الآمال والعواطف الجياشة كانت لم تزل مجرد أحلام لم ترتق لمصافي الوعي والتنظيم والعمل المؤسسي وعقلانية بناء الدولة. وليس فقط، بل تعتبر مساهمة بنواياها الحسنة في كوارث المنطقة واقتتالها وتهجير أبنائها، دولة تلو دولة، وها هي السودان اليوم ليست بعيدة عن المشهد عينه الذي حدث في سوريا والعراق وليبيا واليمن.. هي ذات الفكرة النقدية التي تناولتها العقلانية العربية نقداً سواء في كتابات الياس مرقص وعبد الله العروي وياسين الحافظ وغيرهم، حين أسموا ناتج حرب حزيران 1967 هزيمة، هزيمة أمة في مشروعها الوطني، مشروع بناء الدولة الحديثة، وما زلنا نجتر هزائمنا هزيمة تلو أخرى.
المرحوم ياسين الحافظ نقل عن لسان عبد الناصر، المقولة التي تكاد تكون اليتيمة لرئيس عربي، دون سواه، يعترف بالهزيمة: “بنينا المشافي ولم نبنِ جهازا طبياً، بنينا المدراس ولم نبنِ المؤسسة التعليمية، بيننا سلاح طيران ولم نبنِ الانسان”. وعي هذه الأمة الضبابي ووهمها في كيفية بناء المجتمع والزاحفة خلف زيف مقولات نظم العسكر التي لم تترك أية “أدلوجة” عاطفية إلا وقدمتها وجبة سهلة الهضم لهذا الشعب العاطفي تاريخياً، بغية الحفاظ على مكاسبها من السلطة التي تهيمن على كل مفاصل الدولة فيها؛ الدولة التي كانت وما زلت حلم المواطن العربي منذ خروج مجتمعاتهم من معضلة الاستعماريين العثماني فالانتداب الغربي، فهل كان الوعي العربي بمصافي الإمكانية لذلك؟
يُفترض في بناء الدولة الحديثة، دولة المواطنة والحقوق المدنية والسياسية، دولة الدستور وحكم المؤسسات التي تحمي الحريات الفردية والعامة وتعمل على توظيف تلك الإمكانات الفردية في صيغ عمل جماعية متكاملة في بناء الدولة ورفاهيتها، ما ينعكس على الفرد بذاته في العيش الكريم والشعور بالأمان والقدرة على تقديم أفضل ما لديه لأجل ذلك؛ يفترض لذلك ثلاثة “فصول”، والفصول جمع فصل، هي حدود موضوعية واضحة ومحددة دستورياً ومحمية قانونياً:
فصل الدين عن الدولة، بحيث تكون الدولة حيادية بمؤسساتها وسلطاتها بمسافة متساوية من كل الأديان والملل والطوائف بوصفها موروث شعبي ثقافي ذو أسس لاهوتية وميتافيزيقية تعبر عن محتوىً أولي لبناء الدولة ما قبل الحديثة زمناً، أما وقد تجاوزته عجلة الاقتصاد والعلم الحديث وليس فقط بل المعرفة الإنسانية بشقيها العلمي والأخلاقي، فوجب وضع الحد بينها وبين القانون الذي يرصد حركة الأفراد والمؤسسات في المجتمع، وذلك وفق مرجعية وضعية يتفاهم عليه البشر المختلفون ديناً بينهم في عقد اجتماعي بينهم أساسه المواطنة.
فصل العسكر عن الدولة، فالعسكر وآلته الحربية بعتاده وعسكرييه هم ركن حماية الدولة ومؤسساتها من عدوان خارجي على أرضها والتي يجب أن تخضع قراراته في ذلك لذات المؤسسات المفترض حمايتها؛ ذهنية العسكر ذهنية صراع ومغالبة، احتلال وهيمنة، تراتبية ومركزية ورئاسية هرماً، وهو ما يجب أن تحدّ بعيداً عن الحياة المدنية والسياسية القائمة وفقاً لمعطيات العصر، القرن العشرون وما تلاه لليوم، على الحريات والدستورية في مسار مختلف يمتد أفقياً في التنوع والتعدد والاختلاف عن مسار العسكر في مركزيته وأوامره وخضوع مرؤوسيه لقرارات رؤسائهم تحت عنوان “نفذ ثم اعترض”.
فصل الثقافة عن الدولة، بحيث تبقى الثقافة وحرية الرأي والبحث في المحتوى القيمي للإنسان ومعنى وجوده خارج مكننة الدولة ومؤسساتها الوضعية والتنموية، ما يعني بالضرورة أن تبقى الثقافة، كما الأديان وشعائرها، حقوقاً مصونة للأفراد في التصور والإبداع الفردي بعيداً عن أيادي الوضعية القانونية لمؤسسات الدولة، وأيديولوجية الأحزاب الحاكمة في سلطاتها، ويد العسكر التي لا تتقن سوى لغة الحرب والصراع، وتبدو هذه النقطة لليوم غير مطروحة على جدول أعمال الثقافة الوطنية حتى في ظل ثورات الربيع العربي، التي يقوم كل من نظم العسكر ونظم الدين المتأخر بنحرها وتحويل حواملها وأفرادها لمشاريع قتلى جملة وأفراداً.
نظم العسكر التي حكمت رقاب المجتمع وهيمنة على مؤسسات الدولة الناشئة بعد استقلالها عن الانتداب الغربي، استقت من الدين والأديان مقومات هيمنتها على عواطف ومشاعر المجتمع؛ وليس فقط، بل حولت مؤسسات الدولة لأماكن نفوذ وسيطرة لأحزابها الكرتونية، وصاغت أديولوجتها القومية في الحرية والوحدة لتصيب مجتمعاتها في مواضع اجهاض وقضم عدة: خذلان الشعور الجمعي للأمة في موروثها الراغب في الانعتاق والحرية، هزيمة الوعي في تكريس نظم الإذلال وثقافة السجون والاعتقال، وتكريس ثقافة التبعية وألوهية الحاكم ومحاكم التفتيش، أو ما يسمى محاكم قوانين الطوارئ والإرهاب. وجميعها خلاصة ثقافة الوهم في التحرر في مقابل تكريس الهيمنة والتحكم والتي كانت وما زالت لليوم تقرض كل مؤسسات الدولة وتصبغها بصبغتها العسكرية مرة والدينية في اخرى، ناسفة من الجذر مقولة الانسان الفرد وحريته وكرامته ووضعه القانوني والدستوري بالمبدأ.
لم تنتهِ هزيمة حزيران بستة أيام وفقط، بل استمرت في ذهنية وعقلية المواطن العادي لليوم ذكرى أليمة ما زال يكرر ذكراها سنوياً وكأنها عيد انتكاس في وجدانه وضميره. والانتكاس في الاصطلاح هو توقف في التقدم، عودة لمرض بعد صحة، خيبة أمل وتراجع. بهذا المعنى، كانت حرب الست أيام في عام 1967 خيبة أمل الشارع العربي الذي ردد خلف نظم العسكر العربية مقولات رمي إسرائيل في البحر، وكل آمالهم معلقة على من اعتقد جمهور الشارع العربي أنه حامل لطموحاته في الوحدة والتحرر. وتاريخ المنطقة الحافل بنظم العسكر المتتالية من حكومة الضباط الأحرار بقيادة عبد الناصر منذ 1952 في مصر وحكومة انقلاب آذار عام 1963 في سوريا، لتتلوها حكومات المنطقة بعمومها، واليوم ليس بعيد عن الغد، سلطات العسكر ودول الخراب والانهدام عنوان عام. فيما اعتاد الشارع العربي سيل بيانات الاستنكار والشجب كعنوان رئيسي لسياسي العسكر ونظمها، ولا تكتفي بهذا بل تطالعك تلفزيونات أنظمتها في مغالطة مشبوهة عندما تظهر على شاشتها جرح او قتل متظاهرين فلسطينيين سواء في ذكرى يوم الأرض أو ذكرى ما سمي نكبة أو نكسة في وعي مأزوم ومهزوم، ولا ينتصر إلا على شعبه بقتله وتهجيره واستدعاء كل قوى العالم وميليشياته الطائفية لاقتسام موروث هذا الشعب في أكثر لحظاته انتصاراً لذاته ضد طغمتي العسكراتية والدينية المتطرفة! فيما سؤال الدولة الحديثة سؤال معلق لليوم بين الحلم وشبهته، بين العقلانية والقدرة والفاعلية المدنية والسياسية. فهل تستطيع شعوب المنطقة العربية حسم معركة بناء الدولة قبل شهوة سلطة الحكم عسكرية كانت أو أيديولوجية؟ أم ستكرر هزائمنا وتصبح عنوان القرن؟
دكتوراه في الفيزياء النووية
المقال السابق
المقال التالي