مقدمة:
فيما يبدو أن التداخلات بين وظيفة الدولة في بناء المجتمع والحفاظ على تجانسه وتطوير مؤسساته، وبين دور الدين، الذي يعتبر العمود الفقري والضامن لاستمرار هذا المجتمع، من خلال ترسيخ مكارم الأخلاق ومبدأ المحاسبة والرقابة الذاتية، والتي تجعل من كل فرد فيه مسؤول عن رعيته؛ قد جرَّت بعض الفئات الحالمة في المجتمع إلى صدامات متجذرة، أدت بشكل أو بآخر إلى خلق صراعات مجتمعية بعيدة عن روح التنافس، وأقرب ما تكون إلى الصراعات العدمية الصفرية، من خلال شيطنة كل طرف للآخر سعيا منه في الوصول إلى السلطة بطريقة بعيدة عن الديمقراطية الحقيقية والمبادئ التي يتغنى بها كل طرف حسب فكره ورؤيته ومشروعه.
فصل الدين عن الدولةالنشأة ، التاريخ ، الجهل:
لو رجعنا إلى أصول فكرة فصل الدين عن الدولة وخلفيتها التاريخية ،نجد أنها بالأصل تمتد إلى فكرة فصل الكنيسة عن الدولة ،ورفع يدها عن إدارة المجتمع ،وبالتالي فإن هذا الفصل كان بداية عصر النهضة والازدهار والحداثة في أوربا ،بعد أن تم الإطاحة بسلطة الكنيسة والكهنة، ولعل الحركة البروتستانتية بقيادة مارتن لوثر عام 1483، والتي تفجرت في وسط أوروبا، كانت في مقدمة الحركاتالدينية الإصلاحية ، وكان لها التأثير الكبير في فصل سلطة الكنيسة عن الدولة.فقد كانت الكنيسة الكاثوليكية في أوربا تشكل دولة داخل الدولة وتحتكر لنفسها كافة سلطات وصلاحيات الدولة ،من سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية ، وتنتهج ثقافة التكفير لكل من يخالفها (إذا لم تكن معي فأنت ضد الله).(كثقافة داعش) والأسد تماماً (إذا لم تكن معنا فأنت ضدنا)، حيث كانت الكنيسة بوقتها تفرض سيطرتها وأدواتها وكل مفاهيمها المستحدثة والمزورة، التي أدخلتها إلى الدين المسيحي بما يتوافق مع أهوائها ومصالحها التي تضمن فرض نفوذها على كل الناس ،من بدع ومفاسد، كصكوك الغفران وغيرها، إضافة للضرائب المالية الكبيرة التي كانت تفرضها وتأخذها عنوة من بعض الطبقات.وبالتالي فإن منظومة القيم والأخلاق التي دعا لها مارتن لوثر قد ساهمت بشكل أساسي بتغيير مسار التاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والحضاري في أوربا. حيث قامت تلك الحضارة إلى جانب الإيمان بالله من خلال ضبط النفس والتحكم بها والسيطرة على الذات.وبذلك فإن الصراع مع الكنيسة نشأ عنه حركة التحرير والانعتاق من سلطتها وبطشها وأفكارها الكهنوتية ،وتحقق لأول مرة في التاريخ الأوربي مفهوم فصل الدين كسلطة كنسية عن الدولة.مما تقدم نستنتج بأن أوروبا التي كانت تشهد حروبا دامية يشنها رجال الدين (الكنيسة) على مخالفيهم من أفراد وشعوب ،استطاعت ومن خلال استبعاد رجال الكنيسة عن مفاصل الدولة وقراراتها الجائرة ،التي تستهدف أولاً وأخيراً إلى توسيع نفوذها على المجتمع ،بأن تتحرر من قيود رجال الكنيسة ووطأتها ، وأن تأتي بالمعجزات في ميادين العلم والسياسة والاقتصاد والاجتماع.وبالتالي فإن أنصار هذه النظرية (فصل الدين عن الدولة) يقولون -استناداً إلى التجربة الأوربية – بأن الدين مبادئه ثابتة وغير قابلة للتطوير والتحديث، كونه قد مضى عليها آلاف السنين ، فكيف ستستوي حضارة القرن الواحد والعشرين مع حضارات ومفاهيم العصور القديمة والوسطى؟! وهذا ما يستند إليه أنصار ودعاة فصل الدين عن الدولة في نظرياتهم المتكررة والمستمرة.ولكن يبدو أن أنصار هذا التيار قد تجاهلوا بأن الديانة المسيحية وتعاليمها شيء وأن ممارسات رجال الدين الكنسي في أوروبا ، الذين تغولوا على المجتمع والدولة إرضاء لنزواتهم والحفاظ على مصالحهم من خلال استخدام الدين كأداة أساسية في ذلك هي شيء آخر مختلف تماما عن تعاليم السيد المسيح وديانته السمحاء.وبذلك فإن رسالة السيد المسيح عليه أفضل السلام كانت متجهة إلى إصلاح أخلاق اليهود ورفع المظالم الاجتماعية عنهم. ولا ننسى أن هذه الأناجيل التي كانت تطبقها الكنيسة الغربية والشرقية قد لحقها التحريف والتبديل، ولم يبق مما أنزل على السيد المسيح فيها إلا القليل. وأما عن علاقته بالدولة القائمة في ذلك الوقت، فقد كانت واضحة وهي أن واجبات الدولة مقدسة وضمن الواجب الديني والخضوع يجب ان يكون لله وللحاكم فيما لا يخالف الخضوع لله ولذلك قال لهم السيد المسيح حسب الرواية الواردة أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.وحيث أن السيد المسيح عليه السلام لم يجعل من بعده قداسة تزعم للناس أنها تغفر الخطايا وتدخلهم الجنة أو النار، وحيث أن المسيحية استمرت خلال القرون الثلاثة الأولى من ميلاد السيد المسيح متبعة ذات المنهج الذي جاء به سيدنا عيسى عليه السلام ،داعياً إلى الحب والرحمة والموعظة الحسنة.منذ أن أعلن الإمبراطور قسطنطين في عام 324 م قانون حماية المسيحية ،ابتدأ عهد جديد استمر لأكثر من عشرة قرون، تغول فيه رجال دين الكنيسة في أوروبا على كل مفاصل الحياة والمجتمع هناك. حيث أصبح آباء الكنيسة يتدخلون في شؤون الدولة ،ويتوجون الأباطرة ويعزلون من لا يتوافق منهم مع رغباتهم.حيث استند ذلك التدخل على مبدأ حق الكنيسة في الإشراف الروحي والشرعي على شؤون المسيحيين ،حيث قال أحد أساقفة روما في القرن الخامس إن العالم تحكمه قوة واحدة وهي قوة الكنيسة، وهي المسؤولة أمام الله عن أعمال الملوك، وقد أعلن البابا غريغورس السابع (1073-1085) أن الكنيسة هي صاحبة السيادة في العالم كله ، وأنها تستمد نفوذها من الله مباشرة وهي معصومة عن الخطأ ،وأن رئيس الكنيسة هو صاحب السيطرة المطلقة على الناس جميعاً.
وفي القرن الثالث عشر أعلن البابا أنسنت الثالث (1198-1226) أنه الخادم الذي أقامه الله على شعبه، وأنه نائب المسيح ،وهو الذي يحكم الجميع ولا يحكمه أحد ،وبهذه السيادة المطلقة التي أعلنها رجال الكنيسة ،والتي أباحوا لأنفسهم من خلالها تعيين الملوك والقياصرة وعزلهم وضم بلاد إلى أخرى ،وبالتالي جعلوا أنفسهم دولة داخل الدولة.ونتيجة تلك السياسات والأساليب الخاطئة التي انتهجها رجال الكنيسة بذلك الوقت ، قامت الحروب الصليبية بين المسيحيين أنفسهم ،والتي نتج عنها موت الملايين من الأبرياء ،ومن ثم القضاء على مدن عامرة ومزدهرة.ونتيجة لما قام به لوثر أُعلن الحرب عليه وعلى البروتستانت، والتي جرت بعلم الكنيسة وتحريضها ،حيث كانت مذبحة سانت بارتلمي عام 1572، حيث ذبح فيها مائة ألف بروتستانتي في ليلة واحدة على يد خصومهم من الطوائف المسيحية الأخرى. أما محاكم التفتيش التي كانت من صنع رجالات الكنيسة في أوروبا، والتي كان دورها منحصرا في التحقيق بعقائد الناس ،وفي مدى إخلاصهم للكنيسة ، فقد اشتهرت تلك المحاكم بقسوة أحكامها وغلظتها ووحشيتها وانتهاكاتها المروعة بحق المسيحيين.إن ما سردناه يعد غيضا من فيض بما اتسم به تاريخ رجال الدين في القرون الوسطى، والذي انتهى ببركان على تلك المنظومة التي سخرت الدين للتلاعب بالدولة والمجتمع.حيث نتج من ذلك البركان الكبير ما نسميه اليوم من مصطلح فصل الدين عن الدولة. فنتيجة لكثير من الآيات الواردة في الأناجيل والتي تحض على القتل ( الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء اقتلوا للهلاك حزقيال 9.6) ونتيجة لتسلط رجال الدين واستخدام هذه الآيات ضد خصومهم و احتكروا الدين لمصالحهم وطوعوه لرغباتهم كانت الثورات ضد الكنيسة والمناداة بفصل الدين عن الدولة ومنها الثورة الفرنسية.وهذه هي النتيجة الحتمية لخروج الكنيسة ورجال الدين فيها عن حدود وظيفتهم الذين تغولوا فيها على الدولة والمجتمع، ومنذ ذلك الوقت أصبح مبدأ فصل الدين عن الدولة مبدأ عاماً تسير عليه السياسات الدولية الأوربية.أما في الإسلام فإن الأمر مختلف جذرياً، حيث جاء سيدنا محمد صل الله عليه وسلم برسالته متممة لرسالات الأنبياء السابقين التي تدعوا إلى وحدانية الله والإيمان بكتبه ورسله وملائكته. وجاء الإسلام مختلفا عما سبق من الأديان بشموله وواقعيته وتنظيمه لمختلف جوانب الحياة ،من حيث العبادات والعقائد والآداب والقوانين، حيث جعل العلم طريقا للإيمان بالعقيدة {{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم الحق}} بعيداً عن الخرافات والأوهام والظنون، ليصل المسلم إلى يقين العقيدة والإيمان بالله.فاتحاً الطريق بين الإنسان وخالقه محطماً لأي واسطة بينهما (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) البقرة (186). وبذلك أنكر الإسلام كل الوظائف التي من خلالها تسلط الكهانة والعرافة والرهبان على رقاب الناس، وأنه الدين الوحيد الذي ليس فيه رجال دين، وإنما علماء وفقهاء وطلاب علم يبينون للناس حكم الله في كتابه (القرآن)، حيث لا يملكون تحريم ما أحل الله ولا تحليل ما حرم الله ،فقد عاب على أهل الديانات السابقة اعترافهم بهذه الطبقة التي تلاعبت بأحكام الشريعة وقوانينها، وأخضعت الناس والدولة لها بذلك (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) التوبة (31) وبذلك نجد أن القوانين في الإسلام تدور حول الحقوق الأساسية والضرورية لكل إنسان، والتي لا تكمل سعادته إلا بها حق الحياة – حرية العقيدة – حق العلم – حق العمل وحق الكرامة ،وبالتالي فإنه يتبين لنا بأن مقاصد الشريعة والتي أجمع عليها الفقهاء وتقتضي حفظ الضروريات الخمس (الدين والعقل والنفس والمال والعرض).
وبذلك فإن الأسس التي تقوم عليها هذه الضروريات الخمس هي:
1- العدالة: والمتمثلة بإعطاء كل ذي حق حقه ،وهذه العدالة تقررها القوانين الإسلامية لكل طبقات المجتمع بلا استثناء (سواء في معاملات الناس بعمليات البيع والشراء وفي القضاء ،أو في علاقة الحاكم مع الشعب، فما كره الإسلام شيئاً كما كره الظلم والظالمين (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظلموا مِن عذاب يوم أليم)، ويسمو الإسلام إلى ذروة الحق والعدل حين يحتم في قوانينه أن تكون هذه العدالة على غير المسلمين كما هي على المسلمين.
2- المساواة: لا يوجد في ظل القوانين الإسلامية طبقة لها امتيازات ،فلا يوجد في الإسلام رجال دين يفرضون أنفسهم باسم الدين على الدولة والمجتمع والشعب، لأن سيادة القانون تكون على الجميع (الناس سواسية كأسنان المشط) فالقوانين الإسلامية وخاصة منها المالية والجزائية تطبق على المسلم وعلى غير المسلم على السواء.وكما كان الإسلام قد خصص بعض وظائف الدولة بالمسلمين كرئاسة الدولة العليا مثلاً فإن ذلك مرده أن الإسلام نظام قانوني له مبادئه وفلسفته ، وبالتالي فإن رئيس الدولة هو حارس لهذا النظام والمشرف على تطبيقه ورعايته ،فكيف يتم إسناد هذه الوظيفة إلى من لا يؤمن بقوانين هذا النظام وفلسفته.في الوقت الذي شاهدنا في كل عصور التاريخ الإسلامي بأن كثيراً من الوزارات (مالية – دفاع – صحة) قد تولاها غير المسلمين، في الوقت الذي نرى فيه صمت رهيب من موقف الولايات الأمريكية اللاتينية، إذ لا يتولى حكمها إلا رئيس كاثوليكي ،والولايات الشمالية لا يتولى حكمها إلا بروتستانتي ، كذلك في الولايات المتحدة الأمريكية ،مع أن الكاثوليكية والبروتستانتية هم طائفتان من الطوائف المسيحية، ولعل مقتل الرئيس الأمريكي جون كندي كان بسبب أنه من غير الطائفة المسيحية التي من المفترض أن ينتج عنها رئيس الدولة.وخلاصة القول في ذلك أن الإسلام في قوانينه العامة قد ساوى بين المسلمين وغيرهم ولم يشذ عن هذه المساواة إلا لمصلحة غير المسلمين ، حيث يكون في دياناتهم ما يخالفها ، فيتخلى الإسلام عن مبدأ المساواة ، ليجعل غير المسلم حر في تطبيق مبادئ ونصوص دينه ، وأفضل مثال على ذلك هو أن الخمر في الإسلام بضاعة محرمة مهدورة قيمتها فمن أتلف خمرا لمسلم فلا يجب عليه أن يدفع ثمنه ،ولو عرض هذا الأمر على القضاء ،أما من أتلف هذه البضاعة لغير المسلم فيجب عليه أن يدفع له ثمنها وعلى القاضي المسلم أن يحكم بذلك.
3- التيسير: إن القوانين التي جاء بها الإسلام لم تأت بما لا يستطيع الناس القيام به في حياتهم بل التمست لهم الأعذار في كثير من الفرائض والواجبات في بعض الأوقات، كالصلاة والصيام والحج كما أباحت لهم بعض المحرمات في ظروف معينة ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ).
4- المصلحة: لما كانت رعاية مصالح الناس وتحقيق حاجياتهم هي الأساس لذلك فإن القوانين الإسلامية جاءت كلها مؤكدة على رعاية المصالح وتحقيق العدل للفرد والمجتمع من خلال قاعدة تتبدل الأحكام بتغير الأزمان، لأن المصلحة هي قطب الرحى في أحكام الإسلام وأن الله لم يشرع أمرا إلا وفيه مصلحة للناس.
دعائم مؤسسات الدولة في الإسلام
لم يصطدم الدين الإسلامي مع بنية الدولة على مر العصور ،ولا أعتقد أن أي باحث في التاريخ الإسلامي سيجد أي صدام قد حصل بين ذلك الدين مع مؤسسات الدولة في يوم من الأيام ،لأن قوانين الدولة الحديثة والتي تسعى كل المجتمعات المتحضرة لترسيخها في مجتمعاتها ،هي ليست أكثر مما يسعى إليه الإسلام بشكل أو بآخر ،والتي تهدف بالنتيجة إلى إسعاد المجتمع وعلو شأنه في كافة النواحي سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وتربوياً وصناعياً … الخ.
إن مفهوم الدولة في الإسلام يقوم على عدة عوامل رئيسية:
- رئيس يختاره الشعب بحريته وإرادته من خلال عملية انتخابية تحميها صناديق الاقتراع وهي إحدى الطرق العصرية التي أقرها العلماء تماشيا مع مقتضيات العصر وبما لا يخالف المبادئ الإسلامية .
- جهاز حكومي من ذوي الكفاءة والتخصص فيما تسمى بحكومة التكنوقراط ومن غير النظر إلى أي اعتبار آخر.
- قوانين مدنية وضع الإسلام قواعدها ومبادئها وترك للمشرعين الاجتهاد في تفاصيلها بما تقتضيها المصلحة وتحقيق العدل.
- قضاء مستقل عن أي سلطة أو أي جهة في الدولة ،يقف أمامه الحاكم والمحكوم على حد السواء ، والرئيس والمرؤوس على درجة واحدة.
- بناء جيش قوي من أجل حماية الدولة من الأخطار الداخلية والخارجية والدفاع عنها وصون أمنها وسيادتها وحريتها.
وبالتالي فإن هذه الأساسيات في بناء الدولة التي تحقق للشعب الرفاء والسعادة والأمن والكرامة، وهذا ما يتفق مع مبادئ وصميم الإسلام ، فأين التصادم بين الدين والدولة ، والذي جعل الكثير من السطحيين المتفيقهين المغيبين عن التاريخ ووقائعه وأحداثه، ينادون ويتبجحون و يصرخون بضرورة فصل الدين عن الدولة في المجتمعات العربية الإسلامية ، إما عن جهلهم وإما تنفيذا لما أوكل إليهم من أعداء الأمة.إن الدين والدولة في مجتمعنا العربي والإسلامي هما توأمان سياميان بقلب واحد ، فلا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. ومما هو واضح من خلال تلك الروح المتعاونة والمتآخية بين الدين والدولة استطاع الإسلام أن يعمل على إقامة حضارة خالدة ودولة مزدهرة ، ولم نلحظ أي صدام نشأ بينهما يحول دون استمرار الدولة وعظمتها في أداء رسالتها ، ولعل تاريخ الدولة الأموية ومن بعدها الدولة العباسية شاهداً على انعدام أي نوع من الصراعات فيما بين العلماء والدولة حول أي مسألة.ولعل أبرز سؤال يراود الكثيرين هو هل من واجب الدولة التدخل في فرض عبادة معينة أو نهي محدد أو إلزام باعتقاد ما دون آخر علماً أن ذلك لا يتجاوز نطاق الفرد ولا يتعدى إلى مجال الآخرين ؟الجواب: إن الجواب بطبيعة الحال هو لاااااااا بالنسبة لغير المسلمين فلهم حرية عبادتهم وعقيدتهم وهو مصونة بشرع الله.وقد أقر مؤتمر القانون المقارن الذي عقد في لاهاي في عام 1937 اعتبر أن الشريعة الإسلامية هي مصدر من مصادر التشريع العام واعتبارها صالحة للتطور. كما أن قرار مؤتمر المحامين الدولي المنعقد في لاهاي عام 1948 بوجوب تبني الدراسة المقارنة للتشريع الإسلامي والتشجيع عليها نظراً لما تملكه من المرونة والشأن ،وبالتالي فإن هذه المقررات في تلك المؤتمرات الدولية وغيرها للحقوق المقارنة زادت في لفت أنظار الحقوقيين العرب والمسلمين إلى قيمة التراث الإسلامي التشريعي و ضرورة الاستفادة منه في حركة التشريع الجديد التي تغمر العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه. فها هو القانون المدني المصري الصادر عام 1948 قد أقر مبادئ عظيمة تفردت بها الشريعة الإسلامية ،كما أن القانون المدني السوري الصادر عام 1948 أقر بوجوب الرجوع إلى الشريعة الإسلامية حين لا يجد القاضي نصاً في القانون المدني عن الواقعة التي تعرض أمامه.
ختاماً:
إن المناداة بفصل الدين عن الدولة في تاريخ المسيحية في أوروبا كان له دواعيه وبواعثه الحقيقية والمتمثلة بتغول رجال الدين في الكنيسة على المجتمع بكل شؤونه وتفاصيله ،حتى إن رجال الدين في ذلك الوقت كان لهم الدور الأكبر في الحرب الدموية التي عصفت في أوروبا في وقت من الأوقات والتي ذهب ضحيتها ملايين البشر.إضافة للأفكار المغلوطة والشعوذات والسحر الذي أدخله رجال الدين إلى ثقافة المجتمع آنذاك ، كصكوك الغفران وغيرها،وبذلك فإن البركان الذي تفجر وأقصى رجال الدين والكنيسة عن مفاصل الدولة كان هو الحل الوحيد لازدهار أوروبا وانتعاشها وبناء حضارتها بعيداً عن غوغائية هؤلاء ، وعودتها إلى وضعها الأول الصحيح حيث أن حياة السيد المسيح وتلامذته من بعده حتى القرون الثلاثة الأولى كانت مواقفهم مسالمة للدولة لا تصطدم معها في تشريع ،وليس هنالك من رجال دين يتحكمون بها.
ولكن
فإن الذين انحرفوا عن المبادئ العظيمة التي جاء بها السيد المسيح عليه السلام هو السبب الذي جر عليها وعلى شعوبها البلاء والشقاء.أما في الإسلام فإنه أزهى وأرقى عصور الحضارة وأكثرها قوة وامتناعا وحصانة وإنسانية ،هي العصور التي قامت بها دولة الإسلام والمسلمين على مبادئ الشريعة ،وما حدث الجفاء والشقاء بين الدين والدولة إلا في عصور الضعف والجمود والفوضى.إن ربط الدين بالدولة في أوروبا أدى إلى اضطهاد الفكر وخنق الحريات وقيام الحروب الدينية المفجعة وخضوع الناس لكابوس الخرافة والجهل والشقاء.اما ربط الدين بالدولة في عصور الإسلام الزاهرة فقد أدت إلى تحرر الفكر وانطلاقه وحماية الحريات الدينية ،وإشاعة الرغد والسلام والطمأنينة بين أبناء الديانات كافة ،وتحرير الناس من أوهام الخرافات والشعوذة وتحقيق الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية للجميع بغض النظر عم دياناتهم.ولا أعتقد بأن الثقافة التي تسير ولازالت عليها بعض التنظيمات الإسلامية الجهادية في وقتنا الحالي هي النموذج الذي نتكلم عنه لأنها بثقافتها وسياساتها أبعد ما تكون في وضعها الراهن عن تعاليم الإسلام وقوانينه وقواعده ومبادئه وأخلاقه، لابل إن تلك التنظيمات قد ساهمت بشكل أو بآخر بالعمل على تشويه صورة الإسلام الناصعة، والذي هو دعوة ودولة.إن تلك التنظيمات التي ظهرت في أواخر القرن الماضي ولازالت حتى الآن والتي عاثت في الأرض خرابا وفجورا ،فهي لا تمثل إلا نفسها والأشخاص المنتمين إليها، والإسلام من سياساتها وأفعالها وثقافتها براء لأنها خالفت نهجه وقوانينه وقيمه، واتخذت فقط من الشعارات الرنانة وبعض المظاهر الشكلية ستارا لها في جبروتها واستبدادها وغطرستها.
أ.فهد القاضي
تقدمة لسوريا الأمل