نتائج عكسية للحرب الروسية وفشل في تحقيق الأهداف المنشودة

في 24 شباط الفائت، دخل العالم الحديث حقبة جديدة في النظام العالمي. فباعلان روسيا الحرب على اوكرانبا، تحولت المنافسة بين الطرف الروسي و الطرف الغربي الى صراع مفتوح مسرحه أوروبا.
و مع اطلاق أول صواريخ روسية، سقطت المحرمات الدولية و التوازنات القائمة خصوصاً بعد الحرب الباردة. و أفضل وصف هو لأولاف شولتز رئيس حكومة ألمانيا الذي أعلن بأن “محاولة بوتين محو بلد عن الخارطة هو تدمير للتركيبة الأمنية الأوروبية”. فبالرغم من أنه وقعت حروب في أوروبا بعد نهاية الحرب الباردة عام 1989، الا أنها كانت اما تكملة لمشاكل نشأت خلال فترة الاتحاد السوفياتي، أو تكملة لانشاء الهندسة الأمنية الجديدة في أوروبا ما بعد الحرب الباردة، و بقدرات عسكرية محدودة. و كانت كل هذه الحروب تحت سيطرة الدول الكبرى و مفاعيلها محصورة محلياً أو اقليمياً. أما الحرب الأخيرة، فهي حرب كبرى تستخدم فيها امكانيات عسكرية عالية، و أهدافها تلغي كل الهندسة الأمنية القارية و العالمية، و فيها خطر امتداد المواجهة المسلحة لتشمل قوى عظمى مع قدرات نووية عن طريق الخطأ.
و لكي نحاول مقاربة النتائج الممكنة للحرب المستجدة، لا بد أن نسلط الضوء على أسبابها – المعلنة أو غير المعلنة. ففي خطاب الرئيس بوتين الذي مهد للحرب، كان واضحاً امتعاضه من توسع الناتو شرقاً واعتباره تهديداً للأمن الروسي، و ادعائه باخلال الناتو لتعهداته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بعدم التوسع شرقاً. و يرى أيضاً بأن أوكرانيا هي جزء من روسيا الكبرى حيث تتشاركان التاريخ و الأصول الشعبية، و لذلك يجب تصحيح الأخطاء التي أدت الى انفصالها. و يتهم بوتين القوميين الأوكران الذين وصفهم بالنازيين بالقيام يمجازر ضد الشعوب المطالبة بالوحدة مع روسيا في الدونباس شرقاً.
الا أن الآراء المخالفة لهذه النظريات لها خلفيات معاكسة. ففي مسألة توسيع الناتو، لم تتضمن الاتفاقية الموقعة عام 1990 أي بند يمنع تمدد الناتو شرقاً فيما عدا عدم نشر قوات غير ألمانية في شرق ألمانيا. و تلت هذه الاتفاقية موافقة الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين عام 1997 على دخول دفعة جديدة من الدول السوفياتية السابقة الى الناتو. تجدر الاشارة انه بالرغم من ذلك، و في السنوات التي لحقت، لم يشجع عدد من الدبلوماسيين الغربيين المخضرمين مثل كيسينجر و بريجينسكي، كل عمليات توسيع الناتو شرقاً بالرغم من قانونيتها.
و في مسألة ضم أوكرانيا من جديد، فيعتبر بعض المؤرخين بأن اللغة و الثقافة و الكيان الأوكرانيين موجودين منذ القدم ابان تأسيس كييف، و قد تفرعت منها الشعوب السلافية الى موسكو لاحقاً. كما يرون في نظرة بوتين نظرة امبريالية، تعود الى نظرة الامبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر حين خنقت محاولة اقامة كيان مستقل.
أما في مسألة المجازر ضد الانفصاليين في الدونباس، فتنفي منظمة الأمن و التعاون الأوروبية، التي تملك مراقبين في الدونباس، وجود أي دلائل حول هذا الموضوع. كما أن العديد من التقارير التي كشفت عنها الصحافة الغربية تتهم موسكو منذ عدة سنوات بدعم و تمويل اليمين المتطرف في أوروبا و أميركا و تدريب بعضهم في مناطق الانفصاليين في الدونباس بغية زعزعة الأمن الغربي.
لذلك، و مما تقدم، يجمع عدد من الخبراء بأن لدى روسيا دوافع اضافية لغزو أوكرانيا. فعدا عن البارانويا التاريخية لروسيا بسبب الحروب العديدة التي شهدتها منذ أيام امبراطوريتها، انها لم تتخلص من شعور الاذلال و الهزيمة الذي شهدته بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، خصوصاً أن بوتين هو منتج من الحرب الباردة و نظرته للعالم تدور حول عظمة روسيا و الرغبة بدور واسع على الساحة العالمية، و قد عبّر مراراً عن مرارته لما حل ببلاده. و أيضاً، وجود دولة مجاورة مع نسيج مماثل للمجتع الروسي تطمح للديمقراطية و النظام الغربي تشكل خطراً على نوعية الحكم الروسي. و أخيراً، تضيف صحيفة “تايمز” بعداً شخصياً لقرار الغزو، فبوتين صار عجوزاً و يبغي انهاء عهده بانجاز يضعه بين العظماء و الوقت يداهمه.
غير أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن. فمنذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، بدا واضحاً بأن روسيا تحاول شن حرب خاطفة تضمن لها ربحاً سريعاً عبر اغراق الخصم من عدة محاور، و اضعاف معنوياته و السيطرة على العاصمة كييف لتغيير النظام، و بأقل كلفة ممكنة. و ربما كان في الحسابات الروسية أيضاً، بأن غزوأً بضحايا أقل للجانبين يوفر عليها النقمة الداخلية و الضغوطات الدولية، و يحرم الناتو من الوقت الكافي لاتخاذ اجراءات عقابية لم تكن موسكو مقتنعة بأن أوروبا قادرة عليها أساساً نظراً للوضع الاقتصادي الصعب و الخلافات العديدة داخل الناتو و داخل المجتمعات الغربية، عبر فرض أمر واقع جديد يتم التفاوض عبره
أثبتت المراحل الأولى للهجوم نقاط ضعف عديدة، من الاقتحام عبر قطع غير مدعّمة، الى ضعف في التنسيق و دمج الأسلحة، الى ضعف في الرؤية الليلية مما أثر على وتيرة التقدم، و الأهم، ضعف فاضح في الدعم اللوجستي. يمكن القول بأن الروس ارتكبوا خطأً سيكون مكلفاً الاستخفاف بقوة الخصم، و الثقة المفرطة في امكانياتهم
بالاضافة الى الخسائر العسكرية، لقد أنزلت دول غربية و غيرها عقوبات دولية غير مسبوقة على روسيا بسبب الحرب و التي حملتها أخيراً الجمعية العامة للأمم المتحدة مسؤوليتها، تطال قطاعات النقد و البنوك، التكنولوجيا، الطاقة، النقل، التجارة. فقد تم معاقبة كبرى البنوك و فصلها عن نظام سويفت، بالاضافة الى تجميد أصول البنك المركزي الخارجية، و يجري الحديث عن عزل النظام البنكي كلياً عن سويفت، و تم حظر توريد مواد و قطع مهمة لقطاع الصناعة و التكنولوجيا، و حظر الطيران فوق الاتحاد الأوروبي، و عقوبات على أشخاص و كبار المسؤولين والأوليغاركيين الذين هم من أركان النظام، و سحب شركة بريتيش بتروليوم حصتها ب20% من شركة روزنفت، و غيرها. و هذه فقط البداية. سوف تعزل هذه العقوبات روسيا عن النظام العالمي و تعيد “الستار الحديدي” من الحرب الباردة، و سيكون لها تأثيراً سلبياً على الاقتصاد الروسي و مكانة روسيا و حياة المواطن الروسي، لا محالة. فحتى الاحتياطي النقدي ب630 مليار دولار و العملات الأجنبية و تريليونات الذهب التي تحضّرت بها روسيا لن تكفيها على المدى المتوسط و البعيد بوجه انفصالها عن الاقتصاد العالمي. فالروبل قد خسر حتى اليوم أكثر من 75% من قيمته منذ أول السنة و ستكون مهمة ضبطه غير ممكنة حسب خبراء اقتصاديين. مما يشكل عاملا” لزيادة النقمة على الرئيس الروسي داخلياً و خصوصاً من أركان النظام الذين غيرت حياتهم الرغيدة العقوبات. و يبدو من الصعب أن تعدل روسيا خسائرها بتعاونها مع الصين التي ستكون بموقف حرج لدعم حليفتها في ظل عقوبات دولية، و رأي عام دولي سلبي اجمالاً، كما أن ذلك سيقوض من قوة روسيا أمام الصين.
و قد جلبت الأزمة تعاطفاً شعبياً عالمياً مما أسهم في انتشار تفاصيل المعارك عبر مستخدي شبكات التواصل الاجتماعي، كما جعلت مجموعات من الهاكرز المستقلين مثل “آنونيمس” تساعد في الهجوم السيبراني على مواقع حكومية روسية منها وزارة الدفاع. لقد خسرت روسيا معركة “ربح القلوب و العقول” عامةً.
حسب بعض الخبراء، تكلف الحرب روسيا حوالي 500 مليون دولار يومياً. و كلما طالت الحملة الروسية على عكس التوقعات و زادت خسائرها المختلفة، كلما اتجهت نحو آفاق مغلقة. و كلما انسدت الآفاق، زادت احتمالات التصعيد، خصوصاً بعد زيادة وتيرة القصف الروسي التي نشهدها الآن
لقد تورطت روسيا في هذه الحرب، و لم تنجح رهاناتها على سقوط سريع للنظام مما يفتح الباب على احتمالات قد تجبر روسيا على اتخاذها و أحلاها مر. أولاً، يمكن أن تستمر الحملة حتى السيطرة على كامل أوكرانيا. لكن القوة الروسية ليست كافية لاحتلال و ادارة البلد، مما سيضطرها الى وضع حكومة تابعة. و بمجمل الأحوال، من المستبعد أن تنجح أي حكومة بديلة بادارة البلد نظراً الى المقاومة الشديدة التي أظهرها الشعب الأوكراني، و التصعيد العسكري الروسي الذي سيزيد حجم الضحايا و الدمار، و امكانية قيام مقاومة مسلحة. مما سيبقي الدولة في حالة عدم الاستقرار و قد يضطر الروسي الى دوام التدخل و تكبد الخسائر. ثانياً، يمكن لروسيا أن تكتفي بفصل الدونباس و كريميا و الجنوب الفاصل بينهما (مع كييف؟)، لكن ذلك أيضاً سيبقي امكانية قيام مقاومة داخلية مستمرة أو حتى حرب أهلية بين مناطق الانفصاليين و باقي البلد. ثالثاُ، ايقاف العملية و انسحاب القوات الروسية. الا أن هذا الاحتمال يبدو أقل ترجيحاً، خصوصاً بأنه يعني الهزيمة و اهتزاز النظام.
من الظاهر أن الحرب الروسية قد فشلت في تحقبق أهدافها المنشودة و أتت ينتائج عكسية حتى الآن، أهمها اضعاف صورة روسيا، عقوبات شديدة على الأرجح لم تؤمن روسيا بامكانيتها، و الأهم، أعادت اللحمة و الهدف للناتو الذي كانت تسعى لتقويضه و كان غارقاً في مشاكله حتى الأمس. و قد خسرت روسيا أقوى ورقة لها في الناتو ألا و هي ألمانيا، التي كانت حريصة على ابقاء التقارب مع روسيا. ففي ليلة و ضحاها، خرجت ألمانيا عن حرصها التقليدي و بدأت بتسليم أسلحة فتاكة لأوكرانيا و نشر قواتها في سلوفينيا و بتخصيص 100 مليار يورو للدفاع و بزيادة قياسية في ميزانيتها الدفاعية للسنوات القادمة.
 بتعقّد الأزمة في أوروبا، لا بد أن نكون حاضرين لانعكاساتها التي ستصل حتماً الى الشرق الأوسط. فتركيا بدأت تشدد لهجتها و قد سكّرت ممراتها البحرية الى البحر الأسود  أمام روسيا مما ينذر بالشؤم خصوصاً أن تركيا و روسيا موجودتان في سوريا. و يحكى عن قوات خاصة تركية كانت في أوكرانيا قبل الحرب للتدريب على استخدام المسيرات، التي تسببت بخسائر كبيرة للروس. و لا يستبعد أن تتوقف صفقة ال أس 400 بين البلدين  .
أما التدخلات في السياسة اللبنانية فقد تزداد تأزماً بعد أن كان دور روسيا مسهلاً للتفاهمات. و يجب طرح السؤال حول مستقبل ملف الغاز في لبنان و منطقة شرق المتوسط ككل حيث قد تحاول روسيا عرقلة امدادت الغاز الى أوروبا. و ماذا عن الحرب الاسرائيلية الوقائية في سوريا – هل يطرأ تغير في المعطيات يؤدي الى تصعيد أوسع، و هل تنجح اسرائيل بابقاء علاقتها الوازنة مع روسيا؟ و ماذا عن رد الفعل الايراني، الذي قد يجد فرصةً مع حلفائه لتشديد سياساته في المنطقة. و لا ننسى الساحل الليبي‘ حيث قد يعيد الروسي تموضعه و يغير المعطيات السياسية – يجمع بعض الخبراء أن أحد أسباب التدخل الروسي في سوريا هو لكسر طوق الناتو حولها و لمحاصرة الناتو بدورها من خاصرته الجنوبية لذا سيكون الوضع الآن أكثر ضرورة للتموضع على خاصرة أوروبا المتوسطية. و لا ننس دول الخليج التي لها مصالح اقتصادية و سياسية مع روسيا و التي ستكون تحت ضغط غربي و دولي متزايد خصوصاَ في ملف النفط.
 الخلاصة، أي نتيجة للحرب ستكون كلفتها عالية جداً على روسيا، و بأفضل الحالات بمردود قليل نسبة للأثمان الباهظة. ديناميات الحرب تتحرك بسرعة فائقة، و المطلوب أن تتغلب الرؤوس الباردة و الحد من ارتكاب أخطاء في الحسابات التي قد تدفع الجميع الى الهاوية.

سوريا الأمل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.