الوعي القاتل

كتبنا كثيراً عن الوعي وأشكاله، ويجب ألّا نكف عن رصد مسارات الوعي وعلاقته بالممارسة، بل القول إن الممارسة العملية ليست سوى ظهور الوعي.

نعرّف الوعي قائلين “جملة من الأفكار والرؤى والتصورات والمعتقدات التي تشكل عالم الفرد العقلي، وتدفعه إلى السلوك وفقها ومن وحيها، وتحدد علاقته بالآخر وبالحياة عموماً”.

وتكون وعي الفرد، على نحو دائم متغير أو على نحو مستقر يعود إلى البنية التي نشا فيها وعاش، وإلى خياراته الحرة.

وجميع مصالح البشر تعبر عن ذاتها بالوعي، وتبرر سلوكها بالوعي، وتخفي شرورها وراء نمط من الوعي، وتزيف العالم بالوعي.

وما قولنا بأن الوعي هو عالم الفرد العقلي إلا تأكيد قضية قد تخفى على بعض الناس، أقصد قضية العقل بوصفه ما يختزن وما يظهر. وبالتالي لا الوعي ولا العقل ينطويان على معنى إيجابي أو معنى سلبي مسبقين.

فقد يظهر الوعي على نحو وعي بالتسامح أو وعي بالتعصب، قد يظهر علمياً أو يظهر خرافياً، قد يبدو دينياً أو إلحادياً وهكذا. ولكن ظهور الوعي أمر معقد، فقد يظهر زائفاً يخفي الحقيقي، ولسان الوعي لا يعني تطابقه مع قلبه.

ولهذا قد يكون الوعي خطراً على الإنسان أو يكون سعادة له، قد يكون مزهرا للحياة أو قد يكون مدمراً لها. وبسبب هذا التناقض في ظهور الوعي، بوصفه وعيا بالعالم، أتحدث عن الوعي القاتل.

الوعي القاتل هو الوعي الذي يدفع صاحبه إلى نفي الآخر المختلف، سواء كان النفي معنوياً أو مادياً يصل حدَ القتل.

فالوعي الديني في حدّ ذاته ليس قاتلاً، فهو جملة من التصورات حول الخير والشر والحياة الآخرة وأصل الكون وفصله، وطقوس عملية للتقرب من المعبود. ولكنه يتحوّل إلى وعي قاتل عند أصحابه حين يتحوّل إلى تعصب ضدّ الآخر المختلف لنفيه وصياغة خطاب يقرّ هذا النفي ويدعو إليه.

فمقتل الحسين مثلا حادث عابر في تاريخ الصراع على السلطة، وهو امتداد للصراع بين علي ومعاوية كما تقول الروايات التي تفتقد إلى الوثائق. فهو ليس ركنا من أركان الإسلام وليس أصلا من أصوله، هو حادث دنيوي صرف حدث في الماضي ومات الفاعلون فيه والشهداء عليه.

هذه الواقعة التاريخية التي حدثت في الماضي تتحول في وعي ما من واقعة إلى معتقد يحمل أصحابه على السلوك النافي للآخر الذي تحال إليه المسؤولية عن الحدث، بل ويجري تحميل جمهور معاصر يعيش الآن مسؤولية هذه الواقعة التي لا علاقة لها بالمعتقد الديني الإسلامي لا من بعيد ولا من قريب. وهكذا تتحول واقعة موضوعية تنتمي إلى الصراع السياسي في لحظة من تاريخ السلطة إلى وعي قاتل.
والحق بأن كل معتقد يتحوّل إلى أداة لنفي الآخر والثأر منه أو حمله على الاعتقاد به بالعنف هو وعي قاتل بالضرورة.
الوعي القاتل ليس وقفاً على التعصب الديني، إنما يدخل عالم التعصب الأيديولوجي الدنيوي. ولا أدل على ذلك من موقف المنتمين إلى الأحزاب الشيوعية في بلادنا، فبدل أن يستقوا من ماركس فكرة الحرية ويقفوا إلى جانب الشعب المدافع عن حريته وكرامته، تراهم يزينون للقاتل فعله ويشاركونه هذا الفعل، فإذا الوعي الشيوعي بحق الحياة الكريمة انتقل إلى وعي قاتل. فالوعي الأيديولوجي وعي قاتل هو الآخر.
والوعي القاتل ليس وقفاً على ذلك الوعي الذي يصل إلى حدّ ممارسة القتل الجسدي فحسب، وإنما كل وعي يحول دون تقدم الفكر وثرائه هو وعي قاتل، لأنه وعي سلطة قد احتكرت الحقيقة مرة واحدة وإلى الأبد، وصارت قمعاً لمنطق حياة الأفكار. ويتحوّل الوعي القاتل إلى أداة لقتل الوعي بما هو سيرورة لا تتوقف، وعملية تاريخية تعكس جدل الفكر والعالم، العالم بما هو كل متعلق بالإنسان وحياته ومصيره.
ولأن الوعي ليس مجرّد انعكاس للواقع كما ظن الدغمائيون، بل هو فاعل بوصفه معبراً عن إرادة الفاعلين، فإنه صانع للحياة ومدمر لها، صانع للحياة حين يكون الوعي وعيا بقيمة الإنسان وحريته، وقاتل حين يكون سالباً للحق، من حق الحياة إلى حق اللسان مروراً بحق الأمعاء.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.