[بقلم الدكتورة سماح هدايا]
“كانوا يغنون بشكلٍ مختلف.كانت أفواههم وهي تصرخ بتلك الآهات،تحمل معنى ألم الإنسان.
عبد الرّحمن منيف، شرق المتوسّط”
هل نستطيعُ أنْ نغني يوماً بفخرٍ وسلامٍ نشيداً وطنياً لأرضِ سوريّا كلِّها وشعبِها كلِّه، بضرباتِ قلبٍ واحد، وإيقاعِ دمٍ واحدٍ وعلى وتر لغةٍ عاطفيّةٍ واحدةٍ بعدَ هذا العناءِ الطّويل؟
يبدو الأمرُ صعباً في ظلِّ ما نعيشُه كسوريين من غربةٍ وتشتّتٍ واستقطابٍ حادٍ في مشهدِ الضّياعِ والعبثيّةِ واللا يقين الذي تستقرُّ عليه السّاعةُ الزمنيّةُ الآن. ربّما في أحسنٍ الأحوالِ سيتفقُ بعضُ الجبناءِ المرتدّين عن الحقِّ والمروءةِ على إيقاع نفاقٍ ونميمةٍ واستغابة، ويتّفقُ آخرون من الخاذلين الفاشلين على نواحِ اليأسِ والخيبةِ والمأساة. أما الناهضون بأعباءِ الحريّةِ والإنسانيّةِ برؤوسهِم المرفوعةِ التي تأبى الذّلَ والضّيمَ والرّياء، فصوتُ غنائِهم الصادقِ سيبقى مغرّداً خارجَ السرّب لكنّه دليلُ الحريّة…
من الخطأ أن تكونَ مشاعرُ “الآن” العبثيّة، أو أحوالُ القهرِ والمداهنةِ والمكيدةِ هي شكلُ الخاتمةِ ونهايةُ المصير… في أصعبِ اللحظات يجبُ ألا نموتَ مهزومين أو أذلّاءَ أو جبناء منافقين. وما ماتكلّم به المتنبي خيرُ حافزٍ لرفعِ صوتِ المقاومةِ والشجاعة:
( وَإذا لم يَكُنْ مِنَ المَوْتِ بُدٌّ * فَمِنَ العَجْزِ أنْ تكُونَ جَبَانَا)
ولأنّ النهايةَ كما يقالُ أختُ البدايةِ…فنهايةُ القصّةِ السّوريةِ مربوطٌ ببدايتِها؛ بالإنسانِ الباحثِ عن ذاتِه وكرامتِه وحريتِه، الرافضِ لذلّهِ ومهانتِه وتفرّقِه. وليس بتغريبةِ من سار ضدَّ أخيه يغدرُ به ويخونُه، أو خبّأَ وجهَهُ بعيدا عن إغاثة أخيه؛ فهذا مسار المنافقين الذين فسدت قلوبهم يعيشون بنار الفتن والحروب.
النفاقُ داءٌ خطيرٌ ابتُليِتْ به سوريا بابتلائِها بنظامِ الاستبدادِ والتبعيّة، نخرَ في مجتمعِها وبدّدَ كثيراً من المعاني الإنسانيّةِ، وقد ظهرَ أثرُهُ الفتاكُ شديداً في الثّورةِ وحربِها التي مزّقت البلادَ ومزقتْ معها طيبةَ القلوبِ وصدقَ الضميرِ وصفاءَ الإيمانِ، واستقرَّ في جبنِ النفوسِ التي أذلّها الخوفُ فوقفتْ ضدَّ الحقِّ، وانجرفتْ إلى حروبِ الكراهيةِ. واستفحلَ النّفاقُ باستبدادِ النّظامِ الحاكمِ وفسادِه، ونجحَ الطاغيةُ مدعوماً بعصابتهِ الداخليّةِ والخارجيّةِ في استخدامِه للكيدِ ضدَّ الشّعبِّ متذرّعاً بشرعيّـتِه السّياسيّةِ لمحاربةِ الثّائرين الذينَ وصفَهم بإرهابيين يهدّدون أمنَ البلاد؛ فانكسرت الثّقةُ بين الناسِ، وازدادوا انقساماً بالاصفافِ ضدَّ بعضهِم والتّطاحنِ فيما بينهم. فإنْ كان إيقافُ الحربِ قراراً خارجيّاً؛ فالحربُ الداخليّةُ إيقافُها قرارٌ داخليٌّ شعبيّ. وحربُ الإنسانِ ضدَّ الإنسانِ قرارُها أخلاقيٌّ وبخيارٍ إنسانيٍّ. وفاتحةُ ذلكَ كلِّه إسقاطُ نظامِ الاستبدادِ والقهرِ الذي أسّسَ النّفاقَ سلوكاً ومبدأً ودعامةً لإحكامِ قبضتِه وتسلّطِه.
يندرُ أنْ يتفقَ أبناءُ شعبٍ منقسمٍ ويتّحدوا، وبينهم تقفُ ذاكرةٌ واسعةٌ تعجُّ بمشاهدِ الجريمةٍ وبصورٍ مخيفةٍ لضحايا قُتِلتْ وعُذِّبتْ وحُطِّمتْ عظامُها، وصارتْ أجسادُها رفاتاً تبعثرَ في قبورٍ مشتّتةٍ على امتدادِ مكانٍ لا يسعُها. محالٌ أنْ يتصالحَ شعبٌ مع مجرميه ويجتمعوا على غناءِ نشيدٍ مشتركٍ لأرضٍ واحدةٍ وكلمة واحدةٍ، فبناءُ الحقِّ لا يُشادُ على باطلٍ، والوحدةُ الوطنيّةُ لا تسقيمُ بالرياءِ والنفاقِ، والتصالحُ لا يثبتُ في ظلَّ نظامِ القهرِ والقتل والغدرِ. لا يتحرّر البلدُّ ويتوحّدُ شعبه والطاغيةُ المدعومُ من الأعداءِ على عرشِهِ، والنفوس مقهورةٌ والظالمون طلقاءٌ من دون محاسبةٍ، وقلوب كثيرين تغصُّ بالحقدِ والخداع. حبُّ البلاد، ليسَ بالتّظاهرِ ولا يكون رياءً ولا بالكلماتِ والشّعاراتِ. هو صدقُ القلبِ والعملِ ونبالةُ الفعلِ والغايةِ وشجاعةُ الدّفاعِ عن البلاد وأرضها وأهلها بالحقِّ.
النفاقُ لمّا ينتقلُ من الخاصِّ إلى العامِّ، ومن الفرديّةِ إلى المجتمع؛ يصبحُ دعامةَ الاستبدادِ السياسيّ والاستغلال الإنسانيّ وسندَ القهر؛ كنفاقِ طبقاتٍ من المثقّفين ورجالِ الدّينِ والسّياسيين والإعلاميين والمترفين، وكنفاقِ السّفلةِ والرّعاعِ من الناسِ، الذين في طرفِ الطّاغيةِ أو الذين التحقوا بموجِ الثورةِ لمنفعةٍ ومصلحة؛ فقد تاجروا بالألمِ السّوريِّ وبقضيةِ الوطنِ وقضيّةِ الدّين وقضيّةِ الهوية، واستثمروا استثماراً وضيعاً. جمهور من نساءٍ ورجالٍ نطّوا من سطحِ النظامِ وتصدّروا صفوفَ المعارضةِ، ثم انقلبوا على الجميع، وجعلوا أنفسهَم في كنفِ أنظمةٍ أجنبيّةٍ تستغلّ الحربَ السوريّة، ليجنوا منها نفعاً خاصاً، واربوا الناس، ولم يقفوا صادقين إنسانياً وأخلاقيّاً وسياسيّاً مع الحراكِ الوطنيِّ الشعبيِّ، بل تلوّنوا بحسبِ مصالحِهِم متظاهرين بقيمِ الحريّةِ والثورةِ، وكانوا ذا خطر ٍ كبيرٍ على الثّورةِ وعلى الرّوحِ الوطنيّةِ.
مفارقاتٌ غريبةٌ تخرجُ كلّ يومٍّ من قناعِ النّفاقِ، آخرُها ما انكشفَ في حدثين اثنين: أوّلُهما؛ الموقفُ من انتخاباتِ الطّاغيةِ في سوريا، وذلك بتأييدِه وانتخابِه من بعضِ اللاجئين السّوريين الذين حصلوا على اللجوءِ بسببِ الحربِ التي شنّها النظامُ على شعبهِ، وبسببِ الخطرِ على حياتهم في ظلّ بطشِه. خرجوا ينتخبونَه رئيساً وهم هاربون منه ومن حكمِه، فأيّ حجّةٍ وضيعةٍ في هذا سوى النّفاقِ والمكيدة؟. والثّاني الموقف من الحربِ في فلسطين وغزة؛ بخروج حشودٍ من السّوريين في الخارجِ نصرةً لحقوقِ الشّعبِ الفلسطينيّ ضدَّ محتلٍّ عنصريٍّ يقصفُ الناسَ الأبرياءَ ويقتلهُم ويهدّ فوقَهم مدارسَهم وبيوتَهم ومستشفياتِهم. كانَ يمكن أن يقال فيه موقفَ حقٍّ صادقٍ، لو أنّهم فعلوا الشّيءَ نفسه، من قبل، في شأنٍ أخلاقيّ مشابهٍ له، وتظاهروا احتجاجاً على نظامِ الطّاغيةِ بشار ورفضوا استبدادَه وظلمَه وحربَه على شعبِه. لكنّهم، فعلوا عكسَ ذلك، أيدوه، أو لم يجدوا مشكلةً أخلاقيّةً أو وطنيّةً في تعسّفِه ووحشيتِه، وصمتوا عن إدانتِه، وسكتوا على ظلمِه واعتدائِه على السّوريين وقتلهِم، وعلى تدميرِ سوريّا بالقصفِ والتّرهيب. فكيف يأمنُ السّوريّ على نفسه من سوريٍّ مدّعٍ منافقٍ يخونُه ويغدرُ به ويجبنُ عن نصرتِه في الحق والمظلوميّةِ؟ كيف يثقُ بأخلاقِ سوريٍّ يدّعي التّعاطفَ والشفقةَ والرّحمةَ، ولم يخبُرْ من أفعالِهِ سوى الكراهيةِ والظّلمِ والغدرِ وإنكارِ الحقَّ.
الأمراضُ الاجتماعيّةُ الكثيرةُ التي غزتْ السّوريين، لا يمكنُ القضاءُ عليها بالمؤسّساتِ القانونيّةِ وحدِها. المؤسّساتُ الثقافيّةُ والاجتماعيّةٌ لديها الدّورُ الأكبرُ والمهمّةُ الأصعب، لتعيدَ تنشئةَ الإنسانِ على الضّميرِ الأخلاقيّ وتعدَّه على الأُلفةِ الاجتماعيّةِ والإحسانِ والتّعايشِ الرّحيمِ مع أخيه الإنسانِ واحترامِ حقوقِه. وإلا ستستمرُ الأحقادُ فاتكةً بالمجتمعٍ وسلامِه وأمنِه واستقلالِه. السّلامُ ينبثقُ من قلوبِ النّاس الصّادقةِ، قبلَ أنْ تفرضَه قراراتٌ دوليّةٌ وتعملَ عليه جمعياتٌ ومنظّماتٌ عالميّةٌ لا تسلمُ من الشّبهات. المنافقون لا قلوبَ لهم فقد جفّتْ ضمائرُهم وتيبّسَ إيمانُهم، لا يفعلون إلا ما يخدمُهم ولو بالتّخريبِ والتّدميرِ والتّظاهرِ بعكسِ ما يبطنون من شرور. التّخلّصُ من الاستبدادِ السّياسيّ هو تخلّصٌ من الاستبدادِ الاجتماعيّ والثقافيّ ومن الرّياء والنّفاقِ وتزييفِ الأخلاق.
حقُّ الحياةِ ما يجبُ أن يجمعنَا كبشرٍ ويجمعَنا كسّوريين للدّفاعِ عن بقائنِا كإنسانِ حرٍّ وذاتٍ إنسانيّةٍ كريمة. ربّما لا مكانَ للمثاليّةِ السّياسيةِ على الأرضِ وقدْ لا تبقينا وطنيتُنا الصّادقةُ وإنسانيتُنا في هذا الزّمنِ اللئيمِ على قيدِ الحياة، وقد ندفعُ حياتَنا وسلامتَنَا ثمناً لها، لكنّها تمنحنا معنىً نبيلاً للحياة ومعنىً إيمانياً للموتِ وفخراً بالنّفس. علينا أن نقفَ ونرفضَ ما صرْنا عليه من سوءٍ وهوانٍ وكراهية، وأن نعالجَ أسبابَ النّفاقِ ونحاربَ المنافقين كما نحاربُ الأعداء، فهما سواء.