سوريا التّضليل والتّقسيم

[بقلم د. سماح هدايا]

التّقسيم خطرٌ محدق، وقد يصبح واقعاً مفروضاً على السّوريين بفعل التّدخّلات الدّوليّة والمواقف العنصرية. نجاحُه واستمرارُه كأمرٍ واقعٍ مرهونٌ بإيمانِ الناسِ به وموافقةِ الأغلبيّة الاجتماعيّة والسياسيّة وقبولِها به كحلٍ بديل؛ وهو ما سيجرّ لعواقب وخيمةٍ بتعميقِ التّقسيمات الاجتماعيّة والسياسيّة وتمكينِ حكمِ أقليّاتٍ حزبية أو قوميّة أو دينيّة، وبالتالي سيقودُ لإخفاقٍ حادٍ في تحصيل الحقوقِ  الوطنيّة وتحقيقِ الاستقلال. فلماذا التقسيم؟

عندما خرج السوريون في ثورة  آذار 2010، لم يرتسمْ في مخيّلتهم صورة المشهد القادم؛ فقد خرجوا  من ظلمات الاستبدادِ والفساد والبؤسِ الاجتماعيّ باحثين عن نورٍ  وأملٍ  في شعاراتِ حريّةٍ وعدالةٍ وكرامة. كانوا صادقين في أحلامهم وطموحاتهم. وعلى الرّغم من أنّهم لم يكونوا أكثريّةً اجتماعيّة؛ فقد انبثقتْ  مطالبهم من  وجدان المجتمع المضطَهد. وجاء رفضُهم لبطش النظام الحاكمِ، لسانَ حال كثيرين صامتين، قبل أنْ تشتدَّ الحرب  ويتعمّقَ الصراعُ  وينقسمَ الناسُ بين مؤيّدٍ  وثائرٍ ومعارضٍ مخضرمٍ ومعارضٍ جديدٍ ورماديّ وخائفٍ، ويتحوّلَ جمهورٌ من الثورة إلى السّلاح دفاعاً عن نفسه وأهله، ويضيعَ  بعضُ مسلّحيه  ومثقفيه وشبابه السّلميين في متاهة اللعبةِ الدوليّة وصفقاتها. استمرّتْ  أصواتُ الحريّة  تصارعُ  وحدها بشجاعةٍ في الحرب المفتوحة على السّوريين تواجهُ بإمكاناتٍ ضيّقة حملاتِ التّطهير والتّغيير الديمغرافي التي قادتْها إيران  بميليشياتها المختلفةِ في إطارِ سلطةِ  النظامِ الحاكمِ والدّولِ الدّاعمةِ له.

كثيرون يلومون الثّورة، وأبسطُ سؤالٍ يُوجّه للثّائرين المتّهمين بثورتهم: ألمْ تتوقعوا  هذا المصيرَ المأساوي الذي جلبتمْ فيه للبلاد الحربَ والدّمارَ والفتنةَ والإرهابَ الدّيني والقوميّ؟ ألستمْ المسؤولين عن مأساةِ السوريين وتشريدِههم، وعن الانهيارِ الاقتصادي والتّقسيم والانقسامِ وإضعافِ  السّيادة الوطنيّة؟

الأسئلةُ المثارةُ، على أهميّتها، متحيّزةٌ للباطل في تحميلِ الشعب الذي ثارَ ضدّ القمع مسؤوليةَ الكارثةِ والحرب، متغاضيةً عن تحميلِ النّظام الطاغيةِ المسؤوليةَ الأساسيّة بتاريخٍ طويلٍ من الاضطهاد والقمعِ عاشه السّوريون تحت تسلّط هذا الحكم الاستبدادي الفاسد، وبجلبه إيران وروسيا عسكريّاً وسياسيّاً  للأرض السّوريّة لقمعِ السّوريين حفاظاً على قشرة حكمه.  فهل الخنوعُ لقمع النظام وإجرامِه وقبولُ حكمِ الفساد والاضطهاد كان سيحمي أمنَ السّوريين وسوريا وسيمنع انهيارَ المجتمع السّوريّ؟ هل تتحمّلُ الثورةُ  خطيئةً بانكشافِ كذبةِ الاستقرار العام ووهمِ سيادة النظام في أرضه، الذي هو في الحقيقة  استقواءٌ على شعبٍ بائسٍ مقهور؟  

الجوابُ جاءَ واضحاً في قرار الثورة بالخروج لطلبِ الحرية  وتحمّلِ عواقب ذلك من أجل صناعة مستقبل مشرق كريم لسوريا والسوريين كلّهم وإبطال فعل التضليل. أما اتّهام الثورة بخلق الفتنة وتكريس الانقسام، فباطل، لأنّ الانقسامَ كان عميقاً  قبل الثورة بعقود؛  لكنْ، عَمَلَ استحقاقُ الثّورةِ  الأخلاقيّ وحروبُ الإرهابِ الداخليّة(قوى النظام والوكلاء) والخارجيّة(الميليشيات الطائفيّة والقوات الأجنبيّة) على إظهاره  للعلن بوضوحٍ صارخٍ خلال عقدِ الثورة.

     ربما أضاعَ بعضُ الثوار  الغاضبين بوصلةَ الحرية عندما لم يحدّدوا، بدقّة في ضوء القمع وتحت نيران الحرب، هدفَهم وطريقَهم داخل مسارِ الثّورة، ولم يتمكّنوا من تجاوزِ مطبّات الفصائليّة والتّحاصص والتّمويل، حتى في تشكيلات التّمثيل السّياسي، لافتقارهم للاستقلال العسكري  والقيادةِ وللخبرة السياسيّة والرّؤية الوطنيّة والفكريّة الناضجة وللمال، كما أفقدَهم الهجومُ الأمنيّ والعسكريّ الميليشياتي الأمانَ والأمنَ  والثّقةَ بالآخرين؛ فاستمرّوا يعملون جماعات متفرّقة بأمرِ داعمِها. وذلك واقع  الثورات الشعبيّة التي لا قائد لها ولا حماية لها تحت نظامٍ مستبدٍ عنيف، ولايُؤخَذُ  حجّةً للتّشكيك بشرعيّة مطالبِها ووطنيّتهاـ  أمّا منْ استغلّ الثورة  لكي يحوّلَ القضيّةَ من تحريرِ سوريا  وإسقاطِ نظامِها الاستبدادي إلى  تمزيقِ سوريا التّاريخيّة ونهج الانفصال والتقسيم العنصري؛ فمشروعُهُ غيرُ وطنيٍّ لا علاقة له بالثورة،  يشبهُ مشروعَ آخرين  في حاشيةِ النظامِ بأسماءٍ معارضة.

 التّضليل

   تنجلي الصورةُ بوضوحٍ أكبر  بالنّظرة الموضوعيّةِ للتّاريخ؛  فالشّعبُ السّوري، على الرّغم من وطنيّتِه وتجاربِه البطوليّة والثقافيّة في تحرير بلادِه وبنائها، ظلَّ عالقاً في حقبةِ الاستعمار الغربيّ وإرثِ الحكم العثمانيّ. فهناك  تضليلٌ كبيرٌ  زيّفَ وعيَ الناسِ بخديعةِ الاستقلال وأوهامِ التّحرّر.  سوريا لم تعشْ مشروع نهضتها،  ولم تستقلْ فعليّاً في 17 نيسان؛ فخروجُ الفرنسيين كانَ شكليّاً،  وظلّتْ مكائدُهم الخبيثةُ ومؤسساتهم وجماعاتهم عاملةً في السّرّ والخفاء، ودخلتْ معهم على الخطّ الاستعماريّ قوى ودولٌ جديدة ومشاريع متصارعة جلبتْ الانقلابات العسكريّة ورسّختْ مؤسّسات الأقليّات. مطلبُ الحريّةِ الذي رفعتْه ثورةُ سوريا قي آذار 2011 ، ومطلبُ إسقاطِ النظام،  كانا إنذاراً بإسقاطِ المشاريع الاستعماريّة في المنطقة وتهديداً  لنفوذِ مؤسساتٍ وكياناتٍ استعماريّة قائمة؛ لذلك حُوربت الثورة وعُوقب المطالبون بالحرية ورُجموا بالفتن والحروب التي دمّرت حياة السوريين وهزّت أرضهم بزلزالٍ عنيف.

    لا شكّ  أنّ مخيّلة السّوريين الذين ثاروا أو دعموا الثّورةَ لم تستوعبْ فكرةَ  ألا ينتصروا، ولا أنْ تصيرَ سوريا عدّة سوريات، امتداداً لمشروعِ تجزئةِ سوريا الكبرى، ولا أنْ يواجهوا حربَ دولٍ عظمى باطشة وصراعات تمثيلٍ سياسيّ حادة.  كانوا على إيمانٍ بشرعيّة قضيتِّهم ونبلِها، لكنّ حساباتهم الدوليّة كانت خاطئة، وفهم المجتمع السوري ومشاكله كان سطحياً لم يسبرْ أعماق الانقسامِ وعلله وأبعاده الأيدولوجيّة والاستعماريّة.  المسؤولُ الأوّل عن الوضع المأساويّ في سوريا النظامُ  الفئويّ الذي تسلّطَ وقهرَ وفسدَ وأفسدَ، والمنظومةُ التي دعمتْ النظامَ وأسّستْ أرضيّته، والدولُ التي  شنّتْ الحروبَ وجلبتْ المليشيات الطائفيّة لقتلِ السّوريين، وعلى رأسها إيران وروسيا، والجهلُ الذي تفشّى في المجتمع  مصحوباً بالعصبيّة.

    التّضليلُ الآخرُ الذي تعرّض له السّوريون مرتبطٌ بفكرةِ العجز التي احتلّتْ تفكيرهم،  وأظهرتْ لهم  أنّ العالمَ الديمقراطيّ أو الإسلاميّ سيقفُ معهم صديقاً لمطالبهم التّحرّرية وتطلعاّتهم الوطنيّة، فتصرّفوا  على أنّ الخلاص سيأتي بمساعدة هذه الدول القويّةِ والصديقة، وتناسوا مواقفَها الاستعماريّة ومطامعَها القوميّة والطائفيّة. لاشكّ أنّ السّوريين محتاجون للمساعدة والدّعم من العالم والمؤسسات الدوليّة، ومن المحتملِ أن تكونَ المصالحُ  الدوليّة ورقةً مهمّة  بأيديهم تساعدهم ضمن الصّراعات القائمة في المنطقة العربية والإقليم وفي القرارات الدوليّة؛  لما تقودها الجهاتُ التّمثيليّة السياسيّة  بوعي ومن دون انقسام، ولا تسهّل فيها قصة الاعتماد على التدخل الأجنبي والانتصار له كحلٍّ لمواجهة جرائم النظام؛ لأنّ ذلك خطأ كبير يقود للاحتلال وتكريس التقسيم.  إنشاءُ دويلاتٍ على حساب الدولة المركزيّة، حتى وإن كان بشرعيّة الثورة أو لحمايتها، لا يجلبُ إلا الفرقة، ولا دوام له، لأنّ العقلَ التّقسّيمي والعقلَ الجمعي سيرفضانه، وقد يسقط بتغيير ميزان القوى.

     حريّةُ الشعب السوري  تأتي  بخوض معركته التحرّريّة في مسار الوحدةِ الوطنيّة  وبتوجيه السلاح  نحو  العدو ، لا بالانفصال عن سوريا  أو  الاستقواء على السوريين الأبرياء. المعركة يجب أن تتركّز  على محاربة النظام وحاشيته والميليشيات الطائفيّة والقوميّة الانفصاليّة بأعمال عسكريّة متواصلة تهدّد أمنه واستقراره ومصالحه.  ربما إنشاء الجيش الوطني الموحّد في غاية الإهميّة، لكنْ في ظروف سوريا الحالية، سيكون اشبه بحصان طروادة، تستخدمه القوى الفاعلة لمصالحها، ويجب الحذر من استخدامه للتقسيم. الفكرة الأفضل هي تنسيق الأعمال العسكريّة بقيادة ورؤية جامعة،  ولامانع أخلاقي أو وطني من التنسيق مع  قوى الجوار فيما يخصّ حماية أمن البلاد من الميليشيات  المعتدية والدخيلة  ومن مشاريع الانفصال.

    التحلّي بالشجاعة والبسالة والحماس لا يكفي؛ فقد أثبتت المعارك  في سجّلات  السنوات الماضية  قصصا وطنيّة بطولية عظيمة، لكنها لم تحقق الهدف؛  فالوعي الوطني والفهم الاستشرافي أقوى صمودا في معركة طويلة معقّدة. العمل الوطني الناجح أساسه النضج السياسيّ الذي يعزّز الرّوابطَ الوطنيّة والاجتماعيّة ويبني قيمَ المواطنة الصالحة، عوضاً عن عقليّة الأقليّة: دينيّة أو قوميّة أو حزبيّة، وذهنيّةِ الانفصالِ والاستئثار الفئوي بالسّلطة، والاستقواءِ بالخارج .

الأغلبيّة الوطنيّة

السّوريون بأطيافهم المختلفة، في الداخل والخارج مهدّدون كلّهم؛ لأنّ الحربَ لا تستهدفُ جماعةً واحدة بل سوريا  كلّها، لمنعها من القيام بدورها التاريخي.  ولا تقتصرُ على الثّوار والمعارضة، ولا على دينٍ أو قوميّة. فهل يعقل، بعد كل ذلك،  أن  تبقى الناسُ منقسمةً على الحق ومقسومةً  بهذا الشكل؟ وهل يعقلُ أنْ يستمرَّ  كلُّ فصيلٍ  ثقافي أو حقوقي أو عسكري أو عقيدي أو مناطقي محتكراً للحقيقة والحق والشرعيّة،  يهاجم خصمَهُ السّياسي بالتّخوين والتّحقير وفقدان الشرعيّة؟

الجوابُ يُمكنُ قراءتهُ  في عقليّةِ الأقلّويّة التي تمّ تمكينُها عسكريّاً وأمنيّاً وثقافيّاً لأكثر من قرنٍ،  لِتُبقي سوريا  دولةً هزيلةً وشعباً مشتتاً، بلا مرجعيّة ومن دون قوّة جامعة. والحلُّ مواجهةُ هذه العقليّة وتحطيمُها. الواقعُ يتطلّبُ حلولاً ورؤى جديدة تتخلّص من الفئويّة الحزبيّة المتصارعة ومن سطوةِ الأحزابِ التّقليديّة الفئويّة والعنصريّة ومن الانقسام، لأنّه دمارٌ  شاملٌ يهدّد  مصيرَ الأمّة. لابدّ من اجتماعٍ وطنيٍّ يعملُ فعليّاً على إسقاط النظامِ ومنعِه هو ومنظومته من الاستمرار في الحكم،  ويعملُ على محاربة الميليشيات الأجنبيّة والعميلة التي جاءتْ تقتلُ السّوريين وتحتلُّ بلادهم، وطردِهم خارجَ سوريا. 

    أساسُ المقاومةِ هو لمُّ الشّملِ والتوحّدُ في مقاومة شعبيّةٍ عامة، مقاومة عسكريّة بالجهاد الوطني المشروع ضد الطغاة، وضد الاحتلال والأعداء الدخلاء. ومقاومة سياسيّة برؤيةٍ موحّدة. ومقاومة اجتماعيّة للعصبيّة والعنصريّة والتقسيم، ومقاومة ثقافيّة لحماية العمقٍ الحضاريّ والثّقافيّ لسوريا ومناهضةِ المنظوماتِ الفكريّة  الاستبداديّة،  ومقاومة حقوقيّة  للدفاع عن العدالة للجميع  بلا استثناء.

صحيحٌ أنّ الثورةَ تسبّبُ الحروبَ لأنّها تهدم بيوتَ الخرابِ والبؤس، لكنّها  تبني البديلَ المنشود….والبديلُ يجب أنْ يكونَ وطنيّاً  عادلاً  وأخلاقيّاً يجلبُ  الكرامةَ.

إقرأ أيضاً: رسالة الى البيت العلوي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.