ذاكرة ممتلئة وخيارات حادة…

[بقلم د. جمال الشوفي]

هل تخيلت حجم الألم حين يصل نصل سكين جوار العظم!

هل تخيلت حجم الصراخ المنبعث من داخلك حين لا يكون أمامك سوى خيار وحيد، خيار المشي على نصل شفرة حادة تمتد أمامك طريقا وممرا اجبارياً وحيد!

ان هويت يميناً تسقط بين فكي أغوال تنهش في قيمتك ووجودك، وحوش تلتبس شكل وجوه بشرية تحمل اعلام سوداء من حقد البشر الأعمى، يقودها دجالو الدين وكهنة السياسة وحاملي رماح القتل والبتر الحرام، وإن هويت يساراً تفتك بك سحق الألة وعصر المادة والمؤتمة والتقنية وصراع الدول الكبرى على ذاتك وقيمتك التحررية.

تخيل أن الممر الوحيد أمامك هو هذا الخط الرفيع من شفرة حادة كلما تقدمت للأمام كلما زاد انغرازها في قدميك. وكلما زادت أحمالك كلما حنوت أكثر حتى بات وجهك كما قدميك عرضة لذات الشفرة وحدتها البالغة فيك حد العظم، مشيك للأمام يعادله تراجعك ألماً فأي الاتجاهين تسير؟ ولا أعلم ان كان يمكن مقارنتها بذات الألم حين يخترق نصل سكين قلبك على مهل في جريمة حب فاشلة أو تجربة خيانة مرة أو فاجعة موت عزيز طبيعية!

ألات تعذيب المعتقل في سجون الطغاة، وجع الأم في طول ليل انتظار وليدها أن يعود من معتقل، حضن أب لطفل مات برصاصة قناص، انهدام المنزل على أم ترضع وليدها بصاروخ فراغي وتحتار بين أن تحمل أخوه معها أو أمها العجوز من بوابة نجاة! ذهول الطفل حين تفقأ عينيها شظايا قنبلة عنقودية فيسود العالم أمامه فجأة وينزف من رأسه دماً بدل الأحلام، اختلاط دم الخباز في الخبز في مخبز اصابته قذيفة مدفع ولا تملك إلا ان تأكله وتطعمه أبناؤك الجوعى، مرورك على حاجز يسألك دينك أو بلدتك فتهان أن أجبت وتهان أن صمتت، وربما تُرمى في الصحراء جثة طعام لذئاب الليل! وقوفك العاجز والمكبل أمام إصرار ابنك على المضي في ركب مظاهرة تعلم أنه قد لا يعود منها، فلا تستطيع ردع رغبته ورغبتك بالحرية ولا تسطيع ردع شدة هلعك وخوفك المفرط من فقده…..   

انغراز نصل الشفرة هذه في قدميك حد العظم، وما نصلها الطويل سوى درب الشعوب في الحرية والانعتاق الطويل والكارثي، ولليوم المضي فيه للأمام ألم لا يقاوم والتراجع عنه ألم مضاعف وبين هذا وذاك تتراكم جبال القهر والألم وتزداد مساحات الصراخ البشري، ويعتلي صوتان فيك: صوت الحنين في أن تكون انساناً زينته الأولى حريته بلا خوف وصوت أقبية السجون والموت الحرام، صوت العدمية البشرية في اجتياف الجفف وبقايا الشعوب….

هذه ذاكرة السوريين الممتلئة على آخرها، فأي الخيارات يعيشون اليوم؟ وأي الممرات سيسلكونها بعد وما طبيعة الخيارات الجديدة امامهم اليوم وكيف ستعالجها ذاكرتهم الممتلئة هذه؟

ليس الموقع اليوم استعراض ذاكرة السوريين في عقد من الزمن فقد سجلت في ألاف المقالات والتحليلات والدراسات وحتى الوثائق الأممية المعطلة لليوم تحت مسمى ملف جرائم حرب، ولكنها محاولة أخرى للوقوف على ناصية المشهد الكارثي وطرح بعض صوره، خاصة وأن الربيع العربي يمر في موجة من الصقيع الجافة يكتنفها العزلة والحجر السياسي قبل الصحي، ولكن…

وهذه ال “لكن” على قساوتها لازمة تحديد لما بعدها، فثمة ما يمكن تحديده في سياق عام يسمى حركة تغير جذرية عنوانها الأبرز كسر الأطواق الى ما لا نهاية، هو ثورة لازمة في سياق تشكلنا المعرفي اليوم، عنوانها العريض النقد والنقد الكثيف المعمق، فقد نخطئ مرات وقد نصيب مرات وربما يحالفنا الحظ اذا ما تأملنا وتفكرنا وتحاورنا وتواصلنا كسوريين وفقط بلا أية أجندات أخرى..

فالتغيير والثورة ليس فقط للتخلص من الميزانيات العسكرية الكبرى والتي تصل لحد 85% بغية التغطية على السرقات والمحسوبيات واستنزاف كامل الموارد المجتمعية وحسب، بل لاستعادة تمكين القدرات التنموية المجتمعية في الصحة والتعلم والتعليم والقضاء والحياة المدنية والثقافية وفصلها عن سياق النظام العسكري / الأمني المهيمن والتابع معاً وهذا مفصل يجب تثبيته عند نقاش أية حالة انتقالية في جسم كجلس عسكري.

التغيير والثورة للخروج من عتمة الاستبداد الى فضاء الحرية الأوسع فضاء الابداع والامكانيات المجتمعية المتحررة في سياق بناء الدولة الوطنية والمعتمدة على استعادة مواردها المادية المنهوبة وتوظيفها في مصلحة الكل الجمعي لا الجماعة الحاكمة أو التي ستحكم، وليست لاقتناص سلطة وفقط لفريق دون سواه، ولمعارضة دون غيرها خاصة تلك التي تقبع في زواريب ودهاليز أحزاب السلطة ومعارضتها الواهمة في اقتناص منجزات الثورات لليوم….

فهل صعبة هذه الخيارات والمحددات أمام الفاعلين في الملف السوري سياسياً ومدنياً وعسكرياً؟ سؤال برسم القادم من الأيام فالذاكرة ممتلئة عن آخرها…

إقرأ أيضاً: لا مخرج إلا بادراك الحقيقة ومجابهة الواقع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.