الجيوبوليتيك الروسي والحالة السورية كعقدة دولية

[بقلم د. جمال الشوفي]

تذهب علوم الجيبوليتيكا بعمومها لدراسة الدول في محيطها الحيوي، أو  السياسي، عبر عدة مداخل منها: التاريخية، والإقليمية، والوظيفية، وعلوم الاجتماع والانسان الاجتماعي (الانتروبولجيا) بحيث تتضمن مجموعة كبيرة من المفاهيم تحدد شكل وجود الدولة السياسي وحدود علاقتها في محيطها الحيوي، وآليات تشكيل تحالفاتها والبحث عن توفير مواردها وأسواقها وكيفية تأمينها، وذلك بشكل يتجاوز حدودها الطبيعية التي تحدده مفاهيم الجغرافية السياسية ضمنها إلى حدودها السياسية المتوسعة أيضاً؛ وبالضرورة وضع خططها الاستراتيجية والدفاعية في هذا السياق.

عرف الجيوبوليتيك قبل قرن من اليوم ونما وتطور قبيل الحرب العالمية الثانية، حينما أرادت ألمانيا تعويض خسارتها في الحرب العالمية الأولى، فكانت ان تحالفت مع الإمبراطورية اليابانية وأشعلت فتيل حرب أتت على غالبية المدن الأوروبية واقتصاد العالم، حتى بات المصطلح مكروهاً ومنفراً.

اليوم وبعد مئة عام تعود القيصرية الروسية الباحثة عن موقع متقدم لها على خارطة النظام العالمي، تعود للجيوبوليتيك ذاته ومن خلال البوابة السورية، تنشأ الاتفاقات السياسية والمنفعية في منطقة، وتفرض شروط هيمنتها العسكرية والبطشية في أخرى، وتعود بالذاكرة لما يشبه مجريات القرن العشرين في بداياته.

كان من الممكن لما يسمى بالنظرية السياسية الرابعة، للكاتب الروسي ألكسندر دوغين منظر النزعة الجيوبوليتيكية الروسية، أن تبقى محظ نظرية سياسية في اعادة تكون الامبراطورية الروسية تخص تطور دولة ومجتمع بذاته في مواجهة النظام العالمي بقطبيتة الأمريكية الوحيدة من منظار العولمة. لكنها حين وضعت في مسارات التطبيق والتنفيذ برهنت على تناقضاتها بمضمون حيثياتها الأنثروبولوجية والتاريخية والجغرافية، فحيث كان يرتقب العالم امكانية التحرر من رقبة السوق المالية العالمية وأدوات تحكمها وسيطرتها على مكونات ووحدات العالم، أتت النظرية الروسية الجيوبولتيكية في مسار معاد تماماً لمقومات وجودها النظري أساساً، خاصة في مواجهة مد ثورات الربيع العربي خاصة في سوريا.

وحيث لا يمكن لقراءة المشهد العالمي اليوم أن تكون فكرية نظرية وفقط، إذ لا يمكن التعامل مع كتاب نهاية التاريخ لفوكوياما مثلاً على أنه كتاب نظري وفقط، بقدر تجلياته وآثاره السياسية خاصة الدولية منها وانعكاساتها على واقع الدول الصغرى، بالمثل أيضاً لا يمكن الوقوف على مدخلات الجيوبولوتيكا الروسية نظرياً وفكرياً، بل تتعادها لمحطات المرحلة السياسية العالمية اليوم وتعقيدات مشهدها خاصة في موضوعة المسألة السورية.

اليوم لم تزل المسألة السورية كنقطة ارتكاز رئيسية لاكتمال الدائرة التطبيقية للجيوبولتيكا الروسية، بينما تراوح مسارات العولمة في تذبذب وتردد منها، واضعة شرطان في الأفق المنظور: عدم السماح لروسيا بتثبيت وجودها العالمي المنفرد كقطب جديد، وإن لم يكن بالإمكان ذلك إلا بخوض حرب عالمية ثالثة، وهذا مستبعد كلياً، فهو تقييدها في المسألة السورية وعدم السماح لها بتثبيت حلولها السياسية بشكل دولي وأممي حتى وإن ثبتت حلولها العسكرية بالانتصار على السوريين. الشرط الثاني إعادة ترتيب أقواس التحالفات الدولية وفرض شروط التحكم والسيطرة الاقتصادية والمالية في دوائر توسع الوجود الروسي.

سوريا، والثورة السورية هي نقطة الالتقاء، بل خط التماس بين الدائرتين، ومقومات شعبها وتاريخه في محك تجريبي كبير أمام نفسها، وفي موازاة نظريات الهيمنة الكبرى، ويبدو هذا ليس قولاً نظريا وفقط بل مفصل تاريخي يستلزم الوقوف عنده. وأية مقاربة في الحلول السياسية الممكنة للمسألة السورية، لا تأخذ بعين الاعتبار مسارات وأدوات العمل الروسية الجيوبوليتيكية هذه في مقابل وموازاة مسار العولمة العام فإنه لن يقدم للمسألة السورية خطوة فيها، ما يتوجب على الفكر السياسي أن يقارب رؤيته حولها وفق شرطي: الثورة السورية لم تعد سورية وفقط بل مفصل عالمي كبير وتنازع سياسي قد يتطور لعسكري، والثاني مفاده الخروج من دوائر العطالة السياسية الذاتية والاحلام والاوهام لفضاءات الاحتمالات الممكنة وكيفية توقعن احداها خلاف غيرها، وبالضرورة كيفية العمل وفق شروط وموازين القوة السياسية الفاعلة في المشهد السوري، وهذا عمل مختلف عن التكتلات الضيقة الرافضة للتشارك والتفاعل مع مجريات الحدث السوري وكأنه لازال في سنونه الأولى، حين كان ممكناً فقط ان تكون المسألة السورية محطة محلية ثورية وحسب، أما اليوم، فالمشهد مختلف كلية، والمعادلات الجيوبولتيكية تفرض ذاتها بقوة بين خطين: لا حل سياسي بلا إعادة اعمار، هكذا تقول روسيا، ولا إعادة اعمار بلا حل سياسي، وهذا ما تقوله الأمم المتحدة في الطرف الآخر، وبين هذه وتلك تبدو مساحة العمل محفوفة بالمخاطر كما إمكانية تجميد الملف السوري لأجل ما وهذا هو المشهد لليوم منذ العام 2018 لليوم….

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.