حاولتُ أن أبيّن في المقالة السابقة كيف أن غياب الوطنية السورية لا يكمن، كما جرى القول عند أكثر الباحثين الكسالى، في فسيفساء المجتمع السوري وتنوع نسيجه، والذي لا يشبه إلا كثيرا ما هو قائم في جميع البلدان من دون استثناء، وإنما في الخيارات السياسية والاجتماعية والاستراتيجية للنخب التي احتلت مواقع السلطة، وفي نوعية المصالح التي بلورتها، والتحالفات التي ارتكزت عليها من أجل البقاء والاستمرار، وفي الأفكار أو الاعتقادات التي وجّهت ممارستها، بما في ذلك أسلوب توظيفها التعدّدية الثقافية والإثنية. هكذا كان إجهاض الوطنية السورية الشرط الضروري لصعود الأسدية، بوصفها سلطة مطلقة خارجية وقائمة فوق المجتمع وقاهرة له، تختلط فيها عناصر البونابرتية كما أشار بعضهم، أو السلطانية، أو الفاشية، أو القبلية أيضا. وجوهر هذه الاستراتيجية انتزاع ملكية الدولة من أصحابها والقضاء على استقلال المجتمع وكل ما يساعد على انسجامه وتفاعله وتواصل أفراده. ولا نحتاج لإدراك ذلك إلى أن نرجع بعيدا في تاريخ أجدادنا وثقافاتنا وأخلاقنا الأهلية، ولا إلى فحص ضمير طوائفنا وقومياتنا وقبائلنا. يكفي أن ننظر إلى ما شهده السوريون خلال نصف القرن الماضي، وما تأسّست عليه نظمهم وحياتهم الجماعية، وما شكّل وعيهم ووسم علاقاتهم فيما بينهم أفرادا وجماعات، وعلاقاتهم الفردية والجمعية مع الدولة أو السلطة السياسية، وأن نتأمل في طبيعة هذه الدولة ونوعية مؤسّساتها، والتحالفات التي اعتمدت عليها في بقائها، الداخلية والدولية، وإلى الثقافة التي نشرتها وعمّمتها، وسلوك رجالاتها من النخب السياسية والثقافية في تدبير الشؤون العمومية، والدور الذي أوكلته لأجهزتها العسكرية والأمنية في تنظيم الحياة الاجتماعية وضبط سلوك الأفراد وتقييد حقوقهم وحرياتهم الطبيعية.
1 – من السياسة الى دين عبادة الشخصيةولد نظام الأسد من انقلاب عسكري ختم سلسلة طويلة من الانقلابات التي حيّدت المجتمع، وقتلت أو شردت القسم الأكبر من نخبه الاجتماعية المثقفة والسياسية. وأقام سيطرته على تخليد حالة الطوارئ، أي تعليق الدستور، والحكم خارج نطاق القانون. ونظر إلى مسألة الحقوق والحريات الأساسية بأنها عقيدة البرجوازية التي تخفي إرادة إطاحة النظام التقدّمي، واستعادة السلطة من جديد، واحتكارها لنفسها. وكرّس الحزب الحاكم في الدستور الحزبَ القائد للدولة والمجتمع، وبالتالي، أصبح أعضاؤه هم المؤهلين الوحيدين لاحتلال مناصب المسؤولية، مجرّدا بذلك، دستوريا، الشعب بأكمله، ليس من الحقوق السياسية فحسب، ولكن أيضا من الحقوق المدنية التي تنصّ على المساواة وعدم التمييز بين الأفراد أمام الدولة والقانون. واستخدم الانشغال بالرد على المخاطر والمؤامرات الخارجية وضرورات تحرير الأرض ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، للتحلل من أي مسؤولية تجاه تحسين شروط حياة الناس المادية والثقافية، فلم تحتلّ التنمية الاقتصادية والاجتماعية ولا تأهيل الأجيال الجديدة، ولا تأمين فرص العمل، ولا العناية بالتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، ولا تشجيع المنتجين وتوفير شروط الارتقاء بأعمالهم وفتح مجالات التوسع في نشاطاتهم، أي نصيب من الاهتمام.للتعويض عن ذلك كله، اشتغل النظام على تأسيس ديانة عبادة الشخصية، مستفيدا من التأييد الشعبي الواسع الذي حصده الأسد عقب انقلابه على رفاقه في 1970، والذي أحيا الأمل بالفعل في وقته عند جمهور السوريين باحتمال الخروج من الحلقة المفرغة التي وضعه فيها حكم حزب (البعث) لم تكفّ أجنحته وتياراته عن الصراع والاقتتال فيما بينها، وترك أحوال البلاد نهبا للفوضى والفراغ السياسي وسوء الإدارة وانعدام المسؤولية. واستخدم استراتيجيو النظام التعظيم للأسد والنفخ في عبقريته وإنجازاته لإغلاق الباب أمام أي مناقشة أو حوار أو حديث في سورية ومستقبلها بعد أن صارت في عهدة عظيمها ومحرّرها. وأقاموا نظاما للأمن والمراقبة والملاحقة والانتقام يُحصي على السوريين أنفاسهم، ويتعقبهم حتى في غرف نومهم لينتزع من كل واحد منهم، بالتهديد والوعيد، ولاءه المعلن وطاعته الأبدية. أما الذين اعتقدوا، لسذاجتهم أو نبل محتدهم، أن العين يمكن أن تقاوم المخرز، ورفضوا الانصياع لحكم الأمر الواقع، فقد جعل منهم النظام أمثولة للآخرين، كما تروي ذلك بالتفاصيل المذكّرات والروايات والشهادات التي لا تُحصى، التي أخذت تنتشر منذ بداية هذا القرن، والتي تظهر أن أعمال القمع والترويع والتعذيب الجسدي والنفسي قد اتخذت منحىً إجراميا وإباديا منذ بداية ثورة آذار الشعبية (2011). هكذا جمع النظام بين تقنيات عبادة الشخصية التي برعت فيها النظم الشمولية السوفييتية والفاشية ووحشية العنف البدائي الذي تلهبه مشاعر الحقد والانتقام في حروب الوجود القبلية. لم يحصل ذلك بسبب تنوّع النسيج الوطني، ولا سيطرة العصبيات الأهلية، ولا جهل أصحاب السلطة بمبادئ السياسة الأولية. كان وراءه والدافع إليه مشروع سياسي لإقامة سلطة شخصية وإمارة سياسية لا تستقيم من دون تقويض الدولة، حتى بمعناها البسيط، أي كمؤسسة قانونية مستقلة عن الأشخاص الذين يمارسون السلطة فيها، وذات وظائف عمومية لا يمكن اختصارها في تحقيق رغبات السلطان أو تعظيم شأنه ونفوذه. لذلك، كان من الضروري أيضا محو تاريخ سورية الأسبق بأكمله، بأحداثه ورجالاته وأفكاره وثقافته ومفكريه وفنانيه، وإسدال الستار عليه، بحيث تتحول سورية إلى صفحة بيضاء جاهزة لكتابة تاريخ آخر، تتوافق سيرته وتتطابق مع سيرة المالك الجديد ومشاريعه وأهدافه وأحلامه معا. ولم يعد لكل ما سوف تقوم به أجهزة السلطة والإدارة من نشاطات، وما تتخذه من إجراءات، وما تبلوره من مبادرات، وتنتجه من أفكار ونظريات، غاية أخرى سوى تحقيق هذا الاندماج والتماهي بين الدولة ومالكها الجديد. هكذا أعيد خلق سورية شعبا ودولة، كما يحسُن أن تكون، فصارت سورية الأسد، حقيقة واقعة، من دون إذن ولا منية من أحد، أي إمارة شخصية، انتزعت بالقوة، وحصنا منيعا لساكنيها وخدمتها من كل الطوائف والطبقات.