التدمير الذاتي للسوري

بعيداً عن حديث المؤامرات الأجنبية والعربية علينا في ثورتنا، والتي ليست كلها بالضرورة مبالغات، أو حتى
أوهاماً، فإن ما نشهده، اليوم، من جنون يصل إلى حد التدمير، إنما هو في جلِّه من صنع أيدينا، إنه تدمير
ذاتي للإنسان السوري، وتدمير ذاتي لكثير من مكوناتنا، إلى الحد الذي يُحار فيه المرء إن كان المسؤولون
عن هذا الجنون وهذه الفوضى يعون ما يفعلونه، وهل هو عن سبق إصرار وترصد، أم أنهم منساقون وراء
حسابات ذاتية، وحماقات منفلتة من أي منطق؟
مضت سنوات عديدة أعتقد فيها الناس أن اوضاعنا الداخلية سوف تتحسن تدريجيا من الاسوأ إلى الأحسن
ولكن للأسف الشديد غلب “منطق” القوة ومنطق التعصب ومنطق الإقصاء على كل شئ حتى أصبح  التدمير
الذاتي  سمة عامة ، فهو يقوم على نسف كل مقومات الوحدة الوطنية الداخلية، ويمزق النسيج الاجتماعي ،
ويقسم الشعب الواحد إلى أطراف متناحرة في شكل مجموعات مسلحة متنافرة ومتقاتلة، وبذلك صار المجتمع
السوري أكثر هشاشة، وقابل للاختراق والتقسيم، وربما عاجز عن النهوض مجدداً.
كيف حدث ذلك؟ ومن المسؤول عنه؟ ومن المستفيد منه؟ هل من تفسيرٍ لهذه العقلية التدميرية؟ هل من
تفسير لهذا الهوس بتدمير الذات؟ هل من تفسيرٍ لفشلنا في تغليب المصلحة الوطنية والجماعية لصالح
المصالح الضيقة والقصيرة المدى؟ 
الشعب السوري الذي ثار على حاكم دكتاتور مصاب بجنون العظمة، دمر وطنه وشعبه على امتداد خمسة
عقود من أجل نفسه وبقاؤه في السلطة،  يجد اليوم، نفسه في قلب فوضى عارمة وحالة من التدمير الذاتي 
تغيب فيها الدولة وأجهزتها المهترئة وتندلع بينها الصراعات التي تتم هندستها بعناية من أطراف عدة، وهي
إن استمرت بهذه الحالة الخطيرة التي عليها اليوم، فإنها  ستقود حتما في اتجاه عودة نظام اسوأ تدميراً
وانحطاطاً من نمط ” نظام” الأسد، أوتقود في النهاية إلى انقسام مناطقي وجهوي متخلف تحت مختلف
الشعارات الدينية والسياسية.
أزمتنا في عقولنا وفي نفوسنا، ازمتنا في طريقة تفكيرنا المتخلفة التي لا تقبل الأخر ولا تريد أن تتعايش
معه، أزمتنا في تعصبنا الديني والسياسي، أزمتنا في تعصبنا القبلي والجهوي فالتعصب هو الذي ولّد
الاحساس عند كل الأطراف المتصارعة  باعتبارها أنها على حق، والطرف الأخر على خطأ هذا التعصب هو
الذي جعل بعضنا مشحونا بالعداء وعلى استعداد للقتل والذبح وارتكاب أبشع الجرائم بأسم “الثورة” أو بأسم
“الشرعية” أو بأسم” الدين والشريعة” أو تحت الشعارات السياسية الزائفة التي تخدم أصحابها ولا تخدم
الوطن وأهله، وكأن هذا البعض أصبح وصّياً على الشعب السوري يدافع عن الحق والطرف الأخر عن
الباطل!
لم  تسطيع المكونات الجيوسياسية والدينية  سواء تلك التي نشأت خلال الثورة أو بعدها تحت مختلف
الشعارات والمبررات أن تعمل ضمن إطار المحيط الواحد وتتجاوز أحقاد الماضي وسلبيات الحاضر وأثاره
المدمرّة على الجميع، ولا ايقاف حتى صراعها على السلطة والثروة لكي تجلس وتتحاور وتتفق فيما بينها
على تجميع قواها لمواجهة التحديات والمتطلبات الحاضرة للمجتمع السوري ككل والعمل على رسم سياسات
المستقبل لضمان مصالحها المشتركة في ظل الوطن الواحد.
نعم تغيب السلطات الناظمة وآليات العمل للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية على أرض الواقع بفعل
عوامل عديدة ولكن أيضا حتى المكونات السياسية والدينية التي ظهرت للوجود اثناء وبعد الثورة على
مختلف مشاربها قد فشلت أيضا وبنفس الدرجة بالتصدى للمهام الوطنية والديمقراطية عندما توفرت لها
الظروف الملائمة لأخذ مكانتها وتأدية رسالتها التاريخية نحو الوطن والشعب، وفضّلت جميعها لأسباب بنيوية
تحكمها وتحكم عقليات وسلوكيات قادتها إلى الارتماء في أحضان المنفعية القبلية والجهوية والمناطقية و
التعصب الديني لدرجة التطرف فالمشكلة ليست فقط  في ما يجري في الرؤوس ولكن المشكلة على أرض
الواقع طالما كل الأطراف المتناحرة لا تفكر بحكمة وعقل وإنما بطيش وتهور ومغامرة.
ما هي النتيجة لكل ما يحدث والآثار المترتبة عليها بالنسبة للشعب السوري ؟
النتيجة هي: الشلل الكلي او الجزئي للحياة الطبيعية 
على المستوى الداخلي: لقد اصيب كل شئ في محررنا بالشلل، فقد غابت الحياة الطبيعية للناس وحل محلها
الخوف والهلع والترويع وغياب الأمن والأمان والاستقرار، ما أن تنتهي أزمة أو مأساة  حتى تبدأ أخرى و
يكاد أن يصبح الوطن “أرض الأزمات والمآسي” فكل طرف من الأطراف المتصارعة يدعي أنه ذو مشروعية
وعلى حق فكل ما يقوم به من تدمير للمنشآت والمباني العامة والخاصة واعتقال وتعذيب قتل واغتيال
للأشخاص المدنيين والعسكريين ،فلم يعد يسلم أحد لا رجل طاعن في السن ولا شيخ مسجد ولا طفل ولا
امرأة، سكان المدن” شرقا وغربا” يناموا وتستيقظوا على أصوات القنابل والصواريخ والرصاص ولا يعرفوا
متى تتوقف هذه الضربات العشوائية ولا كيف  تبدأ بل إن الناس أصبحت تتوقع أن تستهدفها في لحظة ما،

اختلاسات مالية بالملايين وسرقات للمواطنين العزّل ( أموالهم وممتلكاتهم وسياراتهم)، وانحدار في مستوى
الخدمات العامة والأسوأ في هذا الأمر ما يتعلق با لخدمات الصحية والعلاجية التي تعاني من نقص من كل
شئ و أصبحت “المستشفيات” في حالة مابين الإغلاق والاستمرار وعدم القدرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه
المرضى والمصابين،  هكذا  أصبح الحال  كل طرف يعطي لنفسه الحق  في أن يشل جزء من حياة المواطنين
الطبيعية دون أي اعتبار أو تقدير أو احترام للمسائل والاعتبارات الإنسانية و الدينية والوطنية ولهذا السبب
نجد الشعب السوري   بكامله يدفع ثمنا أكبر بكثير من ما تحققه مفاخرات ومغامرات ومقامرات هذه الأطراف
المتصارعة على أرض الوطن فلم ولن تحقق شئ للسوريين لا كيفا ولا كما بل المزيد من الآلام والمعاناة
والتخلف.
على المستوى الخارجي: لقد خسرت الثورة سمعتها الدولية بصورة أكثر مما كانت عليه ، ولغة التكافل
والشجاعة والتضحية التي سادت اثناء الثورة وكانت محل فخر واعتزاز من القاصي والداني في كل أنحاء
العالم في محاربة وإسقاط  الدكتاتورية، تلاشت وانتهت بعد أن واجه الثوار بعضهم البعض في صراعات
مسلحة  ظاهرها “المصلحة” وباطنها الأطماع السلطوية والثروة  تحت مختلف اكاذيب الشعارات السياسية
والدينية، فقد شعرت كثيرا من الدول بأن الأسد لم يكن وحده المشكلة بل هي أعمق وأشد من ذلك، لأن
السوريين عجزوا عن التفاهم المجتمعي وليسوا مؤهلين للممارسة الديمقراطية ولا يقدّرون معنى الحرية وما
تتطلبه وما يترتب عنها من مسؤوليات، ولا يفهمون مبدأ التعايش السلمي فيما بينهم، بل أصبحوا يعيشون
تحت رحمة التقلبات الشديدة  للأطراف المتصارعة التي تقترب يوم بعد يوم بسلوكهم نحو البدائية والتطرف.
الثورة اليوم في نظر العالم الخارجي أصبحت بؤرة خطر ليس فقط على واقعها الداخلي بل أيضا على جيرانها
ومحيطها الجغرافي العربى و الإقليمي وحتى الدولي، المليارات من الأموال أهدرت ،فلم يشيد فيها شئ ذو
قيمة، بل العكس صار الهدم والدمار سمة الحياة اليومية، مما يعزز فقدان الثقة في قدرة هذه الثورة على
القيام بأعبائها.
لا اعرف كيف سمحنا  بأن ندمر أنفسنا من الداخل بهذا الشكل؟ بدون شك أن هناك خلل عميق فينا يتوجب
تحليله وكشفه  كيف وصلنا إلى هذه الدرجة من العجز والهوان والتخلف؟.. إذ يبدو أن العوامل  التي أدت إلى
عجزنا في الماضي هي نفسها التي تكبل عقولنا، وتحرمنا اليوم من البحث عن سبل التفاهم والحوار، لأن
الآفات الماضية مازالت قائمة إلى الآن في عقولنا وسلوكنا، بل إننا لم نستطيع أن نحكّم عقولنا ونتدبر أمورنا
في خلق تفاهم مجتمعي وأساليب وآليات عقلانية نغذيها ونحميها ونطورها.
ومعذرة ليس كل شئ هو من فعل المؤامرات الخارجية كما يحلو للبعض تبسيط قراءة المشهد المأزوم للتهرب
من قول الحقيقة و الاقرار بالفجوة العميقة والواسعة بين المكونات الثورية جميعها، فهي وحدها أولا التي
تتحمل المسؤولية فيما حدث ويحدث لأنها براكين تنفجر من أمامنا في كل وقت وفي كل مكان وزمان بسبب
تراكمات عجزنا عن معالجتها بالكيفية الافضل والأصلح.
ليس عندي من جواب وأنا حائر مثلكم لما يحدث ، بالطبع ليس لأن السوريين  قوم متخلفون، وليست لأن
الجينات التي يحملونها هي السبب.
لقد سبق لهم في أعقاب الاستقلال أن شيدوا وطنا ولكنهم لم يستطيعوا أن يحافظوا عليه وهناك شعوب وأمم
كثيرة عانت مثلنا من التمزق وفوضى ما بعد الثورات ولكنها نجحت في استعادة سيادتها ووحدتها وتقدمت
بشكل حثيث نحو بناء نفسها.   
إن مسؤوليتنا التي تناط بنا أن نتبع الحق ونصلح ولا نقصي وأن نرغم انفسنا على التحاور سلميا وليس بلغة
السلاح والقتل والتدمير ,وأن نتحلى بالمسئولية تجاه مستقبل مجتمعنا ككل، فهذه مسؤولية تاريخية تقع على
عاتقنا جميعا، فلن يعذرنا الزمن ولا الاجيال القادمة بأننا وقفنا بدون حراك عقلاني، فإما أن نترك مجتمعنا
ينحل ويتفكك ويصبح لقمة سائغة، أو نعمل على أن ننتشله مما هو فيه ونكون بدأنا خطوة على الطريق
الصحيح.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.