سوريا على طريق الانتفاضة الثانية (2)

2. لم يبق للسوريين ما يخسرونه إلا بؤس أحوالهم

لا نستطيع، نحن السوريين، أن نفرض على تركيا موقفا لا ترى فيه خدمة لمصالحها، ولسنا من يحدّد هذه المصالح، تماما كما لا يمكن لأنقرة أن تملي علينا ما يتفق مع تطلعاتنا ومصالحنا. وإذا فعلت تركيا ذلك، فهي تختار، في نظري، التضحية بالاستثمارات المادية والسياسية والإنسانية الكبيرة التي وضعتها في الثورة والمعارضة السوريتين منذ 11 عاما، والتي جاءت لتضاعف استثمارات كبيرة سابقة لاندلاع ثورة آذار 2011، ورد الفعل الشعبي كان كافيا لتنبيه أنقره إلى ثمن التخلي عن المعارضة أو البحث عن حلول منفردة لا تاخذ بالاعتبار المصالح السورية الشعبية في مواجهة نظام مارق ومجتمع دولي متخاذل.نعرف أن أحدا لن يهرع إلى تحريرنا من قيودنا، إن لم ننجح في تجاوز أسلوب عملنا، ونسعى، نحن أنفسنا، إلى قلع شوكنا بأيديناولكن سواء استمرّت الدبلوماسية التركية في التقرّب من الأسد لضمان مصالحها أو بقيت متمسّكة بخط التسوية السياسية القائمة على أساس قرارات الأمم المتحدة، تبقى المشكلة الرئيسية الذي نتهرّب منها جميعا، ولا يزال المجتمع الدولي يتجاهلها من وراء التركيز على مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والإرهاب واحتواء أزمة الهجرة واللجوء. وهي التي يتوقف علينا نحن السوريين، قبل الآخرين، الاجابة عنها. وأعني بها: ما العمل، بعد أن تبينت استحالة التوصل مع الأسد وطهران وموسكو إلى تسوية سياسية، وانقطع الأمل في الحصول على دعم دولي أو إقليمي كافٍ لإجبار نظام الأمر الواقع على القبول بتسوية من أي نوع؟ لم يكفّ السوريون، منذ بداية الثورة، عن تقديم التضحيات، لكن من دون إيمان بقدرتنا على تحقيق النصر بأيدينا. كنا نضحي ونقاتل، ولا نتردّد في بذل أي جهد، لكن مع الاعتقاد دائما بأن خلاصنا لن يكون في النهاية إلا على أيدي القوى الأجنبية والدول القوية، الغربية في البداية ثم الإقليمية. بل لقد راهن بعضنا أحيانا على موسكو نفسها. ولأننا لم نثق لحظةً بأننا قادرون على حسم المعركة بأنفسنا، لم نبذل الجهد الضروري لحل التناقضات التي تمزّقنا، ولفكفكة العقد التي تقف في طريق تعاوننا، ولنحرّر ضمائرنا من مشاعر الغيرة والحسد والكراهية والأنانية ونتعلم العمل جماعة ونبنى روح الأخوة الوطنية الجديدة. وبقينا نقاتل، فصائل وشيعا وأحزابا متفرّقة، وفي فوضى شاملة، على أمل أن تلفت تضحياتنا نظر القوى الكبرى، وتثير عطف إخواننا وأصدقائنا. وسلمنا أخيرا بأن النظام الذي جاء بدعم إن لم يكن بقرار دولي لا يمكن تغييره إلا بتدخل المجتمع الدولي الذي نصبه. الآن، نحن نعرف أن أحدا لن يهرع إلى تحريرنا من قيودنا، إن لم ننجح في تجاوز أسلوب عملنا، ونسعى، نحن أنفسنا، إلى قلع شوكنا بأيدينا. وهذا هو الطريق الوحيد البديل للحرب التي لم نكن مستعدّين للرد المتّسق عليها، وللحل السياسي المحرّم علينا من جلادينا. وبدل أن نناقش فيما إذا كانت أنقرة ستبقى معنا أو أنها سوف تتبع طريقا آخر، وهي، في النهاية، ستختار ما يناسب مصالحها، ينبغي أن نعيد النظر في استراتيجيتنا السابقة التي راهنت من دون تدقيق على الدعم الخارجي، وأن نعود إلى المنطق السليم الذي يفيد بأن أحدا لا يمكن أن يحرّر الشعب، ما لم يأخذ هو ذاته بيديه مهمة تحرير نفسه. والتضحيات المطلوبة لن تكون أكبر مما سيكلفنا ترك المحتلين يمزّقون وطننا ويسلبونه، بينما نحن نتسابق على تأشيرات الدخول على أبواب سفارات الدول الأجنبية، التي رفضت تقديم يد العون إلينا، للنجاة بأنفسنا.لأن الشكوى والتذمر والاحتجاج لدى المنظمات الدولية والحكومات الأجنبية لا تثمر من دون حضورٍ قويٍّ على الأرض، فإن الانتفاضة ممكنة، بل ضرورية وحتمية، ولا بديل عنهاإذا أردنا أن نبقى في بلدنا، وأن نجعل منه وطنا لنا ولأبنائنا لا زريبة ولا معسكر اعتقال، علينا أن نبدأ منذ الآن في طرح مسألة الانتفاضة الثانية. وأن نفتح المناقشة، في كل منطقة ومحافظة ومحلة، داخل سورية نفسها، حول هذا الخيار، ونستلهم، ولا أقول نحاكي، مثال إخواننا في الجنوب السوري، في السويداء ودرعا وباقي المدن والقرى المستمرّة في المقاومة.قد يعترض كثيرون: كيف ننتظر من الشعب السوري الذي يتضوّر جوعا ويعيش تحت تهديد السلاح متعدّد الجنسيات أن ينتفض ويتغلب على نظامٍ هو مركّب غريب من سلطات الاحتلال الأجنبي ومنطق العصابة والعمالة، فاقد أي قيمة أو ضمير وطني؟ والجواب: لهذا السبب بالذات، أي لأنه لم يعد لدى السوريين ما يخسرونه أكثر مما خسروه، ولم يعد هناك أمل لا في حل عسكري مفروض من الخارج، ولا في حل سياسي عن طريق المفاوضات، ولأن الوضع لم يعد يُحتمل، وهو سائر بالتأكيد إلى مزيدٍ من الخراب، ولأن الشكوى والتذمر والاحتجاج لدى المنظمات الدولية والحكومات الأجنبية لا تثمر من دون حضورٍ قويٍّ على الأرض، فإن الانتفاضة ممكنة، بل ضرورية وحتمية، ولا بديل عنها. والرهان على جهود المغتربين في أوروبا وأميركا، وعلاقاتهم من أجل التغيير في الشروط الحالية لا يفيد إلا في ترسيخ الوهم الذي قادنا إلى الفشل في تنظيم أنفسنا، وهو التعلق بالتدخلات الأجنبية والاعتقاد بأن حل المسألة السورية قائم خارج سورية، وبمعزل عن إرادتنا وقرارنا، وتوطين النفس على الانتظار، بينما لا يضيّع أعداؤنا دقيقة واحدة في مساعيهم لسحب البساط من تحت أقدامنا وانتزاع بلادنا منا وتوريثها لما نجحوا في حشده من عصابات وشبيحة وشبكات تجارة أعضاء بشرية ودعارة ومخدرات متعددة الجنسيات. هذه ليست دعوة إلى إطلاق انتفاضة غدا. بالعكس، إنها دعوة إلى التفكير الجماعي في الانتفاضة الشعبية، القادمة حتما، شئنا أو أبينا، وللنقاش في طبيعتها وخططها وتنظيماتها وشروط إنجاحها وإعداد الجمهور لها، وإنضاج الحلول المطلوبة لمواجهة المشكلات والتحدّيات المحتمل أن تعترض طريقها. على هذا الأمر، ينبغي أن يتركز اليوم تفكير المثقفين، وأن يتدرّب النشطاء، ويتواصل السياسيون، حتى تكون هذه المرة انتفاضة التغيير التي لا تتوقف، ولا يمكن إيقافها قبل تحقيق أهدافها.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.