[بقلم الدكتور أحمد برقاوي]
انتقل سكان سورية المعاصرة مع بداية تكوّن الدولة المستقلة عام 1946 من الشعب بالمفهوم الاجتماعي، إلى الشعب بالمفهوم السياسي. فالسكان الذين تكونت منهم سورية الانتداب الفرنسي كانوا أغلبية عربية مع وجود اثنيات صغيرة من الأكراد والشركس والأرمن والسريان، فضلًا عن وجود تنوع ديني مذهبي ذي أغلبية سنية مع وجود المسيحيين بمذاهبهم المتنوعة والعلويين والدروز والإسماعيليين… إلخ. هذا هو الشعب السوري بمفهومه الاجتماعي.
مع نشأة الدولة وولادة المواطنة واختيار النظام البرلماني والانتخاب ونشوء الأحزاب والنقابات، نشأ الشعب السوري، بالمعنى السياسي للكلمة، حتى الانقلابات العسكرية التي جرت قبل وحدة مصر وسورية -عام 1958- لم تستطع أن تُلغي الشعب بالمعنى السياسي.
غير أن أخطر ما واجهه الشعب السوري منذ وحدة 1958 هو التصور الجديد لمفهوم الشعب بالمعني السياسي لدى النخب الأيديولوجية القومية والدينية والشيوعية، فهذه الحركات الانقلابية حصرت مفهوم الشعب بشعب الأيديولوجيا، وما سواه خارج عن فكرة الشعب.
لست في وارد العودة إلى السرد التاريخي، حسبنا القول بأنه مع مجيء حافظ الأسد ونخبته العسكرية اكتملت سيرورة القضاء على مفهوم الشعب، السيرورة التي بدأت عام 1958، وانقطعت ما بين عامي 1961 و1963، وتابعها “الرفاق” بعد انقلاب 1963، وانتقلت سورية مع الأسد إلى حالة الْمُلْك.
والمُلك لغة ما يملكه المرء ويتصرف به، والمَلك صاحب الأمر والسلطة على جماعة، ولقد ظل الغرب قرونًا طويلة في حال السلطة – الْمُلْك قبل ن يظهر الشعب بالمعنى السياسي بفضل البرجوازية.
وبإعادة سورية من مرحلة الشعب السياسي، بوصفه مصدرًا للسلطات، إلى مرحلة الْمُلْك بدأت الكارثة السورية، ذلك؛ لأن الهاجس الذي ران على عقل الْمُلْك هو الاحتفاظ به، والاحتفاظ به مستحيل من دون إزالة واقعة الشعب السياسي، والحيلولة من دون ظهور الرغبة فيها عمليًا، فكان لا بد من تحطيم الشعب بالمعنى الاجتماعي أساس الشعب السياسي، ومنع أي شكل من أشكال الوعي بفكرة الشعب.
لكن المشكلة التي واجهتها الجماعة الحاكمة هي أن الجزء الأكبر من السوريين لديهم الوعي بأنهم شعب محروم من تعيّنه السياسي، هذا الوعي جعل السلطة الحاكمة تعيش خطرًا دائمًا على وجودها، لم تجد حلًا له إلا بأعلى درجات قمع حامل الوعي وتعقيد حياته، بربطها بضرورة الحصول على موافقات أمنية لتسيير أمرها في ظل ما يسمى بقانون الطوارئ أو بحالة الطوارئ. حالة الطوارئ تعني أمرًا واحدًا هو أن الشعب ليس مصدر القانون، وليس أساس الحق، وأن للسلطة الحق في عقوبات ومحاكم لا علاقة لها بالقضاء، بوصفه أداة إحقاق الحق، وهكذا؛ فإذا كان ظهور الشعب السياسي أحد أعظم حالات التقدم المجتمعي فإن القضاء على حالة الشعب السياسي أكبر كارثة تعرّض لها المجتمع السوري.
لكن السلطة، كما أشرنا، التي قضت على واقعية الشعب السياسي، لم تستطع أن تقضي على الوعي السياسي للمجتمع بأنه شعب بالمعنى السياسي، فكانت الثورة السورية هي التعبير الأبرز عن وعي الشعب والمظهر العملي للتناقض بين سلطة جماعة غارقة في التأخر التاريخي “بلغة ياسين الحافظ”، مع انحطاط أخلاقي وثقافي قلّ مثيله في التاريخ، ونزعة عسكرتارية، لا عقلية يقودها مبدأ “الْمُلْك عقيم” من جهة، ومجتمع مازال يحتفظ بوعيه من حيث هو شعب سياسي يملك الحق في إنتاج السلطة المعبرة عن ذاته من جهة ثانية، هو ذا جوهر القضية: إنه التناقض بين الشعب والْمُلْك.