فيما يصرّ ( البروليتاري الرثّ) على أن ثورة السوريين كانت ثمرة لنضاله التاريخي ضد البرجوازية، ويحاول – لإثبات ذلك – حشد العديد من الأحداث والعيّنات الشخصية والأسباب التي يعتقد أنها أضحت بمثابة براهين عقلية، كمعادلات الرياضيات، ولا يمكن للشك أن يأتيها من بين يديها أو من خلفها، يحاول من جهة أخرى، وبدرجة الإصرار ذاته، (المجاهد الإسلامي )التأكيد على أن ثورة آذار 2011 ، هي إيذان حقيقي بارتفاع صوت الإيمان بمواجهة الكفر، وأن المحرّك الأساسي لانتفاضة الشعب السوري هو إصرار الشعب المسلم في سورية على إسقاط نظام البعث الكافر، وإقامة الدولة الإسلامية التي تستمدّ مواصفاتها ومقوّمات وجودها من شرع الله، بل لا يتردّد كثير من الإسلاميين عن التأكيد بأن ثورة السوريين في ربيع 2011 هي امتداد ل(ثورة الثمانينيات) أي المواجهة الدامية التي حصلت بين جماعة الإخوان المسلمين والسلطة آنذاك. وبين هذين النموذجين ( البروليتاري والمجاهد الإسلامي) يبرز نموذج آخر، ولكن صوته أكثر خفوتاً من أصوات النموذجين السابقين، ويجسّد صاحب هذا الصوت ( المناضل القومي العربي) الذي لا يرى في مجيء الثورة السورية ضمن سياق ثورات الربيع العربي، سوى يقين ناصع على وحدة الشعور القومي، وتلازم النضال العربي من اجل نهضة الأمة، فليس من قبيل الصدفة، وفقاً لهذا النموذج، أن تبدأ الثورة من تونس، ثم تليها مصر، ثم ليبيا ثم اليمن فسورية إلخ، وبالتالي فإن النفوس التي تتطلّع إلى توحيد الأمة العربية من المحيط إلى الخليج آن لها أن تستيقظ من جديد.
ما يجيز لنا تكرار هذه السردية التي باتت من العلائم الدالّة على حالة البؤس الثقافي والفكري، فضلاً عن كونها أضحت عائقاً أمام أي حراك مجتمعي جديد، هو أن الخطاب النخبوي الراهن، بكافة تنويعاته الفكرية والأدبية والسياسية، ما يزال يستقي مضامينه من نسغ تلك السردية، وإن لم يتجّسد ذلك بطريقة مباشرة، فهو حاضر بقوّة، بطرق شتى، فكم من رواية أدبية مطبوعة حديثاً، تتحدّث عن سنوات الثورة وسيرورتها، وهي بذلك تسعى إلى أن تكون وثيقة فنية للثورة، أظهرت وبوضوح شديد، أن أبطالها الذين جسّدوا نضارة الثورة ونبل أهدافها، إنما انبثقوا من أوساط يسارية شعبوية، وقادهم وعيهم الثوري العفوي إلى الانخراط في الثورة، ومن ثم اصطدموا بالتشكيلات التي تمثل القوى المضادة للثورة ، أي قوى الإسلام السياسي والجماعات المتطرفة الأخرى، ثم انتهوا إلى مآلات مأسوية توازي المآلات الراهنة للثورة، ولكن بكل الأحوال يبقى هؤلاء الأبطال – النماذج – على الرغم من تلاشيهم أو تشرّدهم في بلدان اللجوء، هم الضمير الحيّ للثورة، ولن تقوم للثورة قائمة إلا باستعادة الصوت الغائب لهؤلاء البروليتاريين الصناديد. وفي حالات أخرى، غالباً ما نقرأ أو نسمع قصائد شعرية عديدة، تسعى لأن تكون نتاجاً إبداعياً موازياً لإبداع السوريين في تضحياتهم وصمودهم في وجه آلة القتل الأسدية، إلّا أننا لا نجد في هذه القصائد سوى ضجيج عاطفي وصخب حماسي ينذر تارةً بعودة صلاح الدين ليحرر القدس من جديد، وتارة يجسّد المارد المسلم وقد بدأ يهوي بفأسه على أصنام الكفر والوثنية، وتجليات مضامين كهذه، لم تكن محصورة في جنس أدبي محدد، بل هي تتكرر في العديد من الأنواع الأدبية الأخرى ، كالمسلسلات الدرامية والمسرحيات والأغاني، إلى درجة بات فيها الثوار السوريون مصلوبين في ( براويظ) مرسومة بإتقان، فالثائر إما أن يكون مسلماً عقائدياً متزمتاً لا يرضى بما دون الجهاد في سبيل الله، ولن يهدأ إلا حين يرى راية الجهاد خفّاقة فوق حطام العروش الكافرة، ولن تنهض دولة الخلافة المنشودة إلّا على أنقاض هذا العالم الكافر، وإما أن يكون متهتّكاً ملحداً متمرّداً على أية قيمة مجتمعية، لا تظهر ملامح ثوريته إلا من خلال تحدّيه لأي رمز ديني أو قيمة إجتماعية، ينطلق به وعيه الثوري كالبرق، من كشّاش حمام او حشاش، إلى قائد ثوري، ومنظّر سياسي وفكري عتيد، لا يرى في العلمانية سوى حقوق المثليين، أو أن يكون مسكوناً بالحسّ القومجي التقليدي، الذي يغذّيه على الدوام إحساس بالعجز عن الفاعلية،نتيجة اغتراب أفكاره ومعتقداته عن الواقع، وإصراره على أن استحضار كل ما هو عظيم في تاريخ الأمة، كفيل بتغيير راهنها البائس.
واقع الحال يؤكّد أن أصحاب المخيال الإيديولوجي يصرّون على ألّا يروا في ثورة السوريين سوى مرآة لتشظيات خيالهم المهزوم، ذلك أن ( الإيديولوجيا المهزومة) غالباً ما تتحوّل عند البعض إلى حالة مرضية لا تنحصر تداعياتها على سلامة التفكير فحسب، بل تتحول إلى انفصام نفسي وأخلاقي معاً.
ما لا يريد أن يدركه أصحاب المخيال الإيديولوجي هو أن انطلاقة جيل الثورة السورية، وتخطّيهم لجميع كوابح الخوف والتردّد، وانخراطهم في حراك ثورات الربيع العربي، إنما كان مشروطاً بالقطيعة مع رواكم الإيديولوجيات السابقة، وكذلك بإصرارهم على أن يروا واقعهم المعاش من خلال منظارهم الراهن ووعيهم المحايث للواقع المعاش، وليس من خلال النواظير المؤدلجة الصدئة. ولعلّ هذه الإنبثاقة غير العقدية للثورة، قد أربكت العديد من قوى وأحزاب المعارضة السورية إبان الأشهر الأولى، وجعلتها تعيش حالة تردّد وتخبّط، دون أن يكون لديها موقف متبلور في تقييم ما يجري، ذلك أن هذه القوى والأحزاب كانت قد أفرغت جميع حمولاتها السابقة، دون أن تتمكن من تحقيق أي منجز على المستوى الوطني الملموس، وحين أرادت اللحاق بركب الثورة، لم يكن لديها من روافد نضالية سوى حمولتها الإيديولوجية التي حاولت شحنها من جديد، ظنّا منها أن تلك الحمولة ستكون عامل تثقيل للعمل الثوري، بينما واقع الحال يؤكّد أن محاولة حشْر الصور الجديدة للوعي الثوري في ( براويظ) قديمة، ما هو سوى شكل من أشكال تزييف هذه الثورة، والاعتداء على قيمها الجوهرية.
ولئن كان الحديث عن أدلجة الثورة، من خلال تشويه ملامحها الحقيقية، وإعادة إنتاجها وفقاً لرغبات أصحاب الخيال المهزوم، يبدو أمراً موجباً، فهل هذا يعني أن الإيديولوجيا، سواء بنسختها الإسلامية أم الشيوعية أم القومية، هي شرٌ مطلق؟ وهل يوجد إنسان يفكر ويعمل ويسعى لتحقيق هدف ما ، بدون حامل إيديولوجي؟ وهل بوسع المرء التخلي الكلّي عن النزعة الإيديولوجية كجانب عقدي، فكري أو ديني؟ الجواب : طبعاً لا، ذلك أن الحديث عن التعاطي الإيديولوجي مع الواقع شيء، ووعي الإيديولوجيا شيء ثانٍ، وفي هذه المسألة حديثٌ آخر .
كاتب وباحث سياسي
المقال السابق
المقال التالي