو اعتقله أو أخفاه، أو أفقره أو أخرسه أو حولّه لعصابات وفصائل حرب  بسياساته الاستبداديّة والفاسدة.

استخدام الشّقاء والفقر والجوع لتدمير ما بقي في سوريا وشعبها  حتى يستمرّ  التّدهور إلى ما لانهاية ويخسر الجميع وتتقطّع سوريا بالمعاناة الإنسانيّة. الثّورة لم تخرجْ ضد الفقر وبسبب الجوع، خرجت ضدّ الاضطهاد والإذلال والقهر، وقوتها في أساس  مطالبها التّحرّريّة والحقوقيّة. الدّاخل السّوري المثقل بالحرب والمعاناة والخوف ثم البؤس المعيشيّ والفقر،  لم يستطعْ تغيير  الأوضاع القائمة ولا التّصدّي لسلطة النظام والميليشيّات العنيفة، وصار يعنيه مثل كثيرين في الخارج الخلاص بأي شكل؛ فالحرب كما جلبتْ الدّمار، جلبتْ القتل الذاتي اليومي وفوضى اليقين والأمن بالاغتيالات والعصابات والفساد .

القوى المنضوية تحت الثّورة والمعارضة أو في صفوف الشّعب  لم تتوحّد على قلبٍ واحد وقيمٍ وطنيّةٍ ومفاهيم سياسيّةٍ مشتركةٍ على الرغم من الألم المشترك الذي يصيبها والمصير الواحد الذي يجمعها، ولم تصلْ لنقاطِ اتّفاقٍ على حلولٍ أوليّة ولم تبنِ مؤسسات تعملُ بجدّيّة وواقعيّة لخدمة الصّالح العام للجميع؛ مما أعطى  المجال للنّظام لكي يستمرَ في بطشه وتسلّط جماعاته، ومنح قوى  جديدة شرعيّة التّسلّط والاحتلال. أسهم الجميع في خروج  الحلول من أيدي السوريين، فظلّت محصورة بالقوى الدوليّة وخاضعة لإملاءاتها.

ما الحل؟

لا خطوة لأيّ حلٍّ  من دون فهم  الجوهر الحقيقيّ لانتفاضة الإنسان السّوري المقموع،  وللثّورة السّورية، وقراءتها من ذاتها وظرفها، لا كما يفعل كثيرون برؤيتها في ظلِّ الثّورات الأخرى ومن مطلبٍ أيديولوجيّ محدّد. المطلب السّياسيّ  للثّورة السّورية أساسيّ، لكنّه ليس مفصولاً عن المطلب الإنساني والحقوقيّ، وعن مطالب ثقافيّة وعدالة اجتماعيّة واقتصاديّة.  الشعارات التي حملتها الناس مرتبطة بالكرامة والعزة والتّحرّر. لا ينجح حلٌّ  خارج هذه الرّؤية ومن دون ردّ القيمة للإنسان السّوري والتّخلص من الأجهزة القمعيّة ومن منظومات الاضّطهاد ومن سلطة الدّولة المستبدّة  ومؤسسة الفساد والتّعسّف. أي التّحرّر من الأوضاع السّياسيّة المخلّة  بالكرامة الإنسانيّة والسّيادة الوطنيّة للبلد ولشعبه.

  • أيّ مقترحٍ بديلٍ لنظام  بشار يبقى هشاً إنْ لم يقترنْ بتغييرات شاملة عميقة  وواسعة تهيّىءلعدالة في حقوق الإنسان ولإطلاق حريات التّعبير والمشاركة المتساوية في الشأن العام، وتمنع أن  يكون الحكم لمصلحة أقليّة أو جماعة أو فئة.
  • أيّ حلٍ يسعى لإرضاء كلّ القوى الدّوليّة ذات الشأن في سوريا، كما يقال،  محض هراءٍ ونفاق ساذج؛ لأنّ مصالح هذه القوى الدّوليّة متناقضة، ولا يمكن إرضاء الجميع. فمن المحال تقسيم البلاد والناس  وتوزيعها  جزءاً جزءاً بين الدول والقوى المهيمنة. إرضاء الضمير الوطني هو الأساس، وعليه تُبنى العلاقات.
  • الحل الذي تجلبه التّركيبات السّياسيّة القائمة وبعقول قادتها، لا يمكن الاعتماد عليه؛ فهو وليدُ عقليّةٍ  تنهل من المعين نفسه؛ من التّسلّط وحمى الاستئثار. موضوع التسلط والقهر أكبر من مجرد شخص الطاغية بشار؛ فهو منظومة ورؤية. وقد استقطب الإعلام التافهين والمنافقين الذين يشبهون  نظام الأسد، وهدفهم من العمل الوطني الوصول للسلطة أو تقاسمها مع النظام الحاكم. وبعضهم  لا يخجل من أنْ يشرعنَ عمله ويحصّن مكانته بالحقّ الثوريّ.  وليسوا بأصحاب حلول وطنيّة ناجحة.
  • صحيح أنّ  صياغة الدّستور بتوافق شعبي هو أساس بناء الدّولة السّياسي والحقوقّي، لكنّه يفشل عندما يكون إملاءً  من فوق أو من الخارج،  أو سرقة من الشّعب باسم التّمثيل والتّفويض واقتصاره على  نخبة من عاملين في السّياسة وفي العلاقات ومدعومين  بمصالح الآخرين. أيّ دستورٍ  يلزمه لكي يلبي مصالح الشعب ألا  يكون في ظل حكومة استبداديّة ولا برعاية دول استعماريّة ومؤسسات أثبتت انهيارها الإنساني والقيمي. ولا ينجح من دون وجود مؤسسات وتيارات فكريّة واجتماعية وسياسية وحقوقيّة بأساسٍ وطنيّ. لذلك لا بد من العمل الجماعي في إطار  وحدة الموطن السوري وأدوات منهجيّة،   لبناء دولةٍ عادلةٍ ودولةِ قانون والاتّفاق على  دستورٍ جديد.  تعزيز  دور العقل  سياسيّاً  واجتماعيّاً لينال مكانته العالية ردّاً  على الدّكتاتورية التي وقفتْ في وجهه وسلّحتْ ضدّه الغوغائيّة والعصبيّات… وصولاً  إلى غاية أساسيّة واحدة وهي التّحرّر والاستقلال وبناء مؤسّسات الحريّة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.