مخاطر التغيير الديمغرافي في سورية (2)

[بقلم الدكتور عبدالله تركماني]

2 – تسهيلات تمليك الإيرانيين وميليشياتهم الشيعية.

تغوّل النفوذ الإيراني، وقدّم الأسد التسهيلات الضرورية كلها، بما فيها التسهيلات التشريعية والتغطية القانونية. فقد أصدر القانون رقم 25 لعام 2013، الذي سمح بتبليغ المدعى عليه بالدعوى غيابيًّا في الصحف في المناطق الساخنة. كما صدر المرسوم التشريعي رقم 19 لعام 2015 القاضي بجواز إحداث شركات سورية قابضة مساهمة مغفلة خاصة، بهدف إدارة أملاك الوحدات الإدارية أو جزء منها واستثمارها. سمح هذا المرسوم ببيع الأراضي السورية وشرائها على قاعدة الربحية والتشاركية، وهو أمر متاح للإيرانيين، لأنهم يملكون المال، ولو بالتشارك مع قلة من كبار رجال الأعمال السوريين المتشاركين بدورهم مع متنفذين سلطويين. يضاف إلى ذلك فتح قناة جديدة يُمكن استخدامها لتسهيل بيع عقارات السوريين للإيرانيين. تمثلت هذه القناة بوضع الإشارات على أملاك المقترضين المتعثرين بوصفه حلًا قانونيًّا، لكنهم لن يكونوا قادرين على السداد حتى لو حُجزت ممتلكاتهم، وبيعت عقاراتهم في المزاد العلني، وهنا سيكون الإيرانيون زبائن متوقعين لهذه العقارات.

لقد تمتعت السفارة الإيرانية بتسهيلات وتغطية كاملتين من كبار مسؤولي الاستخبارات في نظام الأسد، مكّنتها من إنجاز عمليات بيع العقارات السورية للإيرانيين، بخاصة في مدينة دمشق القديمة، وفي المنطقة الممتدة من خلف الجامع الأموي وحتى منطقة باب توما. ووصل الأمر إلى غوطة دمشق الشرقية، وبخاصة منطقة المليحة، علمًا بأنّ أراضي تلك المنطقة هي من الأراضي (الأميرية)، ملك للدولة، ما يسهل تمليكها للإيرانيين بالتحايل على القانون. إضافة إلى مناقصات حكومية سورية، مفتوحة للإيرانيين فحسب، فضلًا عن الأحياء السكنية المُدمَّرة التي اشتراها إيرانيون لإعادة إعمارها ثم استوطنوها، وأحياء أخرى جرى ابتزاز سُكّانها – وإن كانوا مُؤيدين للنظام السوري – وإجبارهم على التخلِّي عن مساكنهم.

ولتسهيل تمليك الإيرانيين قام النظام باستصدار قانون يسمح فيه بمصادرة أملاك من يعتبرهم مساندين لـ ” الإرهاب “، أي المعارضين الذي فرُّوا من البلاد بسبب بطش القوى الأمنية، حيث تم استملاك هذه العقارات ووزِّعت على الضباط من قيادات ” حزب الله ” وإيران، والذين أصبحوا يمتلكون بطاقات هوية سورية، بالإضافة إلى بطاقاتهم اللبنانية أو العراقية أو الإيرانية. وهذه العقارات ليست فقط في دمشق بل في حمص والنبك وحوران والعديد من البلدات والمدن السورية.

لقد جنّدت إيران شبكة ضخمة من المؤسسات وتجار العقارات والسماسرة، وأصحاب المكاتب العقارية في سورية، وضخّت لهم ملايين الدولارات لشراء عقارات وأملاك السوريين لمصلحتها. ويعمل عدد من البنوك والمؤسسات المالية المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني بخاصة، مثل بنك ” أنصار ” الإيراني، ومؤسسة ” مهر ” المالية، على تقديم مزيد من التسهيلات، ومنح القروض الكبيرة لمن يرغبون في شراء العقارات في سورية. وتنتشر المراكز الشيعية في أماكن عدة من سورية، بعضها بمسمى وكالات غوث، أو جمعيات خيرية، أو مكاتب تجارية أو تثقيفية. وهذه المراكز الشيعية تشرف على شراء الأراضي والعقارات لمصلحة مستثمرين شيعة من لبنان والعراق وإيران، بإغراء أصحابها الأصليين بأسعار خيالية.

وإن يكن الجهد الرئيس للتغلغل الإيراني ينصبّ بالدرجة الأولى في دمشق، العاصمة وريفها، نظرًا إلى أهميتها الرمزية والسياسية والجغرافية والاقتصادية فهي ليست وحيدة في الاستهداف. ففي حلب أطلقت طهران يدَ رجال أعمال النظام لشراء عقارات في مناطق حلب الراقية. وفي حمص استُعيد مشروع (حلم حمص) الذي طُرح عام 2007. وسينفذ من خلال ما يدّعي النظام أنه (إعادة إعمار)، إضافة إلى الاستحواذ على الأحياء المُدمّرة والمُهجّر سكانها مثل بابا عمر وباب السباع والخالدية وحي السبيل وغيرها، وتسعى إيران للحصول على حصة كبيرة من هذه المشروعات.

وتشهد مدينة طرطوس تحركات تتمثل بمحاولة إحداث تغيير ديموغرافي في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، من خلال السعي لنقل ملكية العقارات للشيعة بمساعدة ومباركة كاملتين من وزير أوقاف النظام محمد عبد الستار السيد. ونقلًا عن متابعين في القصر العدلي في طرطوس فإن ” الحوزات الشيعية تشرف على شراء الأراضي والعقارات لمصلحة مستثمرين شيعة من لبنان والعراق وإيران، مغرية أصحابها بأسعار خيالية “. وسُجّلت بعض حالات الشراء الإجبارية لبعض العقارات والأراضي تحت التهديد متعدد الأوجه. إضافة إلى أنّ أراضي الوقف التي يبيعها وزير أوقاف النظام أغلبها مخفية، بمعنى أنها مجهولة في المصالح العقارية. وهناك انتشار ملحوظ لظاهرة المراكز الشيعية في طرطوس بغطاء: وكالات غوث، وجمعيات خيرية، ووكالات عقارية، ومكاتب تجارية، ومعارض سيارات، وندوات تثقيفية.

3 – مسألة إعادة الإعمار: تغيير ديمغرافي أيضًا

أُدرِجَت كذلك مسألة إعادة الإعمار ضمن إطار سياسة التغيير الديمغرافي الممنهج. في أيلول/سبتمبر 2012 وقّع بشار الأسد المرسوم التشريعي رقم 66 القاضي بـ” تنظيم وتحديث مناطق السكن العشوائي وغير المصرَّح به ” لتوفير الأسس القانونية والمالية لمشروع إعادة الإعمار. على أساس هذا المرسوم، أعلن النظام قراره بتدمير ومصادرة منطقتين كبيرتين في العاصمة دمشق، معروفتين بمناصرتهما للمعارضة، الأولى خلف مستشفى الرازي على الطريق الرئيسي لأوتوستراد المزة، والثانية على الضفة الجنوبية من العاصمة السورية بجانب حي القدم. بينما مناطق سكن عشوائي أخرى يسكنها مؤيدون للنظام، كـ ” مزة 86 ” و” عيش الوروَر “، في شمال شرق العاصمة، لم يشملها المخطط، مما لا يدع مجالًا للشك بالبُعد الديمغرافي لهذا القرار.
نتائج سياسة التغيير الديمغرافي

دمشق تتحول من مدينة عربية إلى ضاحية من ضواحي طهران، بما يعنيه ذلك من تفكيك لنسيجها الأصلي، وتركيب وجه جديد ذي ملامح فارسية. فبوتائر متسارعة، تقذف دمشق كل يوم أبناءها الأصليين إلى الخارج، وقد هيأ نظام الأسد كل الظروف التي تحوّلها إلى مكان طارد لأبنائه، وصنع آلية تنفيذية تعمل باقتدار على إنجاز مهمة التغيير المنشود، مدينة مخنوقة بحواجز العسكر والمخابرات والشبيحة.

من جهة أخرى، يجري التركيز على المقامات والرموز الدينية الشيعية، وتحويلها إلى رمز لدمشق، بما يعني تغيير صورة دمشق وثقافتها، فضلًا عن ممارسة الطقوس الشيعية في الأحياء الدمشقية وانتشار الأغاني والأشعار التي تدعو إلى الثأر لآل البيت، وبعضها يدعو، صراحة، إلى قتل السنّة، ويجري بثّها عبر مكبرات الصوت التي تجوب الأحياء الدمشقية.

يتزامن مع ذلك تفريغ النظام غلاف دمشق من سكانه السوريين، كما حصل في جنوب المدينة وريفها الغربي، وإحلال أهالي المقاتلين القادمين من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان مكانهم، ومنع سكانها السوريين والفلسطينيين من العودة إليها.

يشكّل هذا الأمر أخطر ما في المشروع الإيراني، ففي حين يتم التركيز على البعد السياسي في هذا المشروع، وهو دعم إيران لنظام الأسد بوصفه حليفًا وجزءًا من مشروع سياسي إقليمي، غير أنّ الأفعال على الأرض بعيدة كل البعد عن السياسة، بل يجري توظيف السياسة نفسها لخدمة مشروع اقتلاعي إحلالي، هدفه تحويل دمشق ومساحة كبيرة من سورية إلى بقعة فارسية، تسكنها أكثرية تتبع إيران. ويأخذ هذا المشروع طابع الصبر الاستراتيجي، إذ على أساسه تسعى طهران إلى إطالة الأزمة السورية أطول زمن ممكن.
أما استراتيجيًا، فما يسعى إليه النظام وبتدبير إيراني فهو ” استكمال مخطط التهجير السنّي، الذي بدأ بأحياء دمشق الجنوبية ومن ثم داريا والمعضمية وبرزة والقابون والقلمون الغربي والزبداني ومضايا وقرى وادي بردى، ليأتي الدور على بلدات ومدن الضمير، الرحيبة، جيرود، الناصرية وهي كبرى حواضر القلمون الشرقي، وبإنهائها يكون الحصار أطبق بشكل كامل على الغوطة الشرقية المرتبطة بالقلمون الشرقي، والذي يعد المنفذ الوحيد لها وتحديداً منطقة الضمير “.

لكن، لماذا دمشق؟ لأنها جوهرة المشروع الأيديولوجي الإيراني، لما لها من رمزية تاريخية مميّزة، لوجود كثير من مراقد آل البيت فيها، ولكونها عاصمة الأمويين، ولها أهمية خاصة في السردية العقائدية، ومن دونها لا معنى للتضحيات، ولا يمكن أن تضمن إيران ولاء محسوبين كثيرين عليها، وانخراطهم في القتال.

وتحاول ميليشيات ” الحشد العراقي “، التي يتوزع أفرادها على أكثر من 60 فصيلًا مسلحًا، يقاتل معظمهم على الأراضي السورية، أن تفرض وجودها المدعوم بترسانة عسكرية ضخمة تمدها حكومة طهران بمختلف أنواع الأسلحة الحديثة والنوعية، وتموّلها وتوسّع نفوذها، لتكون أحد أهم أذرعها في سورية تنفذ أجنداتها هناك. وفي هذا الصدد، أقامت ميليشيا ” ذو الفقار العراقية ” عروضًا عسكرية في كل من حلب ودمشق، بمناسبتي يوم القدس العالمي وعيد الفطر، حيث شارك في العرض عشرات المقاتلين الذين استعرضوا سيارات قياداتهم الفارهة، وحمل المرتزقة العراقيين صور خامنئي وعبد الله الشباني الأمين العام للميليشيا وأعلام العراق والشعارات الطائفية، قاطعين الطرق الرئيسية في كل من مدينة حلب، وفي بلدة السيدة زينب في الضواحي الجنوبية للعاصمة السورية دمشق.
أما ” حزب الله ” فهو حريص على التواجد الكثيف على طول الحدود السورية – اللبنانية، لحماية خطوط إمداداته العسكرية، وضمان استمرار التهريب، ومواصلة عملية التغيير الديموغرافي، الجارية على قدم وساق في هذه المنطقة، ربما بقصد السيطرة عليها مستقبلًا، أو تمهيدًا لنشوء ” الدولة المفيدة ” التي يضعها النظام السوري وإيران، ومعهما روسيا، كأحد خيارات الصراع.

في نهاية نيسان/أبريل 2017، قامت سلطة آل الأسد بتوطين بعض المقاتلين مع عائلاتهم، ممن تركوا الفوعة وكفريا بناءً على اتفاق ” المدن الأربع “، في القصير، إحدى بلدات محافظة حمص. بعد أن تمَّ تهجير سكان معظم القرى والبلدات حول القصير، فيما تحولت البلدة بحدِّ ذاتها إلى ثكنات ومراكز تدريب عسكرية لمختلف الميليشيات الإسلامية الشيعية، بما فيها ” قوات الرضا “، التي تمتلك نفوذًا وتأثيرًا، وهي ميليشيا شيعية سورية تم تأسيسها عام 2014 بمساعدة من ” حزب الله “.

وقد أصبح معروفًا أنّ من بين أهم ما يجري العمل عليه، هو جلب عائلات عراقية، من المحافظات الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية، وإسكانها في عديد من المناطق السورية التي هُجِّر أهاليها، وذلك بالتنسيق مع مسؤولين في نظام الأسد؛ وأنّ ” حركة النجباء ” العراقية التي يتزعمها أكرم الكعبي، الذي هو على صلة مباشرة بالمرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، هي من تتولى ترتيب هذه الأمور، إذ تُمنح كل عائلة راتبًا شهريًا وبيتًا للسكن.

وينظر كثيرٌ من السوريين إلى ما يحدث اليوم، على أنه خطة إيرانية – أسدية، تهدف إلى طرد سكان المناطق المحيطة بدمشق ليحلَّ محلهم مستوطنون شيعة يأتون من إيران والعراق وأفغانستان ليتملّكوا أراضيَ وبيوتًا وممتلكات ليست لهم، على غرار ما فعلته إسرائيل حين هجّرت السكان الأصليين من الفلسطينيين.

خاتمة

سياسة التهجير القسري والتغيير الديموغرافي في سورية تهدد النسيج الاجتماعي والهوية الوطنية في ظل صراع إرادات دولية يجذب البلاد كل بحسب أجندته، وتشريد ما يزيد على 15 مليون نسمة من بيوتهم ما بين لاجئٍ ونازحٍ، أغلبهم يعيش ظروفًا إنسانية صعبة للغاية في مخيمات الداخل ودول الجوار.

ولكن لا تتوافر في مشاريع التغيير الديموغرافي، التي يديرها النظام وإيران في ” سورية المفيدة “، مقوّمات الاستمرارية والاستقرار، ذلك أنّ القائمين عليها أقلية تُحيطهم امتدادات سكانية كبيرة من نسيج السكان القُدامى المُهجّرين، الأمر الذي يجعل التغيّرات الديموغرافية التي نجح النظام في تحقيقها، في أكثر من مكان خاضع لسيطرته، مجرّدَ محاولات من المستبعد أن تستقرَّ على الأمد التاريخي الطويل، وحتى المتوسط، وتتحوّل إلى حقيقة ديموغرافية ثابتة.
(1) – اعتمدت في إعداد الورقة – أساسًا – على بعض مخرجات ” وحدة دراسة السياسات ” في ” مركز حرمون للدراسات المعاصرة “:

  • الصادرة في 18 حزيران/يونيو 2016 تحت عنوان ” حزب الله اللبناني في مواجهة الاستحقاقات المؤجلة “.
  • الصادرة في 18 نيسان/أبريل 2017 تحت عنوان ” التغيير الديموغرافي في سورية: من السياسة العشوائية إلى السياسة الممنهجة”.
  • الصادرة في 25 حزيران/يونيو 2017 تحت عنوان ” إيران الفارسية تتلطى وراء إيران الشيعية “.
    إضافة إلى:
    (2) – محمد محمد: سعي إيران للتملك العقاري وعمليات التهجير، صحيفة ” جيرون ” الإلكترونية، 10 حزيران/يونيو 2017.
    (3) – جوزيف ظاهر (أستاذ العلوم السياسية-جامعة لوزان بسويسرا): استراتيجيات التغيير الديمغرافي في سورية، مركز الجزيرة للدراسات – 9 حزيران/يونيو 2017.
    (4) – المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية: التهجير في سورية/تصنيفه – آلياته – أهداف الأطراف الفاعلة فيه، أعد البحث الناشط همام الخطيب، إشراف المحامي أنور البني.

إقرأ أيضاً: مخاطر التغيير الديموغرافي في سورية (1)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.