قنبلة المشرق الحقيقية ..(2)

3- كيف يمكن لأوروبا أن تقود بنفسها الحل؟ 

في المقابل، تستطيع أوروبا أن تلعب دورا كبيرا في إنقاذ المشرق من مخاطر الانهيار، وفي الوقت نفسه، ضمان تقدّمها واستقرارها، على شرط أن تجدّد في طريقة تفكيرها، وأن تتجاوز أحكامها المسبقة ومخاوفها وذاكرتها القديمة، فما يعيشه المشرق اليوم هو ثمرة قرنين من فشل مساعي التقدّم أو التنمية الاقتصادية والإنسانية التي أجهضتها نظم سياسية وطغم مفترسة، جنبا إلى جنب مع استراتيجيات حكومات استعمارية وما بعد استعمارية عملت خلال قرنين، بعد أن قسّمت العالم إلى دول وبلدان صغيرة لا حكمة من إنشائها سوى الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية أو الاقتصادية، المستحيل في سبيل حرمانها من إعادة تركيبها وترميم نسيجها وفتح قنوات التواصل والتفاعل والنمو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لشعوبها.

المخاطر والتهديدات أصبحت اليوم أكبر بكثير من تلك المصالح الصغيرة ومن حسابات الماضي الاستعماري والعنصري

قسمت العواصم الغربية المسيطرة على أجندة السياسة الدولية، في صراعاتها الدائمة لتقاسم الموارد والتنازع على مناطق النفوذ، وفتّتت، مناطق كانت متواصلة ومتكاملة، وشتّتت شمل شعوب، وحاصرت هذه وبسطت سيطرتها على تلك، ودعمت حكوماتٍ فاسدةً وعزّزت نظما استبدادية ومارقة، حرصا على مواقعها أو اتقاء صعود حركات اجتماعية خارجة عن سيطرتها. ومن بين هذه النظم وأشدّها فتكا بشعوبها وتقويض مستقبل بلدانها نظام الأسد الذي لم يعرف أي نظام سياسي من نظم المنطقة دلالا وغفرانا لجرائمه واغتيالاته سياسيين كبارا ودبلوماسيين أوروبيين، كما عرفه في الخمسين سنة الماضية.

وليست مفاجأة أن تجد أوروبا نفسها اليوم في مواجهة نتائج أفعالها، غارقة في المستنقع الذي صنعته بأيديها. وأن تدفع ثمن قصر نظر سياستها المشرقية ودعمها الذي لم يفتر لنظم ديكتاتورية بذرائع شتى، من مثل أن العرب أو المسلمين متخلفون ومنقسمون، أو غير جاهزين ولا مستعدين للديمقراطية، أو جامدين متمسكين بعماء بالتراث والدين، او عاطفيين ولا عقلانيين، وغير ذلك من الترهات التي عزّزت القطيعة بين أقرب منطقتين لبعضهما بعضا، ثقافيا وحضاريا وجغرافيا لا يفصل بينهما سوى البحر الأبيض المتوسط الذي تحوّل، بمقاييس العصر الذي نعيش، إلى بحيرة صغيرة تتوسّط المجتمعات أكثر مما تفصل بينها. كان ذلك بالتأكيد بداعي الحفاظ على النفوذ أو المصالح القومية الضيقة لا غير. وليست الكارثة السورية اليوم سوى إحدى الثمار المرّة لهذه السياسة الفاسدة أخلاقيا وسياسيا. لكن المخاطر والتهديدات أصبحت اليوم أكبر بكثير من تلك المصالح الصغيرة ومن حسابات الماضي الاستعماري والعنصري، فانفجار المشرق وانهياره، وهو جزء من عالم العرب الأكبر، لا يهدّد بجرف هذه المصالح والمواقع ومناطق النفوذ فحسب، وإنما بتصدير موجةٍ لا يمكن مقاومتها أو ردّها من ملايين المهاجرين الهاربين من الموت جوعا أو بؤسا، والساعين، بأي ثمن ومهما كانت المخاطر، إلى الهرب بأنفسهم من الجحيم، وعبور الحدود نحو أوروبا جنة الله على الأرض. وأمام هذه الموجات القادمة لا يوجد أي حاجز مانع أو وسيلة للردع. وأمامها ستبدو مشكلة بضعة آلاف من اللاجئين أو المهاجرين الحاليين لا تستحق الذكر. ولا أعتقد أن لدى أوروبا حلا آخر لوضع حدّ لها، ومن ورائها وقف انهيار المشرق بأكمله ورميه لملايين البشر على طريق الجوع والتشرّد والبحث عن ملجأ آمن، إلا خيار واحد هو تبنّي سياسة جديدة لدفع الأمور إلى الأمام وإخراج المجتمعات


أوروبا هي المعنية الأولى بالتغيير، لأنها ستكون المتضرّرة الرئيسية، وهي حتى الآن المتضرّرة الرئيسية من تعفّن الأوضاع المشرقية

وبالنسبة لسورية، لا يمكن أن يكون القبول باستمرار الوضع القائم خيارا صالحا. ولم تمنع العقوبات أي نظام سابق من البقاء، خصوصا عندما لا تكون هناك إرادة عالمية موحدة وحاسمة في الالتزام بالقيم والأعراف الإنسانية وحقوق الناس. ولن يكون نتيجته إلا إعطاء مزيد من الوقت لمشعلي الحرائق ومثيري الفتن واختصاصيي الإرهاب. أما التطبيع وتقديم التنازلات تحت مسمّى حوافز لتشجيع المجرمين على التعاون والتساهل، فلن تفيد إلا في تعزيز عنجهيتهم وغطرستهم، عدا عن أنها سوف تذهب مباشرة إلى جيوب المافيات الحاكمة، بينما تزداد المشكلة مع مرور الوقت تعقيدا واستحالة على الحل.

دينت بالتخلف والاستبداد والفساد خارج دائرة الموت والدمار الذي أصبح الآن برنامج العمل الوحيد لنظمٍ لم يعد لديها ما تخسره.


أوروبا هي المعنية الأولى بالتغيير، لأنها ستكون المتضرّرة الرئيسية، وهي حتى الآن المتضرّرة الرئيسية من تعفّن الأوضاع المشرقية

وبالنسبة لسورية، لا يمكن أن يكون القبول باستمرار الوضع القائم خيارا صالحا. ولم تمنع العقوبات أي نظام سابق من البقاء، خصوصا عندما لا تكون هناك إرادة عالمية موحدة وحاسمة في الالتزام بالقيم والأعراف الإنسانية وحقوق الناس. ولن يكون نتيجته إلا إعطاء مزيد من الوقت لمشعلي الحرائق ومثيري الفتن واختصاصيي الإرهاب. أما التطبيع وتقديم التنازلات تحت مسمّى حوافز لتشجيع المجرمين على التعاون والتساهل، فلن تفيد إلا في تعزيز عنجهيتهم وغطرستهم، عدا عن أنها سوف تذهب مباشرة إلى جيوب المافيات الحاكمة، بينما تزداد المشكلة مع مرور الوقت تعقيدا واستحالة على الحل.

وفي المقابل، هناك خيار أكثر جدية هو تغيير الأسد ونظامه، وهما شيء واحد، وإعادة ترميم البناء المشرقي، بحيث تستطيع الشعوب أن تستعيد الأمل، وتبقى في بلدانها وتعمل لتحسين شروط معيشتها وحياتها. وأكاد أقول إن أوروبا هي المعنية الأولى بهذا التغيير، لأنها ستكون المتضرّرة الرئيسية، وهي حتى الآن المتضرّرة الرئيسية من تعفّن الأوضاع المشرقية. أما كيف يكون ذلك في مواجهة روسيا وإيران وتردّد واشنطن، فأوروبا وحدها تعرف كيف يمكنها تحقيق ذلك، وهذا هو الامتحان الحقيقي لانبعاثها السياسي وإرادتها وقدرتها على الفعل على الساحة الدولية قوّة سياسية واستراتيجية وطرفا فاعلا في بلورة أجندة السياسة الدولية، لا ماردا اقتصاديا بقدمين سياسيين من عجين. 

لا يعني ذلك ولا يستدعي الابتعاد عن واشنطن أو مواجهة روسيا أو القطيعة مع طهران. يكفي أن تؤكّد أوروبا أولوية مصالحها في منطقة جوارها القريب، وأن تتحرّك بإرادة واحدة وتبلغ الأطراف المعنية جميعا، بصورة واضحة لا تردّد فيها، أن على الأسد أن يرحل، وأن بقاءه في حكم سورية ليس عقيدة مقدّسة، وأن على القوى الدولية الأخرى أن تقبل بهذه الحقيقة، وتدرك أنه هو السبب الرئيس في استمرار المحنة السورية، والعمل على تعميم الخراب في الشرق الأوسط، وتكفّ عن الصمت عما يحصل، أو التغطية على حقيقة الصراع بالحديث عن حربٍ أهلية وانقسامات طائفية ومخاطر إسلاموية، وأن تعمل بما يستدعي تحقيق هذا الهدف من دعم قوي وعلني للمعارضة السورية الديمقراطية لقطع الطريق على أي أملٍ لدى الأسد في البقاء في السلطة وتوريثها من بعده لابنه كما ورثها عن والده. ولا يمكن لهذا أن يتحقق إلا بتغيير الخيارات الاستراتيجية وإعادة صوغ سياسة جديدة، تجاه أقطار المشرق ومعها، من أجل بناء شراكة حقيقية لتحقيق التنمية الإنسانية، والاستفادة من الموارد البشرية والطبيعية الكبيرة التي تزخر بها المنطقة، والتي يمكن أن تحول المشرق إلى الحليف الرئيس لأوروبا، يعزّز مواقعها تجاه الولايات المتحدة وروسيا والصين الصاعدة.

من دون ذلك، لن يكون للمشرق أمل كبير في استعادة السلام والأمن والاستقرار والتقدّم على طريق التنمية الحضارية. ولن تستطيع أوروبا، مهما أقامت من جدران حديدية وحواجز عنصرية أو قانونية، أن تنأى بنفسها عن عواقب انهيار منطقةٍ تضم على حدودها الجنوبية قرابة نصف مليار من البشر المحرومين أو المهدّدين بالحرمان من الحد الأدنى من شروط الحياة الحرّة والكريمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.