مَرّ منذ أيام تاريخ هام ومفصلي في تاريخ الصراع بين قوى الثورة السورية وحلف الشر الثلاثي ..وكانت الغطرسة الروسية وجنون العظمة والقوة في أوجها …كيف لمهمة وضع لها القيصر ثلاث أشهر لإنجازها ثم مَدّدها ثلاثاً..ولم تنتهِ ومَرّت السنوات وكان يتقدم بالمتر الواحد بعد أرض محروقة … وفي مطلع العام 2020 كان قد مضى على تَدخّله 5 سنوات وبحسابات القوة التي يعرفها لم يُحقّق منها الكثير…حيث مازالت قوى الثورة العسكرية تملك بنية متكاملة وتُسيطر على مناطق شاسعة جغرافياً وديمغرافياً..وهو الذي كان يدور بِخلده إخضاع أوربا وليس قوى سوريا معارضة لحكم الأسد…وبالعودة للعام 2015 لابد من ملاحظة.. دخلت روسيا إلى سوريا مرتاحة…وبتفويض دولي وإقليمي ( وبدون رضى تركي ومن الثورة السورية بالطبع ) غير معلن لكي تكون الأزعر الذي يُدير الملف السوري وذلك لتحقيق مصالحه بالتوازي مع تحقيق مصالح كل الأفرقاء بمعنى ضبط الصراع في سوريا وإبقائه تحت السيطرة وتكريس حَلّ سوري يُتوّج معادلة عدم هزيمة أو إنتصار أحد طرفي الصراع المحلي…. يُقال إنّ نتياهو ضغط كثيراً على الإدارة الأمريكية للموافقة على ذلك التدخل نظراً لأنّ روسيا لديها إلتزام كامل بأمن إسرائيل وتسعى لتقليم الأظافر الحادة للميليشيات الإيرانية وتكون وسيط القوة الذي يُشكّل صمّام أمان لإبقاء التناقض الإسرائيلي الإيراني تحت السيطرة…بمعنى إدارة كل التوافقات ووضع ورعاية قواعد الإشتباك في الحرب الرمادية بين طهران وتل أبيب … ورأى العرب في التدخّل الروسي ضمان عدم وقوع سوريا كاملةً في الحضن الإيراني بوجود منافس قوي يحمل مشروعاً مختلفاً لسوريا عن المشروع الإيراني… فيما كان الإيرانيون محتاجون لهذا التدخل لأنّ فيلق قاسم سليماني وقوات النظام هُزِمت في الحرب الجارية على الأرض ولم يكن من سبيل لإنقاذ النظام غير وحشية الجيش الروسي وجبروته… ويرى البعض أنّ الموافقة الضمنية الأمريكية على ذلك التدخّل أتت كهدية لنظام ولاية الفقيه بعد التوصل لإتفاق نووي في صيف 2015 وبعد شهر حصل التدخل الروسي المباشر.. فيما كان الامربكان يبنون موقفهم على الإعتراف بنفوذ روسي في سوريا لا يُؤثّر على مصالحهم وأنّ التعاون مع موسكو في سوريا ووسط آسيا وأماكن أخرى من العالم ضروري ووفق شروط أمريكية أقرب للخطوط الحمر بمعنى أنّ مصالح الولايات المتحدة سيتم إحترامها ولامانع من تحقيق الروس لمصالحهم ..لذلك أيضاً لم يمانع الأمريكان تَوسّع النفوذ الروسي والصيني في دول محسوبة كحلفاء لهم ضمن حدود معينة (طالما أنه لايؤذيهم ) فراقبوا بِعقل بارد ومُتيقّظ لتمدد العملاقان الآسيويان في دول الخليج العربي واسرائيل دون أخذ مواقف حادّة منه…ووقفوا متفرحين (أو شامتين) من تدمير إيران لمنشآت آرامكو السعودية وباقي الضربات التي نالت الأراضي السعودية ولسان حالهم يقول طالما أنّ الرياض تبني أحسن العلاقات مع موسكو وبكين فلماذا لم يؤمنوا لها الحماية من طهران… وكان الشرط الأمريكي العمل وفق القواعد الناظمة للقرار الدولي 2254 والذي أُقر بصيغته النهائية بعد التدخّل الروسي في أواخر العام 2015…والذي وافق عليه مجلس الأمن بالإجماع … والبعض يرى أسباباً أمريكية أخرى للموافقة على التدخل وهي إشغال الدب الروسي الهائج في أوربا بعد عربدته المعروفة في جورجيا 2008 وأوكرانيا 2014 وخوفاً من إرتكابه حمافة أخرى في بلد آخر لإشغاله في الساحة السورية وإستنزافه فيها عسكرياً وإقتصادياً وأخلاقياً ودغدغة أحلام القيصر بالخوض في قدميه في المياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط وإرضاء أوهام غروره في أنه أصبح قوة عظمى وأنه يسير على خُطى أسلافه السوفييت…فبما كان الامريكان يعملون في بنية الجيش الاوكراني بصمت لتأهيله وقلب عقيدته الشرقية إلى العقيدة الغربية الأطلسية إستعداداً لليوم الموعود والذي لم يَتأخّر أكثر من ست سنوات ونصف حيث إقتحم الجيش الروسي أوكرانيا فوجد أن جيشاً مُختلفاً عمّا تَصوّره وأذاقه وسيذيقه الأمرين حيث عَفّر جبهته بالتراب بل بالطين الأسود من المستنقع الأوكراني الذي وجد نفسه فيه… فيما كان القيصر الطامح للمشاركة في القطبية العالمية مع الولايات المتحدة يوقن أنّ سيطرته على سوريا ستكون البوابة التي ينطلق منها للتواجد بقوة في الشرق الأوسط قلب العالم والتمدّد الى أفريقيا وإنتزاع نفوذ وأمجاد خسره السوفييت أمام عينيه… الهدف الإستراتيجي الآخر للقيصر هو إحداث الصدع الإستراتيجي بين تركيا والناتو وكشف ظهر القارة الأوربية بحرمانها من سَدّ منيع وقوة عسكرية وإقتصادية وبشرية هي بمثابة الجبهة التي تحمي شرق القارة العجوز…وقد حاول القيصر جاهداً ذلك لكنه فشل فشلاً ذريعاً بسبب السياسة التي إتبعتها القيادة التركية والتي كان قلبها مع الغرب ولسانها مع الشرق… حاول الرئيس الرئيس الروسي الإخلال بتفاهماته مع الإمريكان والإستحواذ مُنفرداً على الكعكة السورية وتحويل سوريا قلب العالم إلى روسيا بيضاء جديدة بعد ان مارس فيها سياسته الشياشانية التدميرية والإبقاء على الأسد كإمّعة مثل قاديروف ..وتمادى في الإخلال والتنصل من كل تفاهماته مع الرئيس التركي مُعتمداً على غطرسة القوة في سوريا وربط تركيا بمصالح إقتصادية هائلة معه بحيث تَوهّم القيصر أنّه سيجذب تركيا إلى صفّه بوعوده بتحويل تركيا كموزّع عالمي لتصدير الطاقة الروسية إضافةً الطاقة الواصلة من القوقاز ..وبرامح التعاون النووي السلمي وإنبوب الغاز التركي العابر للبحر الأسود والذي يُقدّم الغاز بسعر منافس مع تسهيلات بالدفع وغيرها من آفاق التعاون الإقتصادي … تَخيّل القيصر أنه يُمكن لتركيا المساومة على أمنها القومي مقابل تلك المنافع …وكانت ذروة المعارك التي خاضتها روسيا في إدلب في عام 2019 وبدايات عام 2020 قد وصلت إلى مناطق لم يَعّد بإستطاعة أنقرة التراجع ( او التساوم) أمام الزحف الروسي الإيراني عندما سقطت كل المدن السهلية بِقبضة الإحتلال (خان شيخون…المعرة ..سراقب) الواقعة على خط M5 مع وصول القوات الغازية إلى أبواب جبل الزاوية بعد إكمال السيطرة على مدخل جبل الزاوية من جهة كفرنبل والمعرة…… كانت الضرية الروسية القاضية هي في إرتكاب المجزرة المعروفة بجبل الزاوية والتي راح ضحيتها 34 جندياً تركياً فقدوا حياتهم وتمّ جرح آخرين وفي هذه الضربة المفصلية التي قام بها الطيران الروسي كان يَتوقّع القيصر تَسرّب الذعر إلى القيادة السياسية التركية وإعطائها أوامر بإنسحاب قواتها وحلفائها من إدلب وتسليمها للمعتدين ..وكان القيصر واثق ان الرئيس التركي لن يخوض حرباً معه في سوريا و مفضلاً عدم تخريب كل التفاهمات والإتفاقيات التي تَمّت بين القيصر والسلطان ..لكن ماحدث كان عكس ما توقعه القيصر حيث قام الجيش التركي بتدمير منظومات دفاعية روسية وهي بحالة العمل وتصوير ذلك ونشره على وسائل الإعلام وشَنّ حرب مسيرات خلال 36 ساعة نالت من قوات الأسد وميليشيات النخبة من حزب الله وتم إلحاق ضربة موجعة أشبه بالهزيمة لكن الرسالة وصلت خلالها بأنّ الجيش التركي مُستعدّ للدخول في حرب كاملة وخلط كل الأوراق دفاعاً عن خًطّ وقف القتال الحالي الذي وصل إليه نتاج المعارك السابقة ولخطورة الوضع جرى الإعداد للقاء سريع وحاسم عُقِدَ في موسكو بين القيصر والسلطان وأنتج على عَجَل وبصياغات ضبابية وقف المعارك ونزع فتيل التوتر وتبريد الجبهات إلى مدة حتى لايقع المحظور… وإتفق الرئيسان على هدنة لعدة شهور ..إستفاد منها الطرف التركي بإدخال أكبر عدد ممكن من الجنود والآليات والتجهيزات المختلفة وبناء خط دفاع فولاذي يتواجد فيه الجندي التركي على خطوط التماس…بمعنى إستغلال الهدنة لبناء جبهة دفاعية متكاملة من السوريين والاتراك لمنع إنهيار تلك الجبهة ..وهو ماحصل بالفعل…..ومازالت الخطوط على حالها إستمرت الهدنة بخروقات مُتكرّرة من جانب الروس وإستُعمِلت هذه الجبهة لإرسال الرسائل السياسية بملفات أخرى عالقة بين موسكو وأنقرة وبين طهران وأانقرة ..لكن لم يحصل أي عمل حقيقي من الطرفين لتغيير تلك الخطوط…. وفي بدايات العام 2022 وبعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا وإصطدامه بجدار الناتو بات من الممكن التوقّع ( وهو ماحصل بالفعل ) بدء نزيف القوة الروسية على كلّ المستويات وبدء الإنشغال الروسي وتركيز جهده على المعركة الكبرى في أوكرانيا وباتت القوة الروسية في سوريا في حالة نزيف بطيئ لكنه ظاهر للعيان..وبرزت الحاجة الماسّة لروسيا في عدم إغضاب تركيا كنافذة لها على العالم .. يُمكن القول إنّ وسيط القوة الروسي الذي أنتج خطوط وقف القتال في 5 آذار 2020 هذا الوسيط الذي يتداعى… وسَيّغيّر هذا التداعي موازين القوى على الأرض والتي أنتجت تلك الخطوط..وبالطبع يسير التغير في صالح قوى الثورة وحلفائهم الأتراك خاصةً بعد التورّط الإيراني الأخير في حروبها الجارية الآن في الاقليم مع قوى غربية لن تَرعى فيها إلّاً ولا ذِمّةً…