[ بقلم: د. جمال الشوفي ]
بياع القهوة يبيع البن بالغلوة، أي مقدار غلوة ركوة قهوة ب 500 ل س! وبياع الخبز يبيع بالرغيف فالرغيف ب 100 ل س، والربطة ب 500 ل س! هنا دمشق!
هنا في تلك الحارات التي حفرت تفاصيل جسدها شبراً شبراً فينا وعلمت في ذاكرتنا، نعانق التواءات خصرها الراقص على ضوء قناديلها التي تتدلى حباً، تمطر زيتها، وربما عنبها المقطر، لغة وعشقا؛ وعند كل من بواباتها تأسرك في وضوحها، في صدقها وانفتاحها المجنون على الحب على العشق من جيرون لباب الجابي والسريجة، من باب توما لباب شرقي لباب مصلى؛ وكل بوابة منها تطل على تاريخ مضى وعمق حضارة مرت.
بعدد سنين جرفت كل الحنين، وانتصارات وهزائم رسمت معنى للوجود، مررت بتلك الطريق القديم، فأخذتني رائحة فوضى الياسمين واستباحت كل مشاعر الفرح والحزن معاً، ومشيت ثم مشيت ولم تقوى عيناي على احتواء كل تقاسيم اللحظة، فتنفست عشقاً لم يهدأ يوماً.
في دمشق، في شامنا، حيث تبدلت الوجوه، من ابتسامة ابو عبدو الفوال وصوت أبو محمد “الخضرجي” ينادي خياره وبندورته مدللا “أصابيع الببو يا خيار”، خدود الأمورة يا بندورة”، وقاسيون يحتضن امتدادها العريض لعين الفيجة، من ذكريات الهامة المعطاء، من خشب الصندل في داريا، ولخشب داريا ريح لا تشبهها ريح. من مدرج جامعة دمشق في اسبوعه الفلسفي وصادق العظم والبرقاوي والجباعي والعوا والكثير غيرهم، من ربيع دمشق وانفتاحات عصر المدنية الأولىفي زمن الاستبداد؛ تلك الحلاجيات الدائرة في ارتقاءها، اليوم تبدلت وجوها كئيبة لا حياة بها ولا ماء، العبوس والوجوم يطالعك في كل ركن فيها، والمارون، كل المارين يحتالون على الف حاجز وحاجز للحياة والتفييش والرشوة تذكرة عبور ملزمة!
من تآلف فسيفساءها المتنوع في زحمة سوق الحميدية والجامع الأموي، من تناغم كنائسها ومساجدها، الى لطمية المظلوميات وتعدد الرايات وما ساقته من خراب ودمار في حاراتها، هي القلوب السوداء قد عبرت من ثنايا غفلتنا وباتت واقعاً كريهاً تملئه لغة الحقد والدماء …
“يا عمو طعميني” طالعني طفل عاري القدمين كما عري سياسة “الشرعيات” الزائفة!
حين تقف أمام حقيقة تقرأها لن يكون لك حق الدهشة والذهول أبداً، ولن تزم شفتاك مثولاً أبداً، هو الموت والجفاف المعلن… هنا دمشق!
قبل ما يزيد عن ثلاثة عقود كنت أعمل أثناء دراستي الجامعية في فندق دمشقي عريق، كنت أشعر بالهزيمة المرة في كل يوم ادخل بها الفندق، وأخرج منه كئيباً، لكن ورغم اهانته المحتقرة كنت أصبر على قوت يومي علني انهي دراستي، بل محنتي، هذه. واليوم، ولأن للعشق وتر في تاريخ دمشق لا ينقطع، عدت له زائراً؛ وأنا على يقين من ان كل ما في دمشق قد تغير؛ كنت أظن أني انتصرت لنفسي حين عكست مسار التاريخ، وللحظة ظننت أن دمشق مثلي، حتى طالعتني، عينا ذاك الطفل تناديني يا “عمو طعميني”!
هنا دمشق، حيث كانت ماري وآرام وفينيقيا، وقد عرفت النقش على حجر، فمنذ فجر الآدمية عنونت المعنى وصاغت الكلمة وترابط الجملة وتنظيم المدينة، وكانت هنا الموسيقا كما المدنية والمهنية الأولى، منذ الأف الثالثة قبل الميلاد ولدت بواكير المدنية والمدينة في جوف تاريخنا الذي ننسى اليوم، والذي نسعى إليه اليوم في شبهة مقولة الدولة المدنية المخاتلة والتأولية! في ذات المدينة تطالعك حقيقة اطفالنا بجوعهم وقسوة معاشهم، ف 5 ملايين منهم بلا تعليم، وما يزيد عن مليون يتيم منهم وعشرات الألاف من قضوا موتاً تحت الأنقاض، ونصف دمشق قد هجرت ونزحت… هنا دمشق!
سألت: يا بني ألا تخشى ظلمة الطريق وانت تنام هنا؟
نظر الي ساخراً واطلق ضحكة مدوية، ههههه، “لئن كان في بسط من الأرض مَضْجَعٌ فبعضي على بسط من الأرض في قبضي” ألم ينشدها الحلاج يوماً، فهذا الطريق يحتويني بأمان أقدامه التي حفرت على أزقته قصة جوعنا وتشردنا، أما انتم ففنادقكم هي التي تتآمر علينا وعلى جوعنا وعلى موتنا كل يوم ….
فمن منا الخائف؟
قلت: وهل تعرف لماذا أتيت للفندق؟ قال: يقول أحمد زويل، العالم المصري الراحل منذ أب 2016: ” الغرب ليسوا عباقرة ونحن اغبياء، هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل”.
وكيف لك أن تعلم هذا، قلت؟
تعلقت عيناه على صهيل نجمة تسابق ضوؤها في السقوط، “أنظر انه شهب يتساقط، لا تخف هي ليست قنابل”، فأنا من كبر قبل أوانه، من رأي موته مرات، من قتل اخيه وبترت قدما أمه، وانتحب أبيه عجزاً، أنا شقيق حمزة وعمران إيلان وصديق باسل، ذو التصنيف العالمي في عالم البرمجيات والخوارزميات، ربما كنت ابنه وأمتلك جيناته، ربما كنت يوماً زويل آخر، ستذكرني يوماَ كما يذكر العالم زويل وغيرهم!
أتعلم إن هذا الرصيف حنون أكثر منكم، من سياستكم، من عهر ثاراتكم، دعني وحلمي وجوعي…. وغطى كومة جسده الغض بقطعة كرتون ودار ظهره لي، كما حنظلة يوماً، وكدت أظنه قد غفى، لولا أنين النحيب في صدره وصدري وعويل بكاء يجتاحني… هنا دمشق…
قلت: يا بني أنت لا تعلم، نحن لا نحارب الناجح ليفشل فقط، نحن نقتل الأذكياء ونسجن أصحاب الرأي والفكر، ونعلن المصالحات والهدن مع المتطرفين! نحن نجوعكم حتى تفترشون الرصيف، حتى لا يمكنكم التفكير، لا يمكنكم الحلم، لا يمكنكم سوى اجتراح معجزة الجري طوال اليوم، كما يجري معظم سياسينا وراء شهوة سلطة كما شهوة طعام!
هل تعلم أني كنت أظن أني انتصرت لنفسي بعد عقود، لكن حين التقيتك، أدركت هزيمتي، أدركت خيبتي، أدركت أني لست الوحيد في هذا الزمن المتكرر من الشقاء، من العنف، من القتل العمد، من نعقات غراب قايين حين يدل على نبش قبر بسعة مدينة لهابيل.
ذات يوم أمر أبو العباس براياته السود، أن تتحول ساحة المسجد الأموي لإسطبل للخيل، واستباحت دمشق لأسبوع كامل، ولم يكتفي بأمر قتل رجال بني أمية بل بنبش قبورهم وحرقها، ولولا أن هرب عبد الرحمن الداخل لما بقي منهم أثراً ولما كانت الأندلس يوماً عربية الهوى مثلي… وصوت نحيبك يا طفلي يوقظ كل هذا ويرميني خارج بواباتها التسعة، فربما كنت يوماً لا أطلب طعاما ولا أرتضي ذلاً، لكني اليوم، أطلب عفوك عنا، فبين حفنة النور واتساع الظلمة ثمة فرجة قد تأتينا من قلبكم الدافئ ورصيف أزقتها الحنون…
كانت الشمس تصحو على خجل مرة أخرى ويوم آخر نطويه في درب هزيمتنا، ومأساتنا الفجيعة…. وبائع القهوة يردد الغلوة ب 500 … هنا دمشق!
إقرأ أيضا : صراع بلا أفق للحلول
ملاحظة : يسمح بالإقتباس مع وضع رابط المصدر
تحديد دقيق للواقع المؤلم الذي تعانيه الثورة . وتحديد منهاج وطريق للخلاص من الوضع المخزي الذي نعيشه.
تشكر د جمال على هذا الجهد الواضح