أخطأتني القذيفة مرة اخرى وبددت جفلتي وفزعي بالايمان .
جربت التنفس كإختبار عاجل ونهضت من جديد في تحدي البقاء المؤقت !
هي الحرب اذن تراقصني من جديد وتذكرني بأوجاعي في البلاد التي تنزف منذ عقد الزمان وتعيد لي ما اجتهدت على نكرانه والقفز فوق حقائقه ، تشدني الذكريات الى حتفها وابحث في غبار هذه الحرب في اوكرانيا عن سورية وبقايا المسألة .
قبل قليل كنت اعد بمتعة الاشجار البولندية التي تعبر مسرعة من امام نافذتي في القطار في السهول المدهشة ، قبل قليل ايضا كنت اشرح بلغة انكليزية ركيكة للسيدة الشرطية في مطار ( وارسو ) انني شخص عادي لديه عمل ( غير عسكري ) على مقربة من هذه الحرب التي اكرهها وارى في ضحاياها صورة ضحايا بلادي ، وان هذه الحقيبة التي تتفحصين محتوياتها يا سيدتي هي حقيبة مسافر عادي لاشيء فيها يلفت الانتباه اللهم سوى رائحة تراب الارض في البلاد الجريحة البعيدة .
بالطبع انت لن ترين كإمرأة تحرس الحدود في حقيبتي سوى ارتيابك من غريب ، لن ترين الحزن والالم والوجع والذكريات ، لن ترين صور الاصحاب الذين غادروا ، ولا صور الاصحاب الذين يتناوبون على حراسة الامل .
انت لن ترين الهموم والاسئلة وحقيبتي محشوة بالهموم والأسئلة .
جواز سفري هذا الذي في يدك يا سيدتي اثخنته اختام وعيون واصابع رجال الشرطة في كل مطار أو ميناء أو حدود عبرت . كنت أظن أن السفر متعة ، عملي متعة ولكن يبدو أنه لم يعد كذلك ..
لقد تعبت من الشرح في كل مرة أنني لست نازحا أو هاربا أو مهربا او لاجئا أو مواليا أو معارضا أو سياسيا أو تاجر موت ؛ إنما انا مجرد وراق وصانع محتوى منفي برغبته يسافر كما كل أهل الارض وان هذه التأشيرات وسمات الدخول التي على جواز سفري حقيقية وليست مزورة .
لقد ضاقت بي الارض وسدت في وجهي الدروب ، حتى القلوب التي حاولت سكناها ضاقت بي ، هذه الحقيقة ليست مكتوبة في جواز السفر ياسيدتي بل هنا داخل يسار الصدر على جدار القلب ولا اظن بواباتك الالكترونية تتقن قراءة لغة هذه الحقيقة .
لقد تحول السوريون في نظرك ونظر الآخرين الى مرضى مصابين بوباء الطاعون ومن الواجب – يفكر ويمارس نظرائك في هذا العالم – إرسالهم إلى الحجر الصحي واذا (صادفت / صادفتم ) في يومياتكم حالة تشبه حالتي ( مواطن سوري عادي جدا ، يسافر بجواز سفر عادي جدا ، ويدخل المطارات ويعبر الحدود بشكل قانوني جدا كما كان يفعل منذ ربع قرن ) فهي حالة فريدة وغير واقعية ولا بد أنها مزورة ..
اظن أن لهذه الصورة ( التصور ) وظيفة واحدة وهي ان ننكر بلادنا التي نعشقها ونتبرأ من ذكر اسمها ، ولكن سيخيب ظن من فكر وعمل وساعد على ذلك فأنا والله لا اعرف مكانا اقدس منها ولا اعرف شعبا انبل من اهلي واصحابي وعلى كل حال اذا لم يبق من سوريا غير الغبار سأظل افخر انني سوري ، وفِي كل مرة اعبر فيها باب مخفر او بوابة مطار او رصيف ميناء سأرفع جواز سفري السوري بكل فخر كما لو أني ارفع صورة المرأة التي اعشق وأعلن ان هذه جنسيتي ولن استبدلها ابدا وان القتلة والطغاة الذين شوهوا حياتنا وصورنا وقيمنا وأيامنا ومستقبل اولادنا ليسوا منا وانهم الى زوال وان طال الزمن .
اعرف الكثير الكثير من القامات السورية المميزة والمشرفة في ابداعها وسلوكها وثقافتها وسمو اخلاقها وصبرها وقدرتها على تحمل الجور وايمانها بأن البلاد ( شرف ) وان الامل طاقة وكل ما عدا ذلك الى زوال ، في ضمير هؤلاء نستودع البلاد ، ننظفها على مهل من الضغاة والغزاة وتجار الحروب واللصوص والقتلة ونسترجعها اسمى واجمل .
اخطأتنيي القذيفة مرة اخرى ، اخطأتني الشرطية مرة اخرى
ولازلت ارعى الامل !
المقال السابق
المقال التالي