[ بقلم د. جمال الشوفي ]
قال الراوي يا سادة يا كرام: كان يا مكان في قديم الزمان وفي سالف العصر والأوان، كانت الأمة عقل تعاقد على الجامع بين الاختلافات في شؤون البشر، فكانت الأمة دولة.. والعقل يقول ليس كل ما تراه العين هو الحقيقة وحسب، وإلا فإن كل شخص لا أراه غير موجود! وكان هناك من يقول نعم هو غير موجود بالنسبة لي لأنني لا أراه ولا أريد رؤيته! وكأن الذئب لن يأكل الغنم اذا كان الراعي يغط في نومه ولا يراه، وعلى الغنم ألا تقر بوجود الذئب المتربص بها، إذا فليأكل الذئب ما يشاء لأنه غير موجود.. ويستمر الجدل إلى ما نهاية بينما يكون الذئب متخماً مرتاحاً لفعلته..
في الواقع السوري اليوم، ثمة فرضيات وجدل متعدد، يحمل كل فريق منها نقاط دعائمها لجعلها نظرية لا تقبل الشك أو النقد ولا ياتيها الباطل لا من فوق ولا من تحت، حتى لدرجة قطيعة خلافها، وليس فقط بل يحمّل كل طرف منها وزر الآخر في مآلات الحدث السوري المرير، وأبرزها ثلاث:
- الأولى تلك التي تقول أن زلزال ال 2011 لم يكن وطنياً، بل اسلامياً بعمقه، وكانت الأسلمة السكين الذي أجهز على الثورة ببعدها الوطني، وحاملي هذه الفرضية الكثير من قوى “اليسار” و”القومية” معارضة وموالاة تحت عنوان “العلمنة” العريض وضد “الأسلمة”.
- بينما كانت ولا زالت ادوات السلطة تعمل في الفرضية الثانية على أنها مؤامرة كونية على سوريا المقاومة والممانعة، مستثمرة في كل أطياف الانتفاع السياسي والمالي والطائفي في محاربة الإرهاب وأشباهه، حتى استحال الوطن اليوم، لمجرد “خربة” تتقاسمها الدول الخارجية وتحكمها قوى السطو والسلب وأباطرة الحرب وتجارها، والمواطن لا يجد ما يسد به رمقه من خبز أو مازوت او كهرباء…. لا يهم، المهم أن تسقط المؤامرة الكونية!
- بينما تذهب الثالثة على أنها حرب أهلية بين مكونات الشعب السوري ذاته في حمى تنازعهم على كسب السلطة فيها وهذه لازالت تتردد في أوساط المجتمع الدولي لليوم.
والملفت للنظر أن تجتمع الفرضيات الثلاث على تحميل الاسلام والاسلام السياسي منه شر البلية فيما آلت اليه المسألة السورية! وليس دفاعاً عن الاسلام أو اصطفافاً مع هذا الخط أو ضده في المبدأ، فما أرادته الثورة السورية، في واقع مستبد كلياً سياسياً وأمنياً وعسكرياً، هو التغيير الوطني الذي يفضي إلى دولة عصرية تتمتع بكل مواصفات الدول المتقدمة مادياً ومعنوياً، فأين نحن منه اليوم؟
إن نقد الدين بمضامينه الأيديولوجية والذهنية واجب فكري دفع ثمنه الكثير من حامليه في تاريخ هذه الأمة قريبه وبعيده وهذا حق، لكن اليوم وبحكم متغيرات الواقع المرصود لا يمكن لنا جعله شماعة أخطائنا كبيرها وصغيرها. فالقول الحق في أن تغيير مسار المسألة الوطنية السورية، وبالتالي مضامينها وحواملها السياسية والاجتماعية، من شعارات الوحدة والتغيير الوطني إلى شعارات الدولة الاسلامية وشريعة ودستور “أهل السنة” كما يرغب البعض في ترديده، في مقابل “آل البيت” كان صورة من صور عدة لتداخلات المسألة السورية ومساراتها. وهذا ما يجب تدقيقه عينياً من تحول مسارات الحراك السلمي المدني السوري في ثورة أو حراك أو أزمة كما يحلو لكلٍ أن يسميها، إلى مرحلة صراع عنفي ودموي ومتداخل محلياً واقليمياً ودولياً هو ما يجب وضعه في سياق المسؤولية التاريخية والتدقيق في اللحظة الراهنة ومآلات المستقبل الممكنة. وما اذكاء النزعة المتطرفة الدينية كانت ممنهجة في تكتيكها سوى للاستثمار في وجدان ومظالم بسطاء الناس من كل الأطراف في حرب الكل ضد الكل، بغية كسب أصوات الشارع السوري للوصول للسلطة.
قلما يذهب الفكر النظري والنقدي إلى رؤية واقعية مقاربة للمبررات الفعلية في تورم المظلومية الإسلامية وجعلها بادئة عفوية عند أصحابها: فالاعتقال الجماعي والقتل المباشر وكل سبل إراقة الدماء وهدرها والحصار الحياتي والتهجير الممنهج ، كانت عوامل سيكولوجية عميقة تضرب في عمق الوجود الديني وحوامله الشعبية؛ ويمكن لإحداها فقط، اذا ما تعرض له يساريو هذا البلد أو قوميوه أو حتى علمانيو العالم وقادته السياسيين الليبراليين أن يتحولوا لا إلى متطرفين وفقط، بل لكل أشكال العنف المتطرف المضاد. وحقيقة الأمر كان العنف الممنهج هو الأداة المحرضة على كل نزعات العنف المضاد. وقد يقول قائل هذا تبرير! وأؤكد خلف ثمة فارق بين التبرير والبحث في الأسباب ومقارنة نتائج اليوم!
إن مسار التحول من مضامين و محاميل المشروع الوطني كانت سيفاً ذو حدين، فمن جانب استطاع المجتمع الأهلي، ما قبل المدني، الاستقواء بإيمانه الديني كآخر خط دفاع وجودي للاستمرار في تحمل كل آلة البطش والقتل اليومي، هذا مع عجز فاضح في حوامل المشروع الوطني عن التحقق وصمت القوى العالمية عن إيجاد رادع فعلي لها أو حل جذري فيها. خط الدفاع هذا هو ما جعل المسألة السورية تستمر لأعوام فاقت عدد أعوام الحرب العالمية الثانية، بل كانت كثافتها مضاعفة عشرات المرات حين تركزت في مدن صغيرة تجتاحها كل صنوف الأسلحة. وفي الجانب الآخر كان هذا التحول هو من استجلب المناصرين غير السوريين واتُخذ حجة لاستجلاب التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية، ليتحول الملف السوري لملف حرب أهلية ناسخاً المسألة الوطنية منها وأحقية التغيير الوطني السياسي ورفع المظالم الحقة عن ناسها، وتصبح الحرب على الإرهاب والتطرف الديني هو عنوان التحالف الدولي الوحيد ومهماز سباق روسيا وحلف الناتو لتقاسم ما بقي من هذا البلد الكليم.
خلل البوصلة السياسية في قراءة تحولات المسألة السورية من التغيير الوطني، إلى أدلوجتي المقاومة والممانعة والحرب على الإرهاب في مقابل التطرف السني وثورة الاخوان وفقط، كان السكين الذي أغمد في طياتها يدمي كل السوريين لليوم، حيث تحولت النزعات السياسية والحزبية الضيقة لمقولة فوق مقولة الوطن، مارسها الإسلام السياسي كما مارستها الأيديولوجيات المتعلمنة المترهلة، فبات توصيف المسألة السورية، عن دراية ومكر مرة، وعن انفعال وطيب نية مرات، مسألة وجود طرف وفناء الآخر، وبالنتيجة اختلال العقل والاستراتيجية وتشتت العقد الوطني أمام نزعة التوصيف المتعالية التي لا تجدي نفعاً سوى استمرار مقتلة السوريين.
توهان البوصلة السورية وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، لم يزل مشتت الجهود التي تحاول لمّها في عقد سوري واحد، هو الوطنية السورية الذبيحة على سدنة الاستبداد أولاً وتغول القوى العالمية في أطماعها لتقاسم تركة المنطقة اقتصادياً وسياسياً وتعميق الهوة البينية في الموروث العقائدي وجعله طفو الحالة السورية ثالثاً. فكان الخلاف الأيديولوجي عاملاً رئيساً قابلاً للتوظيف في خدمة هذه الأجندات الدولية، وكل منها يبحث عن سند خارجي له، سواء ادعى المعارضة أو الموالاة وشبهتهما، فكانت موقعة الأستانة والقاهرة وموسكو والرياض و سوتشي وجنيف مؤتمر يتلوه مؤتمر.. وسيل من كيل التهم المتبادلة سبيل لانحراف البوصلة والغرق في تفصيلات التفصيلات، في ثورة لا تشبه أي من هذه الأحزاب ولا مشاريعها ضيقة الأفق، بينما كان المواطن السوري لليوم هو أداة صراعها وضحيتها الكبرى بكل الأشكال والأصناف، ولسان حال الإعرابي يردد أخشى أن “الصيفَ ضيعتِ اللبن”، فهل لا زالنا لا نرى الذئب لليوم؟؟
إقرأ أيضا: أيها السوريون: لا تفرحوا بوجود أي أجنبي في سوريا
ملاحظة
يسمح بالإقتباس مع وضع رابط المصدر