هل تراجع موسكو سياستها في سورية ؟

[ بقلم : د. رياض نعسان آغا ]

لم تقطع موسكو علاقتها بالمعارضة السورية ، ولكنها أرادت معارضة شكلية تحرص على بقاء النظام في سورية مع تعديلات شكلية ، وعلى الرغم من أنها دعمت القانون الأممي 2254 ولم تعترض من قبل على بيان جنيف 2012 إلا أنها لم تسمح بالتقدم ولو خطوة واحدة نحو تنفيذ القانون ، بل إن منصة موسكو عبرت بوضوح عن كون بيان جنيف والقرار 2254 صارا قديمين ( مع أنها عادت لاعتبارهما مؤخراً ) ثم اختصرت روسيا الحل السياسي إلى ( دستور وانتخابات ) وهذا ما توافق عليه بوتين وترامب ، وجاءت مخرجات سوتشي لتحل مكان كل قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالقضية السورية ، وقد غرقت روسيا في دماء الشعب السوري بذريعة مكافحة الإرهاب ، وفشلت كل مساعيها للمصالحات التي كانت قسرية ، ولم تنفذ عهودها ووعودها لمن قبلوا المصالحات ، و لم تف بتعهدها بخفض التصعيد فطائراتها استمرت في القصف في مناطق إدلب ، ودعمت تقدم قوات النظام رغم حرجها أمام الاتفاق التركي الروسي ، وهي حريصة على بقاء الصداقة الراهنة بينها وبين تركيا حفاظاً على المصالح الاقتصادية والسياسية ، لكن ما يرشح في التقلبات السياسية يكاد يوحي بأن روسيا قد تقوم بمراجعة لسياستها نحو سورية ، عبر رسائل يمكن أن نتوقف عندها بتفهم لدوافعها ، مع احتمال أن تكون مجرد همسة عالية الصوت في أذن النظام .

ويدفعني إلى هذا الظن مقال مهم كتبه السيد رامي الشاعر في صحيفة ( زافترا ) تحت عنوان ( هل هناك من يراهن على دور أمريكي في دمشق؟) وقد جاء في المقال ما يوحي ببدء هذه المراجعة الروسية ، باعتبار أن السيد رامي الشاعر مقرب من الخارجية الروسية ، و أقول ( يوحي ولايؤكد ) لاحتمال أن يكون المقال مجرد وجهة نظر ، وهذا احتمال ضعيف .

لكن ما جاء في المقال يمثل تياراً في روسيا ، ينتقد آليات التدخل الروسي في سورية ، ويأتي مباشراً مع ما تشهده روسيا من انتفاضة شعبية معارضة راهنة ، بل إن الهمس الروسي البرلماني يطرح على القيادة سؤالاً هاماً ( إلى متى يستمر النزيف ؟ وإلى متى نستمر في دفع عجلة منهارة ؟ ولماذا نتحمل أخلاقياً مسؤولية الدماء الغزيرة التي أرقناها في سورية ومسؤولية تهديم المدن وتشريد الملايين دون رؤية أفق للنهاية ؟ وإلى متى سنبقى نقدم الدعم المادي لنظام نعرف أنه فاسد ؟) .

ويبدأ رامي الشاعر بتذكير النظام بنصائحه التي قدمها له في العام 2015 حين حض على أن يتخذ النظام خطوات عملية تفسح للمعارضة مشاركة في المشهد السياسي ، والبدء بحملة توعية توجه لكل فئات الشعب للتأكيد على ضرورة البدء بعملية انتقال سياسي سلمي ، ثم يعلن الكاتب أنه لم يعد خفياً على أحد أن القيادة في دمشق تتعمد الالتفاف على إرادة المجتمع الدولي وتعرقل سير عمل اللجنة الدستورية وتماطل لكسب الوقت ، ويحذر الكاتب من خطر سقوط المزيد من الشهداء ، ويتساءل ( ما الحاجة إلى المزيد منهم ؟ وما الحاجة إلى وطن دون مواطنين ؟) .
وبصراحة يعلن الكاتب رأيه بكون النظام يصدر تعلمياته لوفوده بعدم الاستجابة لأية مبادرات ، ويؤكد حقيقة ( أن دمشق لاتتجاوب مع جهود موسكو وجهود الأمم المتحدة للبدء بتنفيذ القرار 2254 أو مخرجات سوتشي ، وأن النظام يرى روسيا مضطرة للاستمرار في دعمه ، كيلا تهدر كل ما قدمته ، ويرى الكاتب أن دمشق تراهن على دعم أمريكي في عهد بايدن .. وأنها تتجاهل كون ملايين السوريين باتوا يرون أن الأمريكان والأتراك حلفاء لهم ..

ويخلص السيد رامي إلى نصيحة (غير عملية في رأيي ) وهي أن يدفع النظام الحوار السوري في جنيف ويفعل عمل اللجنة الدستورية وأن يقتنع بأن الحل هو في الانتقال السياسي ..ويختم مقاله بقوله لقد انتهى زمن الألاعيب السياسية والتحايل والمماطلة كسباً للوقت ، وانتهى وقت نصائح الأصدقاء ..

ومع قناعتي بكون السيد رامي وهو الخبير لن يغامر بطرح كل هذه الآراء لو أن لديه شكاً في كونها تزعج القيادة الروسية ، بل إنني مقتنع بأنه يعبر عن رؤية غير معلنة لمراجعة روسية ، وربما يكون مكلفاً بتقديم هذه الرسالة غير الرسمية للقيادة السورية ، وبعيداً عن كونها تعبرعن رأي الكاتب أو عن كونها رسالة تسريب موقف ، فإن ما جاء فيها جدير بالاهتمام ، ولست أستبعد أن تقوم روسيا بهذه المراجعة وسط ما تواجهه من عواصف داخلية ، فضلاً عن ترقبها لموقف الولايات المتحدة في عهد بايدن ، أتراه سيتابع سياسة أوباما في تفويض روسيا بالملف السوري ودعم إيران أم أنه سيعيد للولايات المتحدة حضورها الأقوى في الشرق الأوسط وقضاياه وتمتين علاقاته مع الحلفاء ؟ ولئن كنت أخالف رؤية السيد رامي للحل عبر دفع الحوار في جنيف و تفعيل عمل اللجنة الدستورية فإنني أوافق على قوله ( الحل هو في الانتقال السياسي ) وأدرك أن الكاتب لايملك أن يعلن نهاية اللجنة الدستورية وكونها ولدت ميتة ، رغم إعلانه تعليمات النظام بتعطيل عملها ، وبالمماطلة والالتفاف ، وأعتقد أن النظام ما يزال مصمماً على متابعة الحل العسكري ، لكن روسيا هي التي تمنع ذلك الآن حرصاً على علاقتها مع تركيا ، والخطر الكبير أن يبقى الوضع السوري الحالي مستمراً ، وأن يترك للزمن ، مع حالة تقاسم النفوذ الراهنة ، ومع بقاء السوريين في حالة تشرد وفقر وضياع فضلاً عن الوباء ، مما يجعل سورية لعقود قادمة مهملة منسية ، ما لم يبادر المجتمع الدولي بجدية لفرض الحل الوحيد الممكن وهو تشكيل هيئة حكم انتقالي غير طائفية تؤول إليها كل الصلاحيات ، وهي التي تشكل حكومة جديدة وتدعو لانتخابات برلمانية ورئاسية في دولة ديموقراطية يشارك كل السوريين في إعمارها .

إقرأ أيضا : هنا دمشق…

ملاحظة : يسمح بالإقتباس مع وضع رابط المصدر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.