[بقلم الدكتور جمال الشوفي]
حيث أن الفكر السياسي بات يحار في ايجاباته، لا لقلة قدرته على التحليل، انما لكثرة المشاريع المتداولة وتعددها دون جدوى سوى التقليل من قدرة السوريين أنفسهم على إيجاد حلول لهم، وهذه مسألة مهما ناقشناها لم نصل بها لنتيجة لليوم، أضف لكثرة الألعاب الأمنية الخفية في الملف السوري وهذا خطر عام وجب التحذير منه.
لا أعلم لماذا تخطر بذهني هذه المقارنة اليوم بين مظاهرات فرنسا العام الفائت، وبين مجريات الحدث السوري، سوى أن ثمة إشارات عدة تقول بضرورة العودة لمجريات الحدث السوري في بداياته وان كانت مؤلمة ذكرياته، ولنمتلك القدرة على النكتة المحمولة ضمنا على النقد والسخرية من كل ما يجري… وهذا ما أظنه ليس أضعف الأيمان، بل أقسى ردود الفعل على شدة الألم…
فلحكمة في الكون أنهم كانوا يرتدون السترات الصفراء، ولم تكن بيضاء! لكانت انهالت عليهم حمم الموت من كل صوب وحدب، فأصحاب السترات الصفراء وهم من العمال الذين نظموا مظاهرات احتجاجية واسعة في باريس، عاصمة فرنسا الجمهورية التي أول من أسست للحريات والمساواة والعدالة منذ قرنان من الزمن، مظاهرات حاشدة ضد أسعار زيادة المحروقات؛ تلك المظاهرات الشعبية التي تصاعدت وتنامت حركتها المنظمة لتشمل الآلاف من الفرنسيين المشبعين بحق التظاهر والاحتجاج السلمي، في مقابلة الحكومة التي تحاول ضبط الشارع وأمنه وأمنها.
التظاهرات الفرنسية العام الفائت، استدعت استنفارا أمنيا وحكومياً، ودفعت بالرئيس الفرنسي لارتداد سترة صفراء في محاولة للتعبير عن تضامنه مع المتظاهرين من جهة، ومحاولة تخفيف وامتصاص حدة التوتر المتعالية، وهذا ما ترافق مع قيام الحكومة بوقف العمل بأسعار المحروقات الجديدة لمدة ستة أشهر والعمل على دراستها من جديد بما يتناسب مع المصلحة العامة لفرنسا.
هذا التوازن بين المصلحة الوطنية العليا وبين الاستجابة لحركة التظاهر الشعبية أعادت للسوريين في ذاكرتهم الحية التي لم تتماوت بعد، ذكريات أيام ثورتهم وسلميتها الأولى، فمنها من أخذ باب التندر ومنها من أخذ الجدية والبحث و”النبش” فيها بما يشبهه ويشبه أدواته التحليلية! حيث لم يتوانى اعلام النظام الرسمي وجرائده من التنديد بالرئيس الفرنسي “ماكرون” وسياسته القمعية إزاء المتظاهرين! فمتظاهرو سورية كانوا “ارهابين” وجب ابادتهم وتهجيرهم واستدعاء كل قوى العالم لتخليص البلد من براثنهم! بينما البارسيون متحضرين ويفطروا “الكيك” والحليب، فما كان من اعلام الممانعة الفظيع من اعلان تضامنه معهم خاصة وأن غلاء معيشتهم سيفقدهم حضارة “الكيك”، كيف لا؟ فلما لا يأكل المتظاهرون السوريون الحشيش إن لم يجدوا الخبز طعاماً! يا لفجاعة المقارنة….
في الجهة المقابلة انتشى اليسار السوري “المتمركس” أيضاً في اعلاء صوته ملوحاً بانهدام الرأسمالية ومبشراً بأن العولمة تحفر قبرها بيدها! فإن كانت منظومة العولمة موضع نقد لازم، لكن بني “ساسة” و”أدلوجة” لا يمكنهم فهم معايير المرونة الداخلية في موضوعة الدولة الوطنية المؤسسة على فكرة الحقوق الليبرالية، وأنه مهما تغولت أنظمة العولمة تبقى موازينها تقوم على فكرتي الحق والعدالة لشعوبها، لا تدميره وتكفيره وتهجيره واعتباره متخلف لا يستحق الحياة!
السوريون الرائعون بدأوا بالتندر، بالتحسّر، بالتذكّر، فيما يشبه التمايز بين عودة الروح وسرقة روحهم وبهجتهم، وباشروا “نهفاتهم” الحمصية في لافتات باريس وشعاراتها.. ف”الرئيس الفرنسي يعين جون مانسون حيدر وزيرة للمصالحة الوطنية”! و”الرقيب لوبان يصرح على الاعلام المغرض: أعلن انشقاقي عن الجيش وانضمامي للثورة وهذه هويتي، وأصبح لقبي أو ديغول الباريسي”؛ و”تنسيقية باريس العاشرة بالتشارك مع تنسيقية ماري أنطوانيت تسمي تظاهرات الأحد القادم “ارحل ارحل يا ماكرون أو نرميك من البلكون”، وتجيبها تنسيقية باريس الحرة: معا لتوحيد شعار الأحد القادم لا دراسة ولا سوربون حتى يرحل هالماركرون”، و”تصدح حناجر الباريسيات الحرة: لا سوتيانة ولا كل…ون حتى يرحل هالماكرون” ….. وتكون النتيجة “استشهاد المتظاهرة مارسيل رينوار برصاص قناص والدعوة لتشييع جثمانها يوم الأحد القادم من كنيسة مار جورجس في غوطة باريس الشرقية”….
كم هو مؤلمٌ على وجدان السوريين أن يقول الشرطي الفرنسي، الذي رد على الرئيس الفرنسي الذي هنأه بالقيام بحماية الشانزلزيه والقصر الجمهوري الفرنسي، حيث قال لقد قمت بواجبي الوطني ولكن كنت أشعر بالعار حيث كنت امارس دور القمع على الناس الذين يطالبون بحقوقي أيضاً ومن ذات المعاناة التي أعيش! أجل المواطن الفرنسي بعمومه يعاني من منظومة الضرائب المرتفعة ومن زياداتها المتعاقبة، وعلى الحكومة العمل على تخفيفها وإلا هي تحت وقع التهديد بالاحتجاج التظاهري السلمي وحجب الثقة عنها، والملفت في هذا أنه يدرك تمام الإدراك أنه لا يمكن للجيش الفرنسي أن يقتحم الشوارع الفرنسية ولا طيرانهم أن يقصف مدنها بالبراميل، وأبدا لن يقول أحد من الفرنسيين أن المتظاهرين غير وطنيين وعملاء للخارج!
هذا الألم العميق الذي يقف السوريون ازاؤه بعين الحسد والرغبة، يحسدون أقرانهم المواطنون بالعالم على احترامهم أنهم بشر ذوو حقوق، ليسوا إرهابيين ولا كفار ولا خونة ولا متآمرون على ديموقراطية واشتراكية بلدهم! ويستعيدون في الذاكرة المقولة الأشهر “أنا انسان مو حيوان”؛ كما ويرغبون في رؤية أهلهم وأبناء جلدتهم والمشتركون معهم في الوطن على أن يتعاقدوا على نبذ العنف والتطرف، في علاج أساس مشاكلنا في الاستبدادين الديني والسياسي ومنتجه الأمني القمعي والأيديولوجي في الدولة التسلطية العسكرية! فهل هذا معجزة يحتاج لحل سحري وألف مؤتمر ولقاء ومنصة وأدوار دول هنا وهناك؟
سوريا اليوم تكاد تخلو من الوقود والكهرباء ودون أي مستوى على سلم درجات الحياة الاقتصادية والسياسية، فهل ثمة مؤشرات ما على حياة سياسية قادمة أمام حجم الاستعصاء الدولي في الملف السوري وبزاره المعلن؟ وهل سنكتفي شر المختبئ تحت الطاولات من مشاريع؟ أم سيبقى التندر والنهفة دلالة حياة وروح سورية ترفض الانكسار مهما اشتدت قساوة المشهد اليومي! ولسان حال السوريين يقول: مادام الحال الدولي بهذا المضمار، فقريباً سندخل التاريخ ونستعيد زهوة عصر الأنوار، فحينها لم تكن هناك كهرباء ولا اتصالات بل كانت عربات الدواب وسيلة النقل الأساسية، وها نحن ذا نستعيد مجده!
[…] حين يتندر السوريون: مقارنات مؤلمة […]