اللجنة الدستورية ومقايضة الوقت والسياسة

حسب مركز أنباء الأمم المتحدة أن: “احترام الاختصاصات والقواعد الإجرائية الأساسية، تقديم نصوص المبادئ الدستورية الأساسية قبل اجتماعات اللجنة الدستورية، وتحديد مواعيد مؤقتة للاجتماعات المستقبلية”، تمثل ركائز ثلاث لانطلاق عمل اللجنة الدستورية في جولتها السادسة في جنيف في 18 أكتوبر/تشرين أول الجاري.

الركائز الثلاث هذه هي ما كان قد حدده غير بيدرسون، المبعوث الأممي لمتابعة ملف المسألة السورية، خلال إحاطته المقدمة في جلسة مجلس الأمن قبيل انطلاق أعمال اللجنة الدستورية، مؤكداً على مساعيه الدؤوبة خلال الثمانية أشهر الماضية لإيجاد خطوط تفاهم بين الأطراف السورية لبذل جهود جدية لإنجاح العملية الدستورية وبالنتيجة السياسية. موضحاً أن رئيسي الهيئتين الممثلتين لكل من سلطة النظام والهيئة العليا للمفاوضات المعارضة، سيجتمعان وجهاً لوجه وعلى طاولة مشتركة قبل يوم من انطلاق اللجنة، للتحضير لمجريات الجلسة الحالية.

السياق التاريخي لأعمال ومجريات اللجنة الدستورية:

أتت اللجنة الدستورية كسلة من بين سلال ديمستورا الأربعة خلال مؤتمر جنيف/4 أوائل عام 2017، وذلك بعد شهر تقريباً من انطلاق لقاءات أستانة بعد موقعة حلب العسكرية نهاية 2016، والمرعية بالترويكا الروسية-التركية-الإيرانية الفاعلة في الأرض السورية عسكرياً، كان عنوانها الرئيسي تفاوضا سياسيا عسكريا بين الأوصياء الفعلين على ملف الداخل السوري وخطوط معاركه العسكرية ونتائجها السياسية تحت عنوان مناطق “خفض التصعيد”. 

السلال الأربع اشتقت بمرجعية القرار 2254/2015 لمجلس الأمن والمتعلق بشكل رئيس: بإقامة حكم غير طائفي يضم الجميع (النظام، المعارضة، المجتمع المدني مثالثة)، ومحاربة الإرهاب دون تحديد هوية الحكم غير الطائفي أو معناه أو تحديد الإرهاب وشكله، بينما الثالثة فتتعلق بإجراء انتخابات مرعية من قبل الأمم المتحدة، ولا أحد يعلم متى يمكن أن تحدث هذه الانتخابات وكيف؟ لا بل متى يمكن الانتهاء من الحرب على الإرهاب الموصوف أو الانتهاء من صياغة دستور شاف ومعاف للبلاد كسلة رابعة؟

زمنياً، كرت سبحة التدهور والتراجع في ملفات الأمم المتحدة المتعلقة بسورية عبر تفريغ محتوى الانتقال السياسي، للاكتفاء بتنفيذ سلال ديمستورا سلة سلة، وهو ما قدم سلة الإرهاب أولاً التي تتيح لكل طرف من الأطراف اللعب على وتره عسكرياً وميدانياً، وبالضرورة سياسياً بتنفيذ أجنداته في المسألة السورية، وتلتها سلة الدستورية وآليات عملها بذات شروط تقاسم النفوذ، دون إحداث أي تقدم في السلتين الباقيتين في مقايضة معلنة للوقت بالسياسة!

فقد انطلقت أعمال اللجنة الدستورية 30 أكتوبر/تشرين أول 2019 باعتماد أعضاء الهيئة الموسعة بقوام 150 عضواً (خمسين من كل جهة)، وتم لاحقاً، وبعد مشاورات ماراثونية الاتفاق على أعضاء اللجنة المصغرة بقوام 15 من كل جهة. وقد عُقدت لليوم خمسة جلسات متواترة ومتباينة زمنياً بالسابق، أثمرت عن فراغ عام ودون نتيجة مرجوة منها، فوصفها بيدروسون بالفرصة الضائعة، وذلك في نهاية الجولة الخامسة في شباط/فبراير الماضي، مؤكداً بذات الوقت: “على أنه لا توجد جهة فاعلة واحدة أو مجموعة فاعلة موجودة -سورية أو أجنبية- يمكنها تحديد التسوية السياسية للصراع، ويجب التفاوض بشأن ذلك”، ويعتقد بيدرسون أن الجميع يقبل ذلك، “لكن يبدو أن معظم اللاعبين حريصون على أن يتخذ الجانب الآخر الخطوة الأولى”. إذا ما جدوى اللجنة الدستورية؟ وهل ستساهم فعالية خطوة مقابل خطوة الامريكية الروسية في تفعيل عمل هذه اللجنة؟

مقايضة الوقت والسياسية:

لا يمكن لأي تحليل سياسي أن يخطئ المرمى من التحولات القسرية الجارية في مسار الملف السوري أممياً. فهي محط تنازع إقليمي ودولي حول الحصة الأكبر من سورية، ومفتاحه الأساس حل سوري تتنازعه الأمم المتحدة من جهة بمرجعية مقررات جنيف-1/2012 وقرار مجلس الأمن 2254/2015، ومسار روسي بمرجعية سوتشي أوائل 2018 وقراراتها الاثنتي عشر، ومحتواها تشكيل دستور سوري بمواصفاته الخلابة “علمانياً وديموقراطياً”، مع مواربة روسية واضحة لمرجعية 2254/2015 سواء للتخلي عن مقررات جنيف-1 بهيئة حكم كاملة الصلاحيات، أو بتقليص موضوعة الانتقال السياسي للجنة دستورية ومحاربة الإرهاب يضمنان لروسيا الدخول العلني للقرارات الفاعلة الدولية من بوابة مجلس الأمن، ما يؤهلها لعودتها التدريجية لموقع القطب العالمي مجدداً.

وقائع الأرض ومجريات الحدث السوري تشير وضوحاً لعدم قدرة روسيا على فرض كامل مساري أستانة العسكري ومن خلفه سوتشي السياسي، فسورية بالنسبة لروسيا اليوم لا كما العراق بالنسبة لأمريكيا عام 2003، حين استطاعت وقتها أمريكيا الاستفراد بها وبمرجعية قرارات أممية واضحة. بينما تحاول روسيا بكل الطرق المتاحة عسكرياً وسياسياً الاستفراد بمسار الملف السوري وفرض شروطها حسب طريقة الحل التي تريدها، بمقايضة الوقت وطول الزمن بغية تحقيق مكاسب سياسية، ولكن تواجهها عراقيل وعقبات ضخمة متمثلة بالتالي::

• عدم قدرتها فرض هيمنة مفردة عسكرياً على مجريات الواقع السوري داخلياً، حيث لا تمتلك قوات برية كافية، وتعتمد على قوات النظام المتآكلة ودور الميليشيات الإيرانية، وهذه باتت منافسا على مصالحها من جهة، ومحطة تفاوض مع الأمريكيان والإسرائيليين على ضرورة تحجيمها، إن لم يكن التخلي الكلي عنها.

• عدم القدرة على حسم ملف الشمال الغربي من سورية، وإجبارها على خوض مفاوضات طويلة مع الجانب التركي على ترسيم الخطوط البرية، يتخللها عمليات عسكرية جزئية.

• عدم القدرة على الوصول لمناطق شرق الفرات، مع محاولة المناورة مع الجانب الكردي ومن خلفه الأمريكي بإحداث تفاهم متقدم مع قسد في ذلك، وهذا لليوم غير مرضي عنه أمريكياً.

• المعضلة الأكبر كانت ولازالت هي عدم الرضا الأمريكي عن الاستفراد الروسي بملف سورية، ما لم تحقق جملة من الشروط أهمها: ضمان الأمن القومي الإسرائيلي بلجم الميليشيات الإيرانية، والجدية في إجراء تغيرات في بنية النظام السوري أمنياً وعسكرياً وسياسياً ما يؤهلها للقدرة على تغيير سلوكه، والنتيجة ستكون استجابته للقرارات الدولية خاصة 2254 والجدية في العملية الدستورية.

خطوة مقابل خطوة هو عنوان سياسة الإدارة الأمريكية باتفاقها مع الجانب الروسي بإيجاد ممرات للتوافق بينهما على كيفية إدارة المرحلة الحالية في المسألة السورية، والتي بدأت بمعبر باب الهوى وتلاها الاتفاق على مرور خط الغاز المصري من الجنوب السوري، والمقابل كان تحجيم الدور الإيراني في الجنوب، وإلزام سلطة النظام في الجدية في العملية الدستورية. يضاف لها أن أدارت إدارة بادين ظهرها للقاء سوتشي الأخير بين بوتين وأردوغان في الطريقة التي يتفقون عليها في ترسيم المنطقة الشمالية الغربية في إدلب وشمال حلب. فهل الخطوة المقبلة المتوقعة هي إحراز تقدم في مسار اللجنة الدستورية وتحقيق النقاط الثلاث المتفق عليها قبيل انطلاق هذه الجولة؟

وهل سنشهد قريباً الإعلان عن مبادئ دستورية عامة متفق عليها من خلال هذه الجولة؟ وذلك بغض النظر عن مبادئها، لكنها مؤشر على تقدم في خطوة مقابل خطوة! والنتيجة هل سيلتزم الطرفان، وخاصة النظام الذي طالما تملص من استحقاقات اللجنة الدستورية والقرارات الأممية، بالالتزام بالإجراءات الأممية المنصوص عنها في هذا السياق؟ ما يؤهل لمسار متتال من اللقاءات المفعلة؟

جزئية الحل السياسي مقابل الزمن:

القول بأن اللجنة الدستورية ستأتي بحلم السوريين المهمشين والمغلوب على أمرهم في كل شتات الأرض وتحتها هو مجازفة بالحق، لكن رفضها كلية هو مجازفة بالمصير الكلي. فقد بات من الضرورة اليوم العمل على تضمين هذه اللجنة مبادئ دستورية تتعلق بالحريات والحقوق العامة وطرق إدارة الحكم بطريقة لامركزية وتحت ضمانة الأمم المتحدة والضالعين بالملف السوري فعلياً، وبالضرورة استجابة روسيا لإجراء تغيرات جزئية في بنية النظام الأمني والعسكري وواجهاته الاقتصادية حتى تضمن مرجعية دولية لها في الحل السوري. بالمقابل على قوى المعارضة أيضاً تحسين موقعها التفاوضي حتى يتسنى تحقيق حل جزئي يتعلق زمنياً بمرحلة مؤقتة لتحكم الإرادات الدولية على مستويي المعارضة والنظام بحلها السياسي، وعلى مستوى إمكانية وفتح المجال، وإن كان جزئياً، للعمل المدني والسياسي في الداخل السوري بعد أن أكلته آلة الحرب العسكرية بكل صنوفها، فاللجنة الدستورية “شر” لابد منه وليست سوى محطة من محطات العمل الممكن مرحلياً!

هنا تبرز جزئية الحل الممكن في الملف السوري، عنوانه الأبرز المقايضة، والمقايضة مفهوم اقتصادي بدائي يعني مبادلة السلع بين الناس دون نقود، حيث تحدد قيمة السلعة حسب حاجتها، فديك الدجاج أحياناً يعادل مقدار عجنة خبز ليوم واحد! وقد يبدو أن حلاً جزئياً غير كاف بالمطلق للمظالم السورية، لكنه قد يقايض بملفات كبرى تتعلق بإمكانية استعادة تموضع العمل المدني والسياسي السوري من داخله، بدلاً عن تموضعه خارج سورية وبأيدي لاعبين دوليين محترفين يعرفون جيداً مصالحهم وأدوات وطرق الوصول اليها.

الأمان والاستقرار والعيش الكريم خلاصة أي دستور يمكن صياغته قانونياً بوقت قصير! لكن عقداً اجتماعياً على هذه الثلاث يتطلب المزيد من الممارسة السياسية والصبر النفسي وترويض العقل السياسي على قبول الآخر المختلف من جهة والتمسك بالثوابت من جهة أخرى وأهم من هذا كله قراءة الواقع السياسي دون أوهام يتبعها الخذلان! والثوابت اليوم كما كانت قبل عشر سنوات هي ذاتها الثلاث مرفوعة على أس الحرية والكرامة بالمبدأ، مستبعدة شكلي مركزية السلطة الأمنية والعسكرية المتغولة والنفي السياسي الكلي المحمول على “أداليج” النفي الجاهزة المسبقة سلفاً والتي تنفي أي عقد اجتماعي رضائي ممكن، ولنقل هي ذات الثورة على منظومات الاستبداد بكل نماذجها السياسية السلطوية او المعارضة المفترضة نفسها بديلاً، وما تشكلانه من وجهين لعملة واحدة، حتى وإن كانت النتيجة الأولية مقايضة روسيا وتركيا وأمريكيا بوصايات متعددة الأطراف في الملف السوري، لكنها تبدو المقايضة الأكثر أرجحية رغم اجحافها.

اللجنة الدستورية لليوم مجرد نموذج تعويضي للهدر الأممي في حقوق السوريين من جهة، ودرب هش لكيفية إدارة ملفاتهم سياسياً ودولياً وممر عسير بين ملفات الدول الكبرى في شأن الصراع على ملفات الاستحواذ العالمي بالجهة الاخرى. هي مقايضة فجة تعكس انحدار القيم العصرية باتجاه مغاير لسير حركة التاريخ، ولن تكون أبداً نهاية مطافه. ولكنها قد تعتبر موقعة زمنية تستحق الرصد والمتابعة بدقة وحذاقة…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.