على هامش الحديث عن التطرّف

يكاد يكون التطرّف الديني أحد أهم المشكلات التي يواجهها العالم المعاصر، ولعل مكمن الخطورة في مواجهة هذه المشكلة أن بلاد المسلمين هي الميدان الأرحب لتلك المواجهة، مما ينعكس ذلك على حياتها العامة بشتى تجلياتها، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. بالطبع لا تدّعي هذه المقالة الوجيزة تقديم إحاطة وافية بأبعاد المشكلة، ولكنها تكتفي بإبداء ملاحظات ثلاث:
1 – النص القرآني، وضرورة القراءة المعرفية
ثمة مشكلتان كانتا دائمتي الحضور في معظم المشروعات الإسلامية،سواء أكانت تلك المشروعات حزبيةً أم دعوية.
الإشكالية الأولى: معرفية ثقافية،ويتجلى فيها الصراع بين آليات الفهم وطرائق التفكير في مواجهة النص القرآني، فهل تكون قراءتنا للنص القرآني محكومة بمعطيات تاريخية ومعرفية ثابتة ومحدّدة؟ أم أنها ستكون قابلة للتزوّد بما ينتجه الفكر البشري من جميع أصناف العلوم؟ قد يستدعي هذا التساؤل سؤالاً آخر، أكثر دقةً،هل عبّر النص القرآني عن قيم ومعان ثابتة،وعلى الفكر البشري أن يتكيّف معها،أم أن تلك القيم والمفاهيم منفتحة قابلة للتفاعل مع مفرزات التطور الفكري على امتداد الزمن؟
الإشكالية الثانية:قيمية أخلاقية، وتتجسّد بين نمطين من التفكير والسلوك معاً،أحدهما تاريخي مُستمدّ من موروث ديني اكتسب صفة القداسة دون أن يكون مقدّساً في الأصل،وعزّزت من قداسته منظومة فقهية تنتمي إلى العهود (الإمبراطورية).
وثانيهما ثقافي، يسعى للاندماج الإنساني ويستلهم من الدين معطياته الأخلاقية والحضارية القابلة للتكيّف و التقاطع مع أنماط السلوك الإنساني لدى بقية الأمم والشعوب
إن الأزمة التي يواجهها المسلمون، ليست أزمة ناجمة من الدين الإسلامي كمُعطى رباني،بقدر ما هي ناجمة عن آليات التفكير البشري وطبيعة رؤيته للدين.ولتجاوز هذه الأزمة، لا بدّ من وجوب قراءة الإسلام قراءة معرفية وليست قراءة فقهية،ذلك أن القراءة الفقهية تستند إلى إرث فقهي تم إنتاجه في زمن بعيد وفي ظروف مغايرة للظروف التي يعيشها المجتمع الإسلامي المعاصر،وبالتالي فإن الفتوى الفقهية إنما تلبي حاجة غالباً ما تكون بنت وقتها،وإذا تغيّرت الظروف ستتغير الحاجات بالتأكيد. بينما القراءة المعرفية فغالباً ما تكون مزوّدة بروافد علمية وثقافية متجددة من جهة،وكذلك تكون مواكبة لتطلعات الناس وحاجاتهم الراهنة من جهة أخرى.
ولعلّ هذا الفهم المعرفي لجوهر الدين الإسلامي،له ما يلازمه من مفاهيم أخرى،كالانفتاح الحضاري والثقافي على الآخر،والتطلع نحو المستقبل وعدم الارتهان لمفهوم (النوستالجيا)،والإيمان بالحرية كشرط أساسي للتديّن الحقيقي،ونبذ الإكراه والتسلّط،والنظر إلى قوله تعالى( لا إكراه في الدين) على أنه دستور يجب التمسك به والدفاع عنه.
إنّ عظمة الإسلام لا تكمن في جانبه الإيماني والإيديولوجي،بقدر ما تكمن في جانبه الإنساني والاجتماعي،أي لا يمكن للإسلام أن يحيا دون مجتمعات بشرية،فالدين إنما أنزله الله لخدمة الإنسان،وليس ليبقى في السماء،ومن هنا تبدو الحاجة إلى ترجمة الإسلام إلى خطط ومشاريع عمل ينتفع بها الناس،وبرامج يتقوّم عليها النهوض بالاقتصاد والثقافة والفن وشتى ميادين الحياة. ومما لا شك فيه، أن العمل على انزياح المشروع الإسلامي من إطاره الإيديولوجي المغلق المُنتِج لكل أشكال التطرف، إلى إطاره الإنساني العام، لا يمكن أن يتقوّم على جهد أو نشاط فردي لمثقف هنا أو هناك، بل لا بدّ من وجود مؤسسات او كيانات كمراكز الأبحاث والأكاديميات التي تعنى برسم استراتيجات عامة لتحقيق هذا الهدف.
2 – النهج المكيافيلي الغربي حيال القضايا العربية والإسلامية:
يبدو العالم الغربي – على وجه العموم – شديد الحرص على التمسك بمنظومته القيمية التي أنجزها تاريخ النضال من أجل الحريات، ولهذا ينظر المواطن العربي او المسلم إلى الحصانة التي يتمتع بها المواطن الغربي من تغوّل الدولة، بمزيد من الإعجاب، وخاصة فيما يتعلق باحترام الدولة لحقوق الإنسان كاملةً كما أقرتها المواثيق والعهود الدولية، إلّا أن هذا الإعجاب الذي تحوزه دول الغرب نتيجة لسياساتها الداخلية حيال شعوبها، سرعان ما يتبدّد ويتلاشى في أعين الآخر( غير الغربي)، حين يظهر الوجه الآخر لتلك السياسات، واعني السياسات الخارجية، التي تفصح عن طبيعة التعاطي الغربي مع القضايا العربية والإسلامية، إذْ يُفصح هذا التعاطي في غالب الأحيان، عن انزياح للمنظومة القيمية الغربية، لتحل بدلاً منها منظومة القيم المادية التي تعتمد معايير المصلحة الغربية ولو كان ذلك على حساب القيم الإنسانية جمعاء. ( يمكن النظر إلى طبيعة تعاطي الغرب مع القضية الفلسطينية ووقوفهم إلى جانب إسرائيل مثالاً لذلك، وكذلك الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 أيضاً).
إزدواجية المعايير الغربية، إضافة إلى التناقض بين الخطاب والممارسة، تفضيان إلى نتيجتين اثنتين:
الأولى : الشك وعدم المصداقية بالخطاب القيمي الغربي، مما يدفع ( الآخر) إلى الانزياح نحو تبنّي خطاب مناهض، وغالباً ما يكون هذا الخطاب المناهض منبثقاً من إيديولوجيا شمولية سواء أكانت دينية أو قومية.
الثانية: أولوية المصالح المادية لدى الغرب عموماً، على حساب حقوق الشعوب الأخرى، تعزز لدى قطاعات كبيرة من سكان الشرق الأوسط عقدة الشعور بالمؤامرة، والتي يمكن أن تكون هي المدخل المؤسِّس للتطرف، باعتبارها ضرباً من التفكير القائم على القناعات المسبقة،أكثر مما هو قائم على المعطيات الملموسة.
خطأ السياسات الغربية في تعاطيها مع القضايا العربية والإسلامية هو احد الأسباب المساهمة في خلق ظاهرة التطرف، ومعالجة هذه الظاهرة دون الوقوف على أسبابها لا يعدو كونه جهداً ضائعاً في غالب الأحيان.
3 – الاستبداد هو الأب الشرعي للتطرف
على الرغم من إلحاح الخطاب الإعلامي الغربي على مسألة الديمقراطية، باعتبارها إحدى ركائز العلمانية، إلّا ان الوقائع أثبتت مدى الحماية والدعم الذي تلقاه الأنظمة الشمولية في الشرق الأوسط والعالم من الحكومات الغربية، التي غالباً ما تفضّل التعامل مع حاكم مستبد يجمع السلطات جميعها بيده، ولعلّ هذا التفضيل يعود إلى رغبة الدول الغربية في الحصول على ما تريد من هذا الحاكم المستبد، باعتباره مالكاً للبلاد، دون الرجوع إلى مؤسسات الدولة الأخرى، ولعل هذا السلوك الداعم للاستبداد هو الذي يعزز القناعة لدى قطاعات واسعة من سكان البلاد، بأن الترجمة الفعلية لقيم الديمقراطية والليبرالية هي الدعم الفعلي للأنظمة المستبدّة، وبالتالي تصبح حالة مقاومة الاستبداد لدى الكثير من المنتفضين ضدّ حكوماتهم، وخاصة الإسلاميين، حالةً جهادية مشتركة في وجه الحكام وداعميهم الغربيين معاً.
ما سبق ذكره، يعزز لدينا القناعة بأن القضاء على التطرف، لا يكمن في القضاء على المتطرفين، وإنما يكمن في استئصال الأسباب المؤدية للتطرف، وهذا يحيل إلى عدم جدوى الاعتماد على الحروب ، كوسيلة إجرائية وحيدة لمحاربة الإرهاب، والتي غالباً ما تودي بحياة الكثير من الأبرياء، وإنما يوجب علينا الانطلاق إلى آفاق أخرى، التنمية الاجتماعية – الانسجام بين الفكر والممارسة – دعم القضايا العادلة للشعوب – تعزيز المعرفة والثقافة – دعم مراكز التنوير والإصلاح الديني – الادب – الفن – ، أي محاربة الإرهاب ليس بما هو قبيح كالحرب مثلا، بل بما هو جميل أيضاً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.