1-نهاية الرهان على الحلول الخارجية
لا أعتقد أن حديث وزير خارجية تركيا، مولود شاووش أوغلو، عن مصالحة مع نظام الأسد كان زلّة لسان، وأن ما قصده الوزير هو اتفاق سياسي بين الحكم والمعارضة ينهي الأزمة المستمرة منذ أكثر من عقد، ويفتح أمام السوريين أفق العودة إلى “السلام الدائم”، وإعادة بناء الحياة الوطنية السليمة، كما أراد أن يقنعنا بيان الخارجية التركية التصحيحي في اليوم التالي. كما أنني لا أعتقد أن خروج الشعب السوري في مظاهرات احتجاج واسعة ضد فكرة “المصالحة” كان ثمرة سوء فهم للرسالة، فالمرسل كان يعني ما يقول، والجمهور السوري أيضا كان يدرك فحوى ما يحصل، فالعاصمة التركية تبحث بالفعل عن مخرج من الأزمة التي وضعت نفسها فيها بعد فشلها في تنفيذ العملية العسكرية التي وعدت الرأي العام التركي بها. لكن الجمهور السوري، الذي لم يبق من يراهن عليه في معارضته التطبيع مع الأسد سوى الدعم التركي، أدرك أيضا طبيعة الأزمة الفاجعة التي يمكن لتغير الموقف التركي من الأسد أن يقوده إليها.
والواقع أن تركيا والمعارضة وقوى الثورة تواجه أزمة كبيرة واحدة، حاول الجميع تجنّب التفكير فيها خلال السنوات الطويلة الماضية، على أمل أن تطرأ مفاجآت أو تحوّلات غير منظورة، لتحول دون انفجارها. وجوهر هذه الأزمة التي تمسّ الجميع هو ببساطة الموت غير المعلن للعملية السياسية الرامية إلى إيجاد حلٍّ متفاوض عليه للصراع السوري السوري، فقد تحول هذا الصراع الى مأزق مركّب وصعب الحل، بعد أن فقد النظام قراره، وأصبح لعبةً في يد الدول الحامية له، والتي لا مصلحة لها في أي حل من جهة، وفشل المعارضة في توحيد صفوفها والارتقاء بممارستها إلى مستوى القيادة الوطنية المقنعة من جهة ثانية.
كلانا ندفع اليوم ثمن تغذيتنا المستمرّة الوهم الذي أدخلته في أذهاننا المنظومة الدولية الفاقدة للمصداقية، والذي يفيد بأن هناك حلا سياسيا للمواجهة التي تفجّرت منذ مارس/ آذار 2011 بين الشعب والنظام، فتمسكنا بالأمل، وأعطينا للمجموعة الدولية والدول الصديقة والوسطاء الدوليين صكّا على بياض، لاستكمال التوصل إلى هذه التسوية، وجلسنا ننتظر النتيجة. وبدا الموقف التركي الواضح وتقاطع المصالح كما لو كانا ضمانةً لنا، كي لا تذهب الأمور في اتجاه مخالف لتوقعاتنا وتطلعاتنا. وعزّز من موقفنا الانتظاري هذا تبنّي الدول الغربية مواقف مناوئة لسياسات الأسد، وفرض العقوبات على شخصياتٍ عديدة تابعة له، وفضح الصحافة العالمية أكثر فأكثر ارتكاباته الإجرامية على مدى سنوات حرب الإبادة التي نظمها على امتداد الجغرافيا السورية انتقاما من قيام الشعب ضده ومطالبته له بالرحيل.
كان النظام وحلفاؤه، أو بالأحرى مشغلوه المراهنون على بقائه، يسعون إلى كسب مزيد من الوقت، للقضاء على المعارضة وتفريغ الثورة من محتواها
والحال، لم نشهد خلال عقد من “المفاوضات” الفارغة ما يمكن أن نسميها عملية سياسية. وكل ما شهدناه كان مهاتراتٍ تعمّدها النظام لإضاعة الوقت وقطع الطريق على فتح أي مناقشة جدّية. كانت تلك تمثيلية هزلية ومأساوية معا، غايتها الإيحاء بإمكانية الوصول إلى حلّ بالسياسة، بينما كان النظام وحلفاؤه، أو بالأحرى مشغلوه المراهنون على بقائه لتعزيز مكاسبهم الاستراتيجية في سورية، يسعون إلى كسب مزيد من الوقت، للقضاء على المعارضة وتفريغ الثورة من محتواها، وهذا ما لم يتوقف النظام عن تأكيده عند كل مفترق، مرة وثانية وثالثة، بادّعاء الانتصار، منذ أعلنت مستشارته العبقرية، بثينة شعبان، بعد شهرين من اندلاع الثورة “خلصت”، وتعني بها نجاح نظامها في إخماد الثورة وإنهائها.
أما تجمّع “أصدقاء سورية” الذي تشكّل لتأمين الدعم العالمي للشعب السوري، فقد ظهر أيضا أنه أكذوبة لطيفة. اعتقد الغربيون، في الأشهر الأولى، أمام اتساع نطاق الثورة الشعبية وتصميم السوريين وتضحياتهم التي لا تتوقف، أن الأسد ساقط لا محالة. لكن سرعان ما انتبهوا إلى أن حساباتهم لم تكن دقيقة، وأن دخول طهران، ثم روسيا، على الخط، وتبنّيهما انتصار الأسد بأي ثمن، حتى لو كلف ذلك تدمير سورية وتحطيم شعبها وتهجيره، لم يترك لهم هامش مناورة يذكر. وأصبح تحقيق الوعود التي أعطوها للسوريين يتطلب انخراطا جديا في الصراع ما كانوا يتوقعونه، وبالتالي، تكلفة عالية لا يريدون أو لا يستطيعون تقديمها، وليست في حساباتهم. فانسحبوا بهدوء، وتقلص عددهم إلى 11، ثم غابوا عن الصورة تماما.
أما أستانة فلم تكن سوى مزحة ثقيلة أراد بها الروس أن يخرجوا الغرب من دائرة الصراع في سورية، وهو ما اشتراه الغربيون بطرابيشهم. وما كانوا ينتظرون فرصةً أفضل للانسحاب بريشهم، وسحب أيديهم من المحرقة التي سوف يتحمّل لهيبها السوريون وحدهم. وقبل الغربيون “أصدقاؤنا” من دون تحفظ اختصار العملية باللجنة الدستورية، ليوحوا للسوريين أنهم لا يزالون يدعمونهم “سياسيا”.
أما مؤتمر جنيف فقد جبّته أستانة وحلت محله. ولم يعد للتذكير بقراراته لدى الغربيين والمعارضة السورية وظيفة سوى كسب الوقت، من دون أي إنجاز، وتبرير الاحتفاظ بالرواتب والمناصب التي ولدت على هامشه وفي أمل انعقاده. وكان الأمل بهذا الانعقاد هو ما ينطبق عليه القول: أمل إبليس بالجنة للأسف.
قد تكون المصالحة مع النظام في نظر أنقرة البديل عن غياب الحل الشامل، بانتظار تحوّلات إيجابية مقبلة
من هنا، ينطلق السؤال الذي دفع وزير الخارجية التركي، مولود شاووش أوغلو، إلى الحديث عن المصالحة، فإذا لم يكن هناك حل سياسي للأزمة السورية التي تحوّلت وتتحول كل يوم أكثر إلى كارثة إنسانية وبؤرة مخاطر على دول عديدة، وفي مقدمها تركيا، التي رهنت سياستها بانتصار المعارضة السورية، ثم راهنت على التوصل إلى تسوية، تضمن من خلالها تحقيق مصالحها الرئيسية التي لا تقتصر على مسألة تأمين الحدود السورية التركية، وإنما تتجاوز ذلك إلى المشاركة في تقرير مصير النظام السياسي لسورية ما بعد الأسد الذي صار عدوّا لها، فما هو الحل؟ وكيف يكون الرد على التحدّيات التي يطلقها إجهاض التسوية السياسية والمراهنة على تفسخ أكبر للأوضاع السورية، يسمح للروس والإيرانيين بتعزيز مواقعهم وتأسيس قاعدة ثابتة وطويلة المدى لنفوذهم؟
قد تكون المصالحة في نظر أنقرة البديل عن غياب الحل الشامل، بانتظار تحوّلات إيجابية مقبلة، فعندما يستحيل التوصل إلى تسوية شاملة، تضمن مصالح جميع الأطراف، لا يبقى خيار سوى أن يبحث كل طرف عن مصالحه الخاصة، وترك الطرف الضعيف يدبر أمره بنفسه، أي يدفع الثمن. وهذا يعني بالنسبة لأنقرة فك ارتباطها بالمسألة الأصلية التي يبدو أنها مستعصية على الحل. فنظام الأسد، في رأي حماته الرئيسيين، إيران وموسكو، لا بديل له، ولا يمكن مناقشة بقائه، ولا حتى تعديل نظامه. وربما يبدو لطهران وموسكو أن إيجاد حل للمصالح التركية بعيدا عن مناقشة مسألة الشعب السوري ومستقبله هو آخر عقبة تقف أمام إجبار السوريين على الاستسلام والقبول بالأمر الواقع، وإكراه الأمم المتحدة على إعادة الاعتراف بنظام الأمر الواقع والتعامل معه بوصفه كذلك، وبصرف النظر عن سجّلاته الإجرامية.
لهذا، كان رد الفعل الشعبي السوري في جمعة “لن نصالح” سريعا وواضحا. وهو رفض القبول بأي تسويةٍ مع بقاء نظام الأسد، والتمسّك بعملية سياسية تضمن، حسب ما تنص عليه قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، تغيير النظام السياسي، أي قواعد ممارسة السياسة ونمط الحكم، حتى لو شارك بعض رجالاته في النظام الجديد. المهم تغيير قواعد الممارسة السياسية والحكم.