وجع الوطن السوري
[ بقلم : د .محمد حاج بكري ]
الحقيقة في سوريا مسكونة بوجع الناس ومعاناتهم والآمهم لعشرات السنين، ولها طعم مغاير لما قد يتصوره من يمسكون بزمام الأمور في البلاد وما يعتقده محترفي الدجل السياسي، الذين فقدوا ضمائرهم وعقولهم وإحساسهم بقيمة الوطن والمواطن، الحقيقة لم يعد لها مكان في بلد تنهشه الفوضى والفساد وانتشار فيه من يمارسون الإفساد، الحقيقة لم تعد تجد من يبحث عنها بعد أن انقلبت موازين العدل والمساواة وسلبت الحقوق واستبدلت القيم وتغيرت أحوال الناس، والحقيقة اختفت عندما أصبح اللصوص وقطاع الطرق وعبيد الحاكم وجواريه، هم من يسيطرون على معظم مفاصل البلاد ويتحكمون في أهلها ويرغمون الشعب على قبول الواقع المخزي الذى شيدوه على جماجم ضحاياهم، والحقيقة تم اغتيالها عن سبق تعمد وترصد عندما جرى الأستسلام للظلم والقبول بالغبن تحت مسميات الواقعية السياسية.
لقد ظل الحاكم الموبوء بداء النرجسية والعظمة وانعدام البصيرة، يمارس ساديته بالوراثة على مدى خمسة عقود كاملة ويستعذب اللعب على وتر الأزمات المتلاحقة، التي أكلت الأخضر واليابس في حلقات مفرغة لم يكن هدفها وغايتها الوطن والمواطن، وكان فعله السياسي الذي يدير به أزمات البلاد والعباد يعتمد على القمع والعنف وشراء الذمم وتسخير الثروة المنهوبة لخدمة البقاء في السلطة، ولم يتورع بين الحين والاخر وعندما يزداد هوسه عن فتح الجروح ونكأها في جسد المجتمع حتى تهلهل ويكاد أن يصبح عصيا على العلاج والشفاء.
خمسون عاماً تم فيها التمترس خلف ترهات عقيمة وسياسات فاشلة، واختزل الوطن في شخص واحد وأصبح القبول بذلك كأمر مسلم به، وبقي الأشخاص الذين جاء بهم وصنعهم الأسد الوالد والولد ووضعهم على هرم السلطة وفى كل جنباتها هم ذات الأدوات التي تتولى تسيير الأمور لأكثر من خمسة أجيال، وظل اللصوص وتجار الشعارات عاما بعد عام ولعشرات السنوات يعيدون خلق أنفسهم وفرضها على المواطنين، وتكررت أزماتهم في التعامل مع المجتمع بوسائل التسلط وامتلاك الحقيقة “الثورية”، حتى فقدوا بوصلة الأتجاهات وتاهوا في صحراء عبادة الفرد والولاء له، هذه الشراذم المتسلطة بكل الاسماء القبيحة التي اختاروها لأنفسهم، تكتلوا للدفاع عن مصالحهم الشخصية ، منعوا وصول الضوء والنور خارج إطارهم الديماغوجي المغلق، وظلوا يجيدون التغني بالشعارات بدون تطبيقها ويتفننون في اختلاق الأزمات وليس حلها، بل أنهم إرتضوا لأنفسهم أن يكونوا جزءاً من المشكلة ولم يفكروا إطلاقاً في أن يكونوا جزءاً من الحل فكان أدائهم اجراما لأنعدام استشعارهم وإحساسهم بالمسؤولية الفردية والجماعية تجاه الوطن وأهله.
خمسون عاما نهشت من جسد الوطن حتى يكاد أن يكون جثة هامدة أو جسد مشلول، مثخن بجراح عديدة يصعب مداواتها وتضميدها جسد أرغم الكثير ابنائه الأحرار والشرفاء والمخلصين على مغادرته والكفاءات على الفرار منه إلى الخارج، وانكفأ الكثيرون ممن بقوا في داخله على أنفسهم حتى لا يلوثوا أيديهم بأدران الدنيا وعفن المصالح الشخصية ونأوا بأنفسهم عن عبث الواقع الممسوخ، وأصبح الوطن بيئة طاردة لكل من يريد أن يبنى صرحاً أو يشيد طريقاً على أسس سليمة.
خمسون عاما تم فيها الإنصراف عن معالجة جذور المشاكل التي أوصلت الأوضاع فى سورية إلى ماهي عليه من تردى وإنهيار، فالسلم الإجتماعي والولاء الوطني لم يكن في أي يوم من الايام محروسا بالممارسات السياسية السليمة، وتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير فرص الأمن والحياة المعيشية الكريمة، وجعل المواطنين يشعرون بأنهم شركاء في الوطن وليسوا مجرد عبيد في حقل تجارب للدكتاتور، وأدوات خاصة به يستخدمها للتعبئة ضد عدو يتم خلقه كل يوم بسبب جنون العظمة ولممارساته الظالمة والسياسات الخاطئة في داخل البلاد وخارجها.
خمسون عاما لم يعد فيها الصمت ولا الصبر مفتاحا للفرج ولا بوابة للنجاة، ولم يعد فيها انتظار المنقذ وتوقع وقوع المعجزة من السماء أمر يمكن حدوثه، لأن الله وهب الحرية للبشر ولم يرد لهم أن يكونوا عبيداً إلا له وحده، وأن لا يخضعوا لرحمة أحد من دونه ، ولا لسلطان غير سلطان الله، وأن يستخدموا عقولهم التي فطرها الله على الخير ومحاربة الشر، الكل أمام الخالق سواسية، وهذه المساواة التي خص الله بها البشر تعنى العدل، والعدل يتطلب ويستدعى ويحتم الوقوف في وجه الظلم والغبن ومن يمارسونه مهما كانت التضحيات، ويوجب ضرورة استرداد الحقوق المسلوبة بكل الوسائل المشروعة مهما كانت النتائج، إنها المسؤولية والتكليف من الله لعباده، فلنكون جميعا على مستوى هذه المسؤولية وهذا التكليف.
ولنكن على مستوى التضحيات والشهداء التي قدمت لهذا الوطن.
د محمد حاج بكري
إقرأ أيضاً : ممنوع الفرح على السوريين
[…] إقرأ أيضاً: وجع الوطن السوري […]