ثورة القيم الكبرى

[ بقلم د : رياض نعسان آغا ]

حين نادى الشباب في الوطن العربي بشعارات الحرية والعدالة والكرامة ، وبإنهاء الفساد الذي استشرى حتى بات عبئاً على الأنظمة التي نجم عنها وكان سبب ما تعرضت له من أحداث تراجيدية، ظهر بوضوح أن المضمون الأعمق لثورات الشباب العرب هو أخلاقي بامتياز ، يبحث عن القيم الكبرى التي افتقدتها الأمة قروناً في حياتها العملية ، لكنها لم تغب يوماً عن وجدان الناس .
وحالة التماهي بين القيم الإنسانية الكبرى مثل ( الحرية والعدالة ، والمساواة ، وكل ما تعنيه حقوق الإنسان ) وبين قيم الإسلام التي نهضت بها الأمة في القرن السابع الميلادي ، هي ما يجعل بعض المراقبين يظنون أن هذه الثورات ذات طابع ديني ، مع أن طابعها الحقيقي مدني وشعبي ، تشارك فيه كل أطياف المجتمعات العربية بمختلف أعراقها وأديانها واتجاهاتها الفكرية والثقافية ، وهي تلتقي على هذه القيم الأخلاقية .

ولئن بدت كلمة الديموقراطية جديدة على الثقافة العربية التقليدية فإن جوهر مفهومها لا يتعارض في شيء مع القيم الإسلامية التي جعلت الحكم شورى بين الناس ، وتركت لهم شئون دنياهم .

كما أن ظهور مفهوم العلمانية التي ما تزال تبدو إشكالية في مضامينها لكونها مستوردة من التجارب الأوربية المسيحية لا يتناقض في شيء مع القيم الأخلاقية التي تدعو إليها الثورات ، فمطلب العلمانية هو الفصل بين الدين والسلطة ، وهذا لا يعني على الإطلاق فصلاً بين الحكم وبين الأخلاق .

وما يدعوني إلى الحديث عن القيم الأخلاقية للربيع العربي هو اختلاط الفهم لدى بعض المتابعين الذين يريدون توصيف هذه الثورات عامة توصيفاً دينياً ، وبعضهم يقول إنها ثورات الغالبية السنية في الوطن العربي متجاهلاً حضور كل المكونات الاجتماعية فيها ، ومتجاهلاً كون كثير من معارضي هذه الثورات ينتمون إلى ذات المكونات ، وهذا ما ينفي التوصيف الطائفي أو المذهبي ، ويبدو غريباً أن يشعر بعض مثقفي العرب والمسلمين بالخوف والقلق من حضور الثقافة الإسلامية وقيمها في جوهر ثورات الربيع العربي ، وأنا أفهم أن يشعر بعض الغرب اليميني المتشدد بالقلق من عودة قيم الإسلام إلى الساحة العالمية فهو أسير تاريخ من الصراعات القديمة ولاسيما تلك التي شهدت فيها القارة الأوربية حروباً بينها وبين الدولة العثمانية التي امتد نفوذها إلى دول شتى في أوربا ، وربما استعاد بعض الأوربيين ذكريات فتح القسطنطينية أو الأندلس ، وأفهم أن يشعر متطرفو الصهيونية بخطر نمو الإسلام وتصاعد حضوره لأنه يفرض على المسلمين أن يقاوموا الظلم والاحتلال ، لكن المدهش أن نجد بعض العرب المسلمين يشعرون بذات القلق والتخوف ، وهم يعلمون أن الإسلام ليس طارئاً على الأمة ، فهو المكون الأساسي لوجدانها وقيمها ، وسيخفق كل من يظن أن بإمكانه أن يجعل الإسلام مجرد تراث من الماضي وأن يحيله إلى التاريخ وينفيه من المستقبل فهو دين حي في نفوس المسلمين كما كل الأديان التي ما زالت حية في نفوس معتنقيها ، وكل المحاولات التي قامت بها دول ومنظمات ومراكز ومدارس وتنظيمات لإقصاء الدين عن الحياة باءت بالفشل .
وقد أجد العذر لمن يخشون تأثير الدعوات التي تريد إعادة التاريخ العربي إلى الخلف دون رؤية المستقبل ، و التي تتمسك بالقشور من الإسلام وقد أسرفت فيها فتاوى الفضائيات مثلما غرق بعضها في الجدل المذهبي بلغة عصابية تستعيد الصراعات التاريخية كأنها حدثت البارحة ، كما أجد العذر كذلك لمن يخشون من الدعوات التي ترفض البنية المدنية للدولة وهم يظنون أن الخلافة (مثلاً ) شرط من شروط الدولة في الإسلام ، مع أن الإسلام لم يحدد شكلاً للحكم ، وإنما حدد المضامين والأهداف التي باتت قيماً كبرى لا يختلف عليها أحد مثل العدل والمساواة ، والتكافل الاجتماعي ، وضمان استقلال القضاء ، والحرص على حرية العقائد والتعبير عنها ، فضلاً عن القيم السلوكية مثل الصدق والأمانة والإخلاص والإتقان في العمل ، وتحمل المسئولية الخاصة والعامة ، وما يماثل ذلك من قيم نجدها اليوم مضمون وعنوان كثير من شعارات الربيع العربي التي ضاقت بالفساد ، وهي لا تجد مخرجاً منه إلا باستعادة مكانة القيم ، وقد أدركت الشعوب خطر ضياع البوصلة الأخلاقية في حياتها ، حيث يعبر الشباب في ككل حين عن حرصهم على الوحدة الوطنية ، وعلى العمل الجماعي ، وعلى السمو فوق كل ما كان يهدد هذه الوحدة من دعوات الطائفية والمذهبية.

وأما الخطر الذي واجهه الربيع العربي كما يسميه بعض المحللين والمراقبين فهو ( اختطاف الثورات ) وهو ليس الاختطاف السياسي وحده ، ولكنه الاختطاف الأخلاقي عبر حالات الانفلات من كل القيم ، وقد ظهرت معالم فساد جديد جاء نتاج غياب السلطة القانونية العادلة.

إن كل مبررات نهوض الربيع العربي من مظاهر الاستبداد والظلم والفساد وانتشار الرشوة والإهمال الوظيفي وإعلاء المصالح الخاصة فوق العامة واستغلال السلطة ونهب الثروات الوطنية وما يماثل ذلك مما قد نجد له توصيفات سياسية ، هو في النهاية انهيار أخلاقي شامل لم تستطع الأنظمة أن توقفه بعد أن تمكن منها ، وكان لابد للأمة من أن تثور عليه ، والمفارقة أن الأنظمة الشمولية الاستبدادية لم تفد من الدرس شيئاً ، كذلك لم تستفد كثير من القيادات التي سمت نفسها ثورية وتصدرت ساحات الثورات أو المعارضة ، حين سقطت في الامتحان الأخلاقي .

إقرأ أيضا : في الفرضيات دون الوطنية

ملاحظة: يسمح بالإقتباس مع وضع رابط المصدر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.