[ بقلم د. جمال الشوفي ]
بقي الحلاج يردد: “عجبتُ لكلّي كيف يحمله بعضـــي ومن ثقل بعضي ليس تحملني أرضــي، لئن كان في بسط من الأرض مَضْجَعٌ فبعضي على بسط من الأرض في قبضي” ولم تزل قصة السوري ثقيلة المسامع على اعلامي الدمى وشعراء الارتزاق ومطبلي السلط من أشباه المثقفين، وعلى صناع القرار العالمي، وعلى مرددي الكلمات الجوفاء والعابثين بالقيم المعرفية والإنسانية، ومع هذا بقي الحلاج حاضراً فينا يدور على عقبيه فنرتقي، مرة للسماء وجنانها الخالدة، ومرة لأعلى قيم الحضارة والإنسانية في القدرة على الحب والحرية والسلام والموت دونها، لا رغبة بالموت بل حباً في الحياة التي لا يرغبها لنا أصحاب الشهوات والنزوات من السلاطين والحكام وشعراء ومفكري ومثقفي بلاطهم….
لمكر في التاريخ، ولعهر في سياسات العالم المتغول، لم تزل صورة الطفل الحلبي الذي قضى شبه واقفاً بجوار حائط منزله عام 2016 بغارة جوية روسية، لم تزل عالقة في قلبي وخيالي تلسع موقع الحلم والرغبة فيّا فترديه جماداً ذو شرود لا ينتهي. فآلة الحرب الحرام أكلت حاضر الطفولة السورية ومستقبلهم الوجودي، فقط لأنهم أطفال سوريون عشقوا أرضها وظنوا أنها وطناً!
ليته كان عاموداً من أعمدة السماء، أو جبلاً من جبال الأرض، ليت الله وملائكته نظروا في عينه، أو حاول المطربون والشعراء الوقوف على اطلاله، ليته كان سراباً أو كابوساً ينقضي بانقضاء ليله؛ لكنه كان حقيقة، حقيقة تاريخ أمة وحاضرها الباحث عن موقع لوجوده الغض، لحلمه الصغير، لأن يكون طفلاً يلعب ويلهو، يدرس ويشاغب، يلعب مع رفاقه ويضحك حتى تصل ضحكاته أصقاع السماء فيبسم الله على حُسن صنعته..
بينما كان موت الطفل الحلبي، ومثله الألاف من طفولة سورية، كما الأشجار وقوفاً، يحرس تاريخها من السقوط، يحرس راية الثورة من التعثر، يموت ولا ينكسر، وثقوب حمزة الخطيب تئن لليوم في أذن سامعيه حين فتحت جسده الغض مثاقب الموت الكهربائي في المعتقل في بدءها، وثقوب الروح في نفوس مليون طفل سوري وأكثر باتوا يتامى حسب منظمة الصحة العالمية، ثقوب تنز قصة الألم، قصة الموت والنزوح السوري، لازال “مطبلي” الإعلام العربي وخاصة اللبناني يقرفون ويشمئزون من حياة لجوئهم في دول الجوار، وكأنه خيارهم!
فلا عجب ان تتناول من تسمي نفسها بالإعلامية اللبنانية “الكلاس” نضال الاحمدية بالقرف والإشئمزاز، فمناظرهم تجعلها تصوم عن أكل “الديلفري” الذي يوصله لها وأمثالها أطفال النزوح والهجرة السوري، وليتها كانت ذات نحافة، بقدر ثخانة في الروح والعقل والجسد أيضاً، ممتلئة بالسليكون وغيره. فقبلها كان مارسيل خليفة وغيره لا يعرفون عن أطفال سوريا شيئاً ولا عن قصة موتهم المعلن، وكان بعض الشعراء من سلالة القيم المهترءة ينشدون الغزل في الأنثى وعشتار وينصبون شراك اللغة أمام متذوقي الشعر فبدل أن ينهضوا بقيمة الإنسان وقيمة الأنثى وموقف الأطفال في محنة موتهم الكبير، كانوا ولازالوا يستمتعون بما يجنون من منابر تفتحها لهم سلطات القهر الشرقي ليصبحوا نجوم مسارحها، في مشهد أقل ما يقال عنه أنه انحطاط في القيم لما دون التسطح والهزالة، أليست الأنثى أم لطفل تغتاله طائرة؟ أليس الإنسان رجلاً يبكي وليده المدفون تحت الأنقاض؟ أليس الإنسان طفلا أراد الحياة فأردته القنابل العنقودية هنا وهناك؛
نحن بشر يا سادة نعشق مثلكم ونحس مثلكم ونتألم مثلكم، أم إنها السادية السياسية والنرجسية الرعوية الباحثة عن مملكة للرعي في صنوف البشر وكأنهم رعاع، هي الذاتوية التي لا ترى من الحياة سوى وهم صورتها عن نفسها متجاهلة كل محيطها الحي والبشري، وليتها كانت شعراً.
مات الطفل الحلبي قبل أعوام، وبقي واقفاً يحرس تاريخ حلب وآثارها القديمة، وبعدها دارت رحى الموت في أطفال الغوطة وكل بقاع سوريا وهم مصرون على أن يحرسوا بأجسادهم الغضة ما تبقى من قيمة معرفية للثقافة وحب الحياة بكرامة لم يستطع الكثير من “النخب الثقافية” حراستها أو الدفاع عنها. وهاهم مدعي الثقافة/ وثقافة السلط يتنافسون على حجوزات الفنادق وشاشات التلفزة للحديث عن الإرهاب ومكافحة الإرهاب والحل السوري المزمع، وبئس السياسة والاعلام والثقافة! وبعضهم يحضرّون مرة لمؤتمر للأقليات في مكان وندوة فكرية في الدمقرطة والعلمنة الشكلية في آخر، ومؤتمراً في موقع آخر يناهض الإمبريالية، ولربما يبسملون ويحولقون ويصلون لبوتين ربهم الجديد، رب النازية الجديدة بعد أن أفل عصرها حين سعت لدمار العالم فتدمرت هي ولم يبقى منها سوى ذكرها السيء.
الطفل ليس نكرة ولا متسخاً يا سادة، انما فقط نفسه تأبي العازة، فقد بات أباً يرعى أخوته، ونفسه عصية عن الانكسار والاستعطاء، هو نازح يعمل في دياركم بعد أن كان ابن عزة وكرامة، فمرة يموت واقفاً ومرة تتقاذفه الأقدار للجوء ويبقى حراً رغم هول مظالمها، رغم قصص موتها الجماعي والفردي. لنحسبها قليلاً، فقبل نزوحهم مرت سبعة أعوام تساوي 84 شهراً من الحصار والجوع، وتعادل 2555 يوما من الرعب، من ليال الموت ومخالب الهواجس: متى يُدق الباب فتدخل البيت قوى جراد الأمن تعتقل وتغتصب وتفتك بالصغير قبل الكبير؟ ومتى تمطرك الطائرات قنابلاً بدل المطر؟ أتراه السقف سينهار من جهة النافذة ام جهة الباب؟؟ وسيل أسئلة الرعب لا ينتهي، وصبر السوريون وايمانهم بحريتهم وعدالتهم لا حدود له، فاق صبر أيوب ويوسف، ولازالت قميص يوسف تنتظر من يمسك بها فترميها على فاقدي البصر والرؤية علهم يقولون أنها الكلمة لازمة حياة، أرادوا قتلها بكل الوسائل والطرق، وقد شارك فيها أيضا كل من اعتبرها ممراً لنزواته وذاتويته المفرطة بضخامة الأنا الهزيلة، فكان هو أولا وأطفاله أولا قبل الآخرين ودون الآخرين؛ مروجاً لقيم الانتهازية والانتفاعية والمراوغة بذات الكلمات التي يموت لأجلها السوريون: الحب والحرية والسلام، وشتان بين كلمة جوفاء تلفظ وبين كلمات تحرس المعنى وتسكنه وتعيش فيها ومنها وتنتصر لها ومنها..
إقرأ أيضا : لا شيء يعلو على قضية الثورة والوطن الحر
ملاحظة : يسمح بالإقتباس مع وضع رابط المصدر