تهشّمُ مجتمعٍ كان مهزوماً

[بقلم د. سماح هدايا]

عقدٌ من تاريخ مرير مرّ على السّوريين والحربُ الشّرسةُ مستمرةً. في شمالِ سوريا وفي جنوبِها قتلٌ وعدوانٌ وحصارٌ وضحايا أبرياء. سلطةُ الطّاغيةِ سياستُها إفناءُ المعارضين واستئصالُهم والتّهديمُ السّاحقُ.  بينما المعارضون السّياسيون ينتظرون الحلولَ، يحادثون ويفاوضون حلفاءَ الطّاغية، من أجل وقف الحربِ على السّوريين، ويصدرون بياناتِ الاستنكارِ ويستغيثون بضميرِ العالمِ لإيقافِ الهجوم.  والعالمُ  لا يكترثُ، والحربُ لا تتوقّف،  تأكلُ الناسَ وتدمّرُ البلاد.  فلا أملَ إلا في شعبٍ يوحّدُ نفسَه ويقويها لمواجهة قاتلِه.  الكلماتُ المستغيثةُ بالعالمِ وحملةُ الشّعاراتِ والخطاباتِ  والتّسوياتِ لا تفيدُ في إنقاذِ المقتولِ من قاتلِه.

فأيُّ صلحٍ هذا  بين ضعيفٍ ممزّقٍ  ومعتدٍ فعلُه البطشُ والقتلُ؟

وأيُّ تسويةٍ  هذه والغدرُ  بأهلهِا حاصلٌ؟

وأيُّ  قرارٍ هذا وهم يعطلونُه؟

وأيُّ  اتفاقٍ  هذا وهم ينقضونه؟

وأيُّ ميثاقٍ  هذا  وهم ينكثونه؟

ألا يتشابهُ حالُ الذين يرزحون تحت حكمِ الأسد الطّاغيةِ، وحال الذين يرزحون تحت سلطةِ المعارضةِ في المحرّر السّوريّ؟

قد يبدو السّؤالُ مستهجَناً للوهلةِ الأولى؛  كأنّه تهمةٌ موجّهةٌ لقوى المعارضةِ والثِورةِ بمساواتِها بحاشيةِ الطّاغية؛ كمساواةِ الضحيّةِ بالجلاد. لكنّ الحقيقةَ غيرُ ذلك؛ فالأمرُ أبعدُ من هذا التّصنيف؛ والفريقان طرفا نقيضٍ بحكمِ الثّورةِ، ولا صحّةَ للمقارنةِ بينهما في جوانبَ كثيرةٍ ؛ فسلطةُ الأسدِ وجماعاتُه المستقويةُ على النّاسِ سلطةُ إجرامٍ منهجُها التّدميرُ والبطشُ. وسلطةُ مؤسساتِ المعارضةِ الرّسميّةِ، على الرّغمِ من أخطائِها وانحرافِ بعضِ مواقفِها  السّياسيةِ العامةِ وظهورِ الخللِ في عملِ مؤسساتِها وأداءِ مُمثليها  مازالت تتخبّطُ وهي  تعملُ جاهدةً  لإيجادِ بديلٍ أفضل ولبسطِ سلطةٍ على الناسِ والأرضِ المحرّرةِ عوضاً عن  سلطةِ النّظام، ونجاحَ مساعيها ضعيفٌ وتأثيرُها على الأرض ضئيل. لكنْ، من ناحيةٍ أخرى، فالطّرفان متشابهان في حالةِ  الإذعانِ للقوى الكبرى، وفي الخضوعِ لنفوذِ الاحتلالِ الرّوسيّ ومطالبِ الدّولِ الإقليميّةِ وإرادةِ الغربِ  ومؤسسّاتِه الدّوليّة. وكلاهما لا يملكُ السّيادةَ  لإيقافِ الحربِ والتّدخلِ الإقليميّ والدّوليّ، ولا القدرةَ على إجلاءِ الاحتلالِ بكلّ أنواعِه. العدوّ الروسيّ هو حليفٌ للنّظامِ وداعمٌ له في القتلِ، وهو الحاكمُ بأمرِه في الحوارِ مع أطرافِ المعارضةِ، ولا يستطيعون كبحَه عن التّمادي في العدوانِ. وإيرانُ حليفٌ لطاغيةِ السّلطةِ السوريّةِ وطرفُ حوارٍ مع المعارضة.  وفي مجتمعِ كلِّ فريقٍ تنتشر منظماتٌ ومؤسّساتٌ عالميّةٌ هي صاحبةُ القرارِ في مختلفِ الشّؤونِ من سياسيةٍ واجتماعيّةٍ وثقافيّةٍ وإعلاميّةٍ. فالتّشابهُ موجودٌ، ويظهرُ بوضوحٍ في ذهنيّةِ التّبعيّةِ للحالةِ الاستعماريّةِ بغضِّ النّظرِ عن الشّعاراتِ وملفوظِ  الكلامِ في خطاب الطّرفين. وبالتالي فالحربُ في سوريا حربٌ شاملةٌ على الوطنِ وإنسانهِ، لا صلحٌ فيها ولا حوارٌ  ولا  حلولُ سلام،  بل صراع الجميع  في جبِّ المأساةِ. 

الانقسامُ  بين مولاةٍ ومعارضةٍ، لم يعدْ كافياً لتصنيفِ السّوريين. فالصميمُ  واحدٌ  برغمِ اختلافِ الشّكلِ وهو  الانهزامُ أمامَ الأقوياءِ المعتدين والاستقواءُ بهم. والشّراكةُ الوطنيّةُ مجرّد فراغٍ، إنْ لم تكنْ  شراكةً حقيقيةً على إنقاذِ سوريا ورسمِ طريقِ التّحرّرِ من الأعداءِ والاستبدادِ  ومن الجهلِ. 

السّياسةُ لا إتقان لصنعتِها من دونِ فهمِ التّاريخ

    يتحدّثُ من السّوريين، بمسمّى مثقفين، حديثاً مفاده أنَّ المجتمعَ في سوريا  لم يعدْ له وجودٌ، فقد انتهى بفعلِ الخلافاتِ السّياسيةِ والمذهبيّةِ إلى طوائفَ ومللٍ وعصاباتٍ وشراذمَ وأفراٍد. ويحمّلون الثورةَ والمعارضةَ المسؤوليةَ عن الجريمة…هؤلاء يحكمون بذهنيةٍ مفرطةٍ في الكسلِ الفكريّ والقيميّ ويتجاهلون في قراءتِهم أنّ المجتمعَ  الآن في مخاضٍ تاريخيٍّ، وكان متردّياً طويلاً  في هوّةِ الاستبدادِ والفسادِ والظلمِ. فما كانَ يسمّى بمجتمعٍ  سوريٍّ، هو بقايا مجتمع مهزومٍ من حروبِ الصّليبيين والمغولِ والتّتارِ والعثمانيّين والفرنسيّين، ثم ركّبوا على حكمِه طغمةَ سياسيةَ مستبدّةً فاسدةً عنصريّةً، هيّأتْ الأرضيّةَ لمآسي الحاضر ومحنِه. انهيارُ ذلك الواقعِ المصطنعِ  بفعلِ الثّورةِ نتيجةٌ منطقيّةٌ، وسوفَ ينهارُ ما بقي منه  وما كانَ يمثّلُه ومنْ كان  يمثّلُه؛ لأنّ مابني على باطلٍ سقوطُه أكيد. ولا بكاء عليه؛  فهو رديءٌ،  التألّمُ والتّوجّعُ  هما، فقط،  للخسائرِ البشريّةِ وللتّضحياتِ العظيمةِ التي قدّمها السّوريون الأحرار.

 الحربُ لن تتوقفَ إلا بحصولِ ما يخرقُ المنظومةَ العالميّةَ المتحكمةَ بهذه الحربِ، وبعودةِ السّوريين من ضلالِهم وتوحيد جهودهِم على هدفٍ واحدٍ؛  وهو تحريرُ بلادِهم من المعتدين ومن أنظمةِ الاستبدادِ الفاسدةِ الباطشةِ،  والتّصدي لهم بمختلفِ الأسلحةِ الممكنةِ، بغضّ النّظرِ عن الاختلافاتِ العقائديّةِ والسياسيةِ فحبُّ الأوطانِ لا علاقةَ له بلونٍ أو دينٍ أو مذهبٍ.   هذه الحربُ حلقةٌ من الحربِ التاريخيّةِ  الطّويلةِ ضد بلادِنا، وهي شديدةٌ لا تقلُّ بربريةً عن غزوِ المغولِ والتّتارِ. الحربُ الرّوسيةُ الإيرانيّةُ بواسطةِ الأسدِ وعصابتِه مفتوحةٌ على سوريا وأهلِها بلا استثناء. حربٌ عنيفةٌ ظالمةٌ، ولابدّ من التصدّي لها بفهمٍ تاريخيٍّ صحيحٍ.  لكنّها كأيّ حربٍ كبيرةٍ ستغيّر  في التّاريخِ والمخيّلة.

الفشلُ في قراءةِ  الواقعِ السّياسيِّ ليس الخطأَ الوحيدَ الذي يقعُ فيه مجتمعُنا، فالقراءةُ السّطحيّةُ  والسّيئةُ  للتّاريخِ لها أثرٌ تخريبيّ في الهوية، ولا تفسحُ في المجال أمام التعلّمِ من  التّجاربِ التّاريخيّةِ بمفيدِها وعاطلِها، ولا تشكّلُ عقلاً علمياً ناقداً، بل تعزّزُ  الإحساسَ بالعجزِ والانقيادِ وراءَ الأوهام.   وبغضّ النّظرِ عن الذين خلفَ التّزويرِ والتّشويه؛ فإنّ قوى التسلّط السّياسيّ والاجتماعيّ  والثّقافيّ كرّستْه، وهي المسؤولة عن نكساتِ الواقع ونكباتِه ومحنِه.  ترفعُ من شأنِ الحوارِ  في الضّحل والرديء وما يثيرُ الفرقةَ ويمكّن التسلّطَ، وتحطُّ من شأنِ البحثِ المفيدِ في إرثِ أمةٍ ضربتْ جذورَها عميقاً  في التّاريخِ  والحضّارةِ وحُوربتْ في وجودِها وإنجازِها وتعرضّتْ للغزو السّياسيّ والفكريّ.

نضجُ المخيّلةِ الجمعيّةِ، هو الذي يغيّرُ ويتغيّرُ

القضيّةُ السّوريةُ عميقةٌ وواسعةٌ أكبرُ من معارضةٍ وموالاةٍ. المفروض أن يحملَ قضيّةَ تحريرِ سوريا المجتمعَ كلَّه، ولا يقتصرَ على الثّوارِ والمعارضين، فالعدوانُ على أرضِ الجميع. ولا يتحقّقُ ذلك  إلا بإرادةٍ حقيقيّةٍ صادقةٍ  وجامعةٍ، تخوضُ حرباً شديدةً ضدّ  الاستبدادِ  والاحتلالِ والجهلِ. الصراعُ الدّاخليّ ربّما  أقسى  وأصعبُ من الصّراعِ  مع الخارج، لأنّه يفتّتُ القوّةَ والعزيمةَ،  بصراعِ الشّعبِ مع أصحابِ المنافعِ الخاصّةِ الفئويّةِ  الظّالمةِ القائمةِ  على  مبدأ الغنيمةِ.  ما تمرّ فيه الآن سوريا من محنٍ ونوازل هو  ثمنُ تقاعسِ المجتمعِ وتكاسلِ عقلِه وتوانيه عن القيام بدورِه التّحررّيِّ والسّياسيِّ . النّضالُ من أجلِ الحريّةِ ثمنُه  تضحياتٌ  كثيرةٌ وكبيرةٌ تستحقُّ أن يتوحّدَ الناسُ لأجلِها ويعملون على هدفِ التّحريرِ السّياسيّ من العدوِّ الخارجيّ والطّاغيةِ الدّاخليِّ وعلى منظومةِ حقوقٍ عادلةٍ وتشريعٍ منصفٍ وقيمٍ إنسانيّةٍ ذات مغزى…  لذلك الصراعُ كبيرٌ محكومٌ  بصحوةِ أهلِه ورفعهِم راية موحّدّةً على التّحريرِ، وإلا ستستمرُّ الخسارةُ.

نُضجُ المخيّلةِ الجمعيّةِ  السّوريّةِ هو الذي سيغيّرُ ويتغيّر. ليس بقرارٍ فرديٍّ، بل جمعيٍّ وبلُحمةٍ مصيريّةٍ، قد لا يبدو الأمرُ ظاهراً، لكنّه  كعملِ النحلِ تماماً؛ لا يمكنُ رؤيتُه من خلال نحلةٍ واحدةٍ.  النحلُ  يصلُ لإنتاجِ  العسلِ بحراكِه الجمعيِّ الخفيّ. فالعمليةُ لا تحدثُ بنحلةٍ واحدةٍ أو نملةٍ واحدة. وإنّما بالعملِ الجمعيِّ التعاونيِّ المنظّمِ؛ فالعمليّةُ نفسُها هي المهمّةُ. قد تكونُ هناك أعمالٌ فرديةٌ في غايةِ السّوءِ للسّوريين وأعمالٌ فرديّةٌ رائعةٌ مقابلَها  لسّوريين آخرين،  لكن لا يُقاسْ بهؤلاء، وحدهم النصرُ أو الهزيمةُ، ولا يقاس بناءُ المجتمعاتِ بأفعالٍ مستقلّةٍ لأفرادٍ أو شيعٍ،  أو بزمنِ قصير غير مكتملٍ…يُبنى بتعاونٍ جماعيٍّ وجمعيٍّ، وبتراكمِ التّجربةِ ونضجِ الزّمنِ والأحداث، رغماً عن تعسّفِ طاغيةٍ مقاسُه في التّاريخِ قزمٌ.  بجهدٍ جمعيٍّ دؤوبٍ متعاونٍ ينجزُ البناءَ. البناءُ هو الأصعبُ لكنّه يدومُ لما يُبنى على أساسٍ قويٍّ ثابت…

المساحةُ الباقيةُ للسّوريين الأحرارِ من كلِّ الفئاتِ صغيرةٌ لكنّها ممكنةٌ..فلتبقَ مستقلّةً لكي يقومَ  البناءُ عليها، سيكون قوياً، حتى لو بدا  صغيراً  فالإرادةُ الحرّةُ  أساسُ  البناءِ المتينٍ الصامد. د. سماح هدايا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.