يتحدث كثيرون أنّ سوريا انهارت ككيانٍ جغرافيّ سياسيّ …والأخطر ماتتحدّث جماعات من طبقة المثقّفين والمفكرين بأنْ لا وجود للمجتمع السّوري أصلاً، وقد تفكك انتهى كليّا بالحرب الأهليّة الدائرة. فسوريا برأيهم ليست بلداً واحداً، هي تركيب من جماعات وطوائف وملل وأقوام، لا جامع، ولا هوية ولا تاريخ مشترك. وهنا تكمن أكبر المشاكل، ومنها تبدأ وتتمثّل سرديّة تزوير التّاريخ. بهدف الاستيلاء على سوريا وخنق الرّوح الوطنيّة الكامنة في ضمير أغلبيّة ساحقة من السّوريين. ربّما هم محقّون في التّوصيف الظّاهريّ الحاليّ، لكنّ التّوصيف الأدّقّ الذي غاب عن بصيرتهم وأقلامهم وأحاديثهم، هو أنّ للتاريخ قولٌ آخر، فهناك كيانٌ عريق اسمه سوريا لا تمحوه النوائب، وأنّ هناك مؤامرةً واسعة ومدروسة ومستمرّة منذ زمنٍ طويلٍ على سوريا، الصغرى والكبرى، وعلى أهلِها وكيانِها التّاريخيّ الجغرافيّ ؛ فقد سُلِخت مساحةٌ واسعة منه وقُسِّمت دويلات، باتفاقيّات استعماريّة ليست سايكس بيكو بأوّلها، ولا بآخرها. المؤامرة حقائق وحقيقة، وبالتّأكيد ليست ضد نظام الأسد ولا ضد شركائه؛ فهو يتربّع على سلطته الهشّة على الرّغم من كلّ القرارات الدّوليّة التي تدين إجرامه؛ لأنّ مهمته في التّخريب وتفكيك المجتمع حتى النّهاية مازالت سارية المفعول. المشروع الاستعماريّ برمّته، المباشر وغير المباشر، وبوكلائه، عَمِلَ، بكلّ ماهو متاح، على تدمير سوريا. ولا عجب في لغوِ جماعاتٍ وأفرادٍ من طبقة المفكرين المثّقفين؛ فهم وكلاء، ووظائفهم ومناصبهم مرهونةٌ بالمموّل وبالمهمّة المفروضة عليهم في سياق التّزوير والتّفكيك. إذ لم يعد خفيّاً أو غريباً مشروع تمكين الاثنيّات والجماعات السّياسيّة العصبويّة؛ فهي واقعُ حالٍ على الأرض شمال سوريا وشرقها وجنوبها. وفعلُ الطابور الخامس، المنتشر إعلاميّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً، جليٌّ في نشر الأكاذيب والأوهام، وبيّنٌ في طعن التّاريخ والثّقافة والدّين . والتّعليم الذي تتقاسمه الجهات السّياسيّة المتسّلطة على مناطقها، وتفصله عن سياقه الوطني الجامع، له دورٌ واضحٌ في التّفتيت والتّفرقة واختلاق تاريخ وجغرافيا جديدين. وعلى الرّغم من المؤامرة الضّخمة التي لا يَعترفُ بها جهابذة الحياد السّياسيّ، فالحقائق ظاهرة، وقد انكشف زيفُ كثير من المقولات الأيديولوجيّة، وما تضمره من تزويرٍ تاريخيّ حاضراً وماضياً. ولم يعد الانسان العاديّ جاهلا كليّاَ بما يحصل، فالمطامع في بلاده واضحة والقوى التي تحاربه بنعومة، أو بوحشيّة، واضحة. ومنهج الولاءات يعمل بقوة على الأرض ولا مجال لإنكاره. وتجويعه وتفقيره وتجهيله مقصود لإذلاله وتطويعه. كذلك أدوات التّفتيت ظاهرة. فقد كشفتْ الحربُ المروِّعة القاسية المستور والمسكوت عنه، وفتحت أعيناً كثيرة كانت مقفلة. وأنضجت عقولاً لم تكن مبصرة كفاية، بما دار ويدور. فانحّلت مقولات قديمة كثيرة، وهوى معها من كان يمثلّها. وفي الوقت نفسه فقد المجتمع استقراره الظاهري وتردّى كل شيء؛ من معيشيّ واجتماعيّ وأسريّ وأخلاقيّ وفكريّ ودينيّ وسياسيّ ، وسحب في طريقه أبرياء ومذنبين؛ فثمن التّغيير والحروب الطاحنة والباطل محفوفٌ سقوطُه بالكوارث. قد تكون قراءةُ الواقع الحاضر ملتبسة وغامضة، وربّما من غير السّهل تغيير واقعٍ بهذا الحجم من الهزائم والدّمار وتسلّط الأجانب وصراع القوى العسكريّة الدّخيلة، حتى مع الضربات التي يتلقاها النظام وجماعاته لإضعافِ مكامن قوّته؛ فالأمر معقّدٌ وأكبر من النّظام. لكنّ الصراع من أجل البقاء غريزة فيها أمكانيّة شحن المقاومة بطاقةٍ مستمرّة للنضال. الرّوحِ النّضاليّة يلزمها نضوج تاريخي بوعي الذات والثقة بها والاعتماد عليها في ثنائية الوحدة والتعدّديّة، وفي ثنائيّة الداخل والخارج. انهيارُ الواقع السّوريّ وتعثّرُ الثّورةِ لم يكن من فراغ، بل ارتبط، أيضا، بجهل الذّات والواقع سياسيّاً وتاريخيّاً، حاضراً وماضياً، وبجهل طبيعة المكوّنات الاجتماعيّة والسّياسيّة، وطبيعة القوى الاستعماريّة القريبة والبعيدة، الشّرقيّة والغربيّة، سواء المغطاة بعباءة الدّين أو المستورة بقشرة الديمقراطية، وكلها طامعة وناهبة. فالتاريخ الذي بين الأيدي ينشر الإحساس بالضآلة وانعدام القيمة والتّبعية..لذلك يحصل الفشل والتّردّي والانهيار. تاريخ مزور بأيدٍ عنصريّة لأطماع سياسية استعماريّة وعقائديّة. سوريا جزءٌ من أمة ضاربة في قِدَم التاريخ، قبل الإسلام ، وبعد الإسلام، ولا علاقة لعروبتها بحزب البعث ولا تمثّل داعش إسلامها. ولا يعني عروبة الأغلبيّة أو إسلامهم تفوقاً قوميّاً أو دينيّاً، أو اصطفاء، أو تسويغاً لنزعات انفصال عند الآخرين. أمة مولودة في خضم الصرّاع وفي قلب المتناقضات؛ لأنّها متنوّعة بالأعراق والملل، وغنيّة بالثقافة والإبداع؛ فقد كانت لقرون طويلة مركز الحضارة وشريان الحياة؛ فمنها بدأت الكتابة والعمارة وبدأ التوحيد والتشريع. ولأنها كذلك؛ فقد تعرضت لحروب كثيرة؛ لكنّها عضّت على نكباتها وصمدت على معاناتها في المحن ومازالت تقاوم. أمة لم تكن هائمة في الفيافي كما يجري تصويرها.. كانت ومازالت تعيش صراع التحضّر والتحرّر مع داخلها قبل خارجها، مع أبنائها قبل الغرباء. دورُها أنْ تناضلَ من أجل حريتها وارتقائها، ولكي توحّد كلمتها يجب أن تجاهد داخليّاً قبل أن تحارب خارجيّاً. وما تمر به الآن من محنٍ ونوازل هو لتخليها عن دورها التّاريخي وترك الزمام والقيادة بيدِ الجاهل والوغد والوضيع والانفصاليّ ومجهول الأصل والهوية. فبحجم مافي هذه الأمة من رسلٍ وأنبياء وحكماء وعلماء ومعتصمين بالوحدة، بقدر ما فيها من صراع مع الخائنين الفاسدين والضالين عن طريق الحق، وأصحاب الفتن والفرقة. صراع كبيرٌ لا يحسمه إلا الوعي التّاريخيّ والقيمي والتوحّد دفاعاً عن الكرامة والعزة والحق. . فالتّعايش الواعي الذي يحمل المسؤوليّة التّشاركيّة أساسيٌ لمجتمع سوريا وأمنها وسلمها الأهليّ. الفهم السّياسي بنيته فهم تاريخيّ. والانهيار السياسي في المجتمع السوري لن يتوقف حتى لو سقط النّظام، مالم يعيد السّوريون قراءة الذات والواقع، والنهوض بالرّوح الوطنيّة الجامعة من باطن هذا الألم وقبول التّعدّدية التي تجمع بدل ان تفكّك. يتوقّف بموجة قويّة جديدة من الثورة على الواقع والسلطات القهريّة القائمة والسلطات الانفصاليّة والموالية للعدو. فنضج المخيّلة الجمعيّة، هو الذي يغيّر . التغيير يُرى بحراكِه الجمعيّ، وعملِه الجمعيّ، لا بحراكِ فئاتٍ متناحرة وانفصاليّة تزوّر تاريخاً وتختلق جغرافيا جديدة.