الهوية الوطنيةضحية العنف وعبادة الشخصية (3)

3- بين الوطنية والعصبية والواقع أن جوهر أزمة الهوية الوطنية التي تفجّرت كالدمل المتقيح على ضوء ما جرى من أحداث دموية على هامش ثورة 2011، هو، ببساطة، إنكار الحقوق المدنية والسياسية الأساسية وانتهاكها المزمن من سلطةٍ تحوّلت إلى سلطة احتلال، تحكُم بالخداع وبالعنف العاري، ولا غاية لها سوى خدمة مصالحها. لم يكن للزعماء الأهليين أو وجهاء الطوائف والمذاهب الدينية أو الإثنية دور كبير في الدفع في هذا الاتجاه، وإشادة هذا الكيان السياسي الجديد المفرغ من السياسة والحقوق وحكم القانون والمرتبط بإرادة شخص وأجهزته الأمنية، ولم يكونوا أصحاب المبادرة فيه. كما أنه لم ينشأ بسبب جهل “العامّة”، ولا حتى تعصّب الطوائف الدينية، وإنما كان ثمرة تفكير وتخطيط واعٍ ومدروس لنخبة سياسية وعسكرية حديثة ومدّعية الحداثة القصوى والعلمانية والعقلانية فرضت إرادتها بالقوة على الجميع، واحتكرت الخطاب والكلام في المجتمع وفي السياسة وفِي الأخلاق، كما احتكرت كل السلطات، ووضعت إرادتها الخاصة فوق القانون. كانت التعبئة الطائفية إحدى استراتيجياتها الرئيسية للتغطية على إعدام السياسة، ومعها مبدأ المواطنة، بما تتضمنه من حقوق وواجبات أو مسؤوليات. وكان الحافز لتبنّي هذا الخيار هو بالضبط منع نشوء جماعة وطنية تستدعي الاعتراف بحقوق المواطن السياسية التي تمكّنه من الدفاع عن مصالحه الفردية والجماعية، وتمهيد الأرض لإنشاء نظام السخرة والعبودية، وتسخير الدولة والمجتمع معا لخدمة المصالح الخاصة بنخبةٍ عائليةٍ وطبقة عسكرية وسياسية، تطمح إلى أن تعيد سيرة الأرستقراطية وممالكها الوراثية، لكن هذه المرّة في شكل إقطاعية رثّة أقرب في سلوكها للمافيا الحديثة منها للطبقة الأرستقراطية. وهذا ما يعكس مستوى الانحطاط والتدهور في القيم ومنظومات التفكير والعواطف الخاصة التي حرّكتها وألهمتها. فمنذ تولّي الأسد الأب الحكم كان محور الصراع يدور بوضوح بين مشروعين: تأسيس مملكة وراثية تعيد سيرة النظم القديمة، بما فيها إبراز عائلة ملكية تختزن في عروقها وبيولوجيتها الشرعية والسيادة، ومن ثم الحكم من جهة، ومشروع بناء منظومة حكم وطنية ترتقي بمشاعر الأفراد وتطلعاتهم إلى مستوى الحياة السياسية الحرّة، وتهدف إلى تكوين جماعة وطنية تستقطب ولاء الأفراد في ما وراء هوياتهم الأهلية وعبرها، بمقدار ما تعمل على تحويل الدولة إلى دولة مواطنة ضامنة للحقوق، ومن ثم للمساواة الكاملة بين جميع مواطنيها وأبنائها. وقد فاز المشروع الأول، وفي اعتقادي، إلى حد كبير، بسبب مواءمته، إن لم نقل توافقه، مع مصالح الدول الرئيسية النافذة في المنطقة الإقليمية والدولية التي أرادت أن تضع حدّا لمشاريع التحرر العربية ونمو القوى والتحرّكات الشعبية. وهي مصالح مرجّحة في البلدان الصغيرة وحديثة النشأة وغير المستقرّة. في هذا الإنكار العلني والسافر والمديد لحقوق الأفراد وحرياتهم وملكيتهم على أنفسهم، تكمن إذن أزمة الهوية الوطنية التي لا تزال تعلق فيها سورية، متنكّرة منذ عقود طويلة. وهي المحنة التي حاول السوريون الفكاك منها في ثورة 2011، والتذكير بأنفسهم شعبا، واستعادة حقوقهم الأساسية. ولم يكن هدف الحرب التي شنّها النظام عليهم سوى قطع الطريق على استعادة هذه الروحية الوطنية الجديدة التي ولدت في مظاهرات الحرية. وجزء كبير من العنف الذاتي الذي أبداه السوريون في ثورة 2011 ناجم عن إرادة تمزيق هذه الهوية العبودية، وتحرير الذات منها قبل تحريرها من النظام. ولم يكن ترداد شعار “يلعن روحك” في المظاهرات، بعد عقدين على وفاة حافظ الأسد، سوى من باب التكفير عن الذنب وطرد الأرواح الشريرة التي سكنت السوريين، عندما اكتشفوا أنهم عبدوا إلها من حطب، وتخلوا له عن حرياتهم وحقوقهم وكرامتهم وشرفهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.